الأحد، 26 أبريل 2009

الميتافور الدلالي في اللغة الإبداعية

اللغة -أي لغة- بحر واسع من المصطلحات والمعاني والدلالات القريبة والبعيدة إن اختراع الإنسان للغة كان بدافع الحوجة للتعبير عن المدركات والمشعورات. وعلى هذا فإن قولنا بأن لغة أفضل من أخرى هو قول غير صحيح على الإطلاق؛ إذ أن كلّ لغة تولد معتمدة على احتياجات الناطقين بها في كل المجالات. وتطور اللغة بعيداً عن محور هذه الحوجة هو أمر طبيعي في نظري؛ فالطفل يحتاج إلى المشي كي يستطيع الوصول إلى الأشياء التي تشده، أو تغريه مجاراة الأطفال من حوله ليشاركهم في اللعب، فتبدأ الرغبة في محاولات تكوّن «الحركة» ابتداءً من الرفس إلى الزحف إلى الحبو إلى التهادي ثم المشي ثم الجري. والجري لم يكن في حد ذاته حوجة؛ إنما هو ترف حركي أو سلوكي للقادرين عليها، أو بالأصح لمن تجاوزوا المراحل السابقة، وهذا الترف ينشأ عن ميزة الإنسان في الاكتشاف والتجديد الدائب والمستمر؛ إنها الصيرورة التي ترهقنا دون توقف. والجري يغري بالقفز والتفنن في أداء بعض الحركات التي تشترط القدرة على أداء مهارات أساسية محددة مثل الوقوف والتوازن وغيرها.

وهكذا اللغة। بدأت بحوجة محاكاة أصوات الحيوانات والطيور والكائنات التي كان الإنسان الأول يشاهدها فيما حوله، ثم تطور الأمر إلى رغبة في التعبير، ثم رغبة ملحة في خلق التميز والتفرد، كما تتفرد كل الكائنات بأصوات متباينة ومتفاوتة ما بين الحدة والخشونة. والبحث عن «التميّز» هو ما يفسر لنا سعي الإنسان الدائم لخلق أدوات جديدة تأخذ فكرتها من الطبيعة، ويصبغ عليها الإنسان لمساته الخاصة؛ تماماً كفكرة استخدام الحربة كبديل عن النياب والمخالب لدى الحيوانات، والانتقال من الأكل الأرضي إلى الأكل في أوعية ، وفكرة تسخين اللحوم النية بعد اكتشاف النار والتي تعتبر ثورة ونقلة نوعية في حياة الإنسان عبر تاريخه والذي شهد ثورات ونقلات نوعية كبرى على مر العصور والأزمان كاكتشاف الزراعة.

عندما تمكن الإنسان من تكوين أول جملة صوتية مستفيداً من جهازه الصوتي الذي لم يكن مستغلاً من قبل -أو ربما تطور هو الآخر بتطور الإنسان والبيئة المحيطة به؛ ومن نافلة القول أن الجهاز الصوتي للإنسان متطور أكثر من غيره من الكائنات الحيّة- نجد أنه بدأ في تركيب بعض الأصوات والترميز لها بما حوله، وهكذا حتى نشأت اللغة ثم تطورت حتى أصبحت لغات ولهجات وألسن؛ إذن فهي حركة تغيير وتطور مستمرة.

الوصول إلى نقطة الغرور المعرفي «الجري» هو ما يغري بالمزيد من الأداء، فإذا كانت اللغة سواءً المكتوبة أو المسموعة نتجت بدافع الحوجة عن التعبير، فلماذا جاء الترميز؟ عن أي شيء يبحث الإنسان من خلال اللغة المشفرة؟ وما هي دلالات هذا التشفير أو الاقتباس البيئي؟

في رأيي أن النزوع إلى الترميز أو تشفير المعاني واستحداث مفردات جديدة في أي لغة ينشأ عند وجود معضلة ثقافية محددة هي ما تجعلنا نشعر بأن اللغة المستخدمة لا تستطيع خدمة المعاني بشكلها المطلوب تماماً، ورغم محاولات اللغويين إلا أن قطاعاً كبيراً جداً من المُحدثين ينزعون دائماً إلى استخدام غريب اللغة، وهذا التفسير -رغم سطحيته- إلا أن له دلالات كبيرة وهي واسعة الانتشار لدرجة ألا سبيل لحصرها.

وعلى عكس ذلك فإنني أفسر ظاهرة «التقهقر اللغوي» إلى عدم قدرة اللغة المستخدمة على إشباع غريزة تحديد المعنى من جهة، وإشباع ملكات الكاتب الذاتية من جهة أخرى، وهذا يفسر تلك الظاهرة التي دعت بعض الشعراء –مثلاً- إلى اختيار غريب اللغة أوالمدروس منها، ربما لأن اللغة هي «رختر» الحركة الاجتماعية والثقافة المتكونة من وعي الإنسان مرتبطاً ببيئته، أو ربما هي نزعة نحو الإنفرادية والتميز الذي يجعل الكاتب يستعرض قاموسه اللغوي كنوع من التعويض عن ملكات مفقودة له. وأنا هنا إنما أتكلم عن عصر نزع فيه غالبية الكُتاب إلى المجاراة، أي متابعة نمط الكتابة؛ إضافة إلى أن المفردة اللغوية ذات الدلالات المتعددة تساعد في الاستفادة من ملكة الخيال، لاسيما في أغراض التشبيه والصيغ البلاغية، إذ أن الحس التخيلي مرهون باللغة وبحيويتها.

وفي رأيي أن كل لغة «كائن حي» لا يعيش إلا في أوساطه التي نشأ فيها، ولا أعتبر عملية تطور اللغة إلا استكمالاً لدورة حياة هذا الكائن الحي، يمر خلالها بأطوار نحو الكمال ثم الانحطاط بعد ذلك؛ تماماً كما في بقية الكائنات الحية التي تصل في طور من أطوارها إلى قمة الاكتمال والنمو، ثم تبدأ بالانحدار إلى القاع وهو ما أسميه بشيخوخة اللغة، أي عندما تكون اللغة عاجزة عن القيام بوظيفتها الحيوية في التعبير عن المتخيّل والمستشعر والملموس.

كما يمكن أن نطلق عبارة «شيخوخة اللغة» على اللغة عندما تصبح عاجزة عن تطوير نفسها لمواكبة متطلبات المجتمع اللغوية، والمرتبطة هي الأخرى بنشاط البشر الاقتصادي والسياسي والثقافي والصناعي وأي نشاط بشري آخر؛ فكما أن الإنسان يطور أدواته في دورته التطورية التاريخية فلابد للغة أن تساير هذا التطور، هذا إن لم تكن اللغة قادرة على السبق أصلاً.

كما أن القهر السياسي أحد أهم العوامل التي ساعدت على تكوين التيار الرمزي والقهر السياسي الذي عرفه الإنسان على مختلف أطواره ومراحله التاريخية أثر -ليس فقط على اللغة وحسب- إنما على مستواه السلوكي أيضاً، وامتد حتى شمل رقعة واسعة من نشاطاته الاجتماعية والاقتصادية والنشاطات الحيوية الأخرى؛ فالرمز المستخدم في الصراع ضد السلطة، وذلك الآخر المستخدم في التعبير عن أحلام قطاعات المستهلكين والمنتجين للغة كان النواة الأولى التي خلق هذا التيار الذي تطور أيضاً تقادمياً في الوسط المتخيل ليشمل جميع أنواع الفنون الأخرى؛ فالسريالية والتجريدية والتكعيبية هي إنما عدوى هذا الوباء السياسي، ربما أضيفت إليه بعض العوامل الأخرى التي لا تكاد تنفصل عنها والكامنة في رغبة الإنسان -كما قلت- إلى التغيير والتطوير والتميز والإبداع بلا شك.

للغة الإبداعية مستودعها الذي تُخزن فيه ما تشاء من سقط المعاني المبهمة، وهذا المستودع ما هو إلا وعينا الذي يرفض التصريح ويميل إلى الرمز على اعتباره بوابات للهروب من النقد والمسائلة، ولا أريد أن أقول أن الرمز القائم على الخيال هو أمر سيئ على الإطلاق، بل هو أفضل ما يكون –في إطار الكتابة الإبداعية- إن تم توظيفه في إطار أدبي وفني؛ على ألا تستهدف النخب فقط، فالتعاطي مع اللغة لا يمكن أبداً أن يتم من خلال مفهوم طبقي أبداً؛ إنما اللغة يجب أن تتحد مع الخيال، وتصاغ في رمز جيد حتى تحسن من مستوى فهمنا وقراءتنا للنصوص والأعمال الفنية؛ وإلا فليترك الناس الشعر والفن، ويلتفتوا إلى خطب المنابر وأحاديث المجالس.

الاثنين، 20 أبريل 2009

اليوتوبيا في الخطاب السياسي

عندما اعتلت حكومة ما يسمى بالجبهة الإسلامية الحكم قبل عشرين عاماً سارعت برفع شعارات إصلاحية مسبقة الصنع لتخفيف ردود فعل الشارع السوداني إبان الانقلاب الذي كان يمثل المرآة السحرية التي تعكس وجه الحكومة القبيح. ولأن التحدي الحقيقي أمام الحكومات هو قدرتها على تحقيق الوعود ما يجعلها في محك حقيقي أمام شعوبها للتدليل على مصداقيتها من عدمه، فإن حكومة ما يسمى بالإنقاذ عجزت حتى بعد كل هذه السنوات على تحقيق المعادلة مستحيلة الحل على أرض الواقع ، ليسقط بذلك قناعها الذي ظلت مصرّة على ارتدائه. وفي الحقيقة فإن قيام حكومة مثل هذه الحكومة لخطأ تاريخي سيظل عالقاً في عقول الجماهير ويظل يذكرهم بأن لا مخرج لهذا الشعب إلا الديمقراطية والتي بدورها تستحيل في ظِل حكومة قامت في الأساس بطريقة غير ديمقراطية.

الهراء الذي تعنيه مؤسسية الحكومة بجميع أنوعها وأشكالها السرطانية يوضح بجلاء عجز هذه الحكومة على البقاء بغير شرطية السلاح والذي هو الفرس التي تراهن عليه في كل مرحلة. والسلاح كأداة من أدوات القمع في حدّ ذاته يهدم خرافة الديمقراطية التي تنادي بها الحكومة التي تتنفس برئة واحدة.

ولنقف على اليوتوبيا Utopia التي تستخدمها الحكومة في خطابها السياسي، علينا أن نقدّم كشف حساب تفصيلي يتضمن (خطرفات) المراهقة السياسية التي مارستها ما تسمى بحكومة الإنقاذ ابتداءاً باسمها (الإنقاذ) وحتى آخر الشعارات حداثة.

شعار : فلنأكل مما نزرع ولنلبس مما نصنع:
شعار رفعته الحكومة المسماة –اعتباطاً- بحكومة الإنقاذ، حاولت به التلميح لمرحلة الاعتمادية والاكتفاء الذاتي عن المعونات الدولية وبالطبع فقد رافق هذا الشعار مجموعة من الشعارات العدائية للقوى العالمية متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية ودولة إسرائيل –وسوف آتي على ذكر هذه الشعارات أيضاً– هذا الشعار الذي يهدف إلى تفعيل الكوادر الوطنية لاستغلال الثروات القومية حاولت به الحكومة إيهام الشارع السوداني ضاربةً بذلك على الوتر الحسّاس في محاولة لتمرير ودعم مشروعها الحضاري الذي تبنّته منذ انطلاق الرصاصة الأولى والمسمار الأول في نعش الديمقراطية ألا وهو تطبيق الشريعة الإسلامية.

وبعد هذه السنوات التي مضت على اعتلاء الحكومة سدة الحكم في السودان، فإننا نجد أن الوضع الاقتصادي لا يسير إلا من سيئ إلى أسوأ. وإن خيرات البلاد توزّع في الخفاء مقاسمةً بين رجالات الحكم وأرزقيته من قوت الشعب المغلوب على أمره. ويظل الوضع الاقتصادي الأعرج يسير بعرجته من سيئٍ إلى أسوأ. فدخل الفرد لا يكاد يسد الرمق وبدأ سودانيو الداخل في الاعتماد شبه الكلي على ما يصلهم من مساعدات من ذويهم في الخارج. وآخرون آثروا أن يسايروا التيار وأن يقتاتوا من الفتات الذي يلقي به النظام في طريقهم. وبهذا طفت على السطح الطبقية الواضحة: الرأسمالية ويمثلها أرباب النظام وسدنته، والبرجوازية الانتهازية ويمثله التجّار وأرزقية النظام والمغفلين النافعين وفئة أخرى تقبع تحت خط الفقر. وهنا أقف على ما قاله الشاعر الصادق الرضي :

لماذا لم تقل
أنّ العمارات استطالت
أفرخت أطفالها الجوعى
على وسخ الرصيف

ولا يخفى على الجميع فضائح المشاريع الزراعية الكبرى في السودان من سرقات وأتاوات فرضتها الحكومة على المزارعين المغلوب على أمرهم في شكل التسهيلات المزيفة التي ادعى بتحمل أعبائها بنك المزارع وما كانت إلا نهجاً واضحاً من الحكومة في إغراق المزارعين بالديون وبالتالي سرقة إنتاجهم من محاصيل زراعية تارة باسم الضرائب، وتارة تحت بند سداد القروض المؤجلة، وتارة بحجة دعم المجهود الحربي، ليخرج المزارع بعد حولٍ كامل من الجد والتعب بلا حول ولا قوة؛ كما لا ننس المشاريع التي قامت لخدمة مصالح حكومية على حساب قوت الشعب تجعل من تلك الشعارات الزائفة محض خِرق بالية غير قابلة للتصديق.

وإذا عرفنا أنّ السوق السودانية ما زالت تعتمد على الاستيراد لسد حاجة المواطنين إما عن طريق ضخها بهذه السلع عبر تجارة الشنطة أو التهريب عبر الحدود، وإذا عرفنا أنّ مؤشرات العرض في ارتفاع دائم عن معدّل الطلب الذي بدأ في التناقص بصورة مطردة لعجز القدرة الشرائية لدى المواطنين، عندها سيتولّد لدينا سؤال كبير: "أين تذهب موارد الدولة المالية؟" عائداتها من النفط ومن سياسة الترشيد التي تتبعها مع المواطنين حتى فيما لا يصلح الترشيد فيه؟

وإذا عرفنا أن سياسة الحكومة الاقتصادية فشلت –حتى بعد كل هذه السنوات– في رفع قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية الأخرى، أفلا يدل ذلك على أحد أمرين: إما أن المشاريع والخطط التي رفعت الحكومة شعاراتها منذ أول خطاب سياسي فشلت كلها في إنعاش الاقتصاد السوداني، وإما أن هنالك سرقات واسعة النطاق تتم على حساب رفاهية المواطنين وحقهم في مشاركة النظام الحاكم هذه الثروات مما يدل بدوره أن الحكومة تقتسم أو فلنقل تنهب خيرات البلاد وتوزعها فيما بينها دون أن تترك للشعب حتى الفتات.

شعار: خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود:
إن الحقيقة التي تبدو لنا واضحة وجلية هو أن المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية ما كان إلا جداراً اختبأ ورائه مصاصو الدماء البشرية في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ السياسية السودانية ألا وهي تسيس الدين، وشرعنة الاستلاب الثقافي، واستخدام الدين سلاحاً، وليت السلاح رفع في وجه من يستحقون المحاربة، بل الغريب والمضحك أن سلاح الدين لم يرفع إلاّ في وجه الشعب المتديّن بفطرته على اختلاف طوائفهم وتباينهم الإثني والعرقي. وكما يقول شاعرنا محمد الحسن سالم حُمّيد:

العندو دين
ما بسرق البلد العبدو موحدين

وليس بغريب على حكومة ظلّت تعمل في الخفاء، وتخطط لمدة سبعة عشر عاماً قبل نجاحها في الاستيلاء على الحكم. بدءاً بعمليات الوسوسة التي مارستها ذات الشلّة المراهقة سياسياً على آذان حكومة مايو بغرض التخلّص من الند والخصم المتوقع للمرحلة القادمة الحزب الشيوعي السوداني، وحملة الاعتقالات والتصفية الجسدية التي تمت على رموز الحزب تمهيداً لفرش حصيرة تطبيق الشريعة في عهد حكومة مايو ومن ثم الانقلاب عليها للقيام على ذات الأرضية الهشّة. والمتتبع لمسلسل السخافات التي مثلتها الحكومة يجد التباين الواضح بين ما تدعو إليه وبين التطبيق.

إنّ الربط الطبيعي بين الوضع الاقتصادي المتردي وبالتالي اليأس من الواقعية، وبين يوتوبيا الخطاب الديني المسيّس؛ وبالتالي الأمل الكامن في الغيبية أدى بالضرورة إلى بروز ظاهرة الهوس الديني والذي لم يكن معروفاً لدى شعب يمارس الوحدانية بكل تلقائية. فوجدنا الكلام حول الحور العين وعرس الشهيد وخطرفات روائح الجنّة ورؤى النبي في المنام ونزول الملائكة التي لم نعدها تتنزّل إلاّ ليلة القدر!! كل ذلك يجعلنا نفكّر كثيراً قبل أن نقول بمصداقية الشعارات التي ترفعها الحكومة.

إن وهم المشروع الحضاري الذي تتبنى فشله حكومة الإنقاذ يكاد يفقأ عيني الحقيقة بإصبع واحد. وليس ثمة مجال للمطابقة بين فرضيات قيام مشروع الدولة السودانية الحالي وبين نموذج الدولة الإسلامية في عهد صدر الإسلام. لأن لكل نموذج ظرفه الموضوعي الذي أدى إلى ظهوره. فأنا هنا لا أناقش الظروف التي أدت إلى ظهور كلٍ من المشروعين إنما أناقش النتائج المترتبة على هذا المشروع. وإذا كانت سياسية الدولة الإسلامية في عهد صدر الإسلام وسياسة حكومة الإنقاذ تشتركان في أن كلٍ منهما انتهج ذات النهج الذي يعني بالضرورة تهميش فئات محددة من الشعب إما عن طريق السلاح والعنف السياسي المباشر، أو عن طريق ممارسة التعالي والفوقية وجعل هذه الأقليات فئات من الدرجة الأدنى في نموذج الدولة. وهذا تحديداً ضد الديمقراطية التي تعني ليس فقط الاعتراف بالأقليات؛ بل وتمكينها من ممارسة حقها الطبيعي في المعارضة والممارسة السياسية دون خوف ودون قمع.

إنّ نموذج الدولة الإسلامية وغيرها العديد من النماذج التي تعني حكرية الرأي السياسي وإقصاء الرأي الآخر مما يعني لا ديمقراطية الدولة الإسلامية يشابه إلى حدّ بعيد سياسة حكومة الإنقاذ القائم أساساً على ذات الأسس والمنهاج. وفي كلا الحالتين فإن القاسم المشترك واحد وهو: صراع المصالح العليا.

وإنني لأجد في شعار (جيش محمد) الذي رفعت حكومة الإنقاذ دلالة واضحة على السير على نهج ذلك الخط حذو القذّة بالقذّة. مما لا يبشّر بمستقبل واعد لتلك الأقليات؛ طالما أنها ستظل محاصرة بإطار مشروع الدولة الدينية. إن المخرج الوحيد من هذه الورطة هو إلغاء فكرة المشروع الديني كسياسة وفتح الباب واسعاً لممارسة واعية من جميع شرائح المجتمع على اختلاف مرجعياتهم الدينية والعرقية للحد من ظاهرة تغوّل ممارسة الأغلبية على حقوق الأقليات. وإتاحة الفرصة للجميع بالمشاركة السلطوية نبذاً للتهميش والتغييب الذي ليس سمة من سمات الديمقراطية.

شعار الطاغية الأمريكان ليكم تسلحنا:
استمراراً للخرف السياسي فقد أقامت حكومة الإنقاذ معسكرات ما يسمى بالدفاع الشعبي. وكان الغرض من هذا الشعار -وغيره من الشعارات الجهادية- تدعيم هذا الخط، مخفية بذلك الغرض الأساسي من إقامة هذه المعسكرات والمجاهرة به عبر وسائلها الإعلامية، وإلزام الشعب على التعاطي مع المسلك العسكري للحكومة الهمجية. وهذا المنحى الخطير الذي أخفته وراءه مشروع تسليح الشعب، ساهم لاحقاً في ظهور المليشيات والجماعات المسلحة تمهيداً لزرع فتنة كبرى هو ما نعيش في ظله الآن في دارفور وفي شرق السودان، وبذلك فقد عملت الحكومة على وضع زيت التسليح قرب نار العرقية؛ بل وأشعلت الشرارة. مطبّقة بذلك المثل الشعبي السائد "خربها وقعد على تلّها".

هذا إضافة إلى محاولتها تغطية دعمها المادي والمعنوي للمؤسسات والمنظمات الإرهابية الأجنبية. وفتح أراضيها ومعسكراتها لتدريباتها المشبوهة. وتظل الحكومة داعمة لهذا الخط لتضيف إلى رصيدها الدموي نقطة حمراء أخرى. وعندها يصبح من البديهي أن نخمّن الآيدولوجيا التي تنطلق منها هذه الشرذمة الحاكمة. ومن السهل ملاحظة الترابط الوثيق بين هذه الشعارات وبين الخط العام الذي تنتهجه حكومة الإنقاذ في سياستها الداخلية وحتى الخارجية. إنها حكومة قامت بالسلاح وراهنت به على بقائها مستفيدة من كل ما يتاح لها من إمكانيات تحصّلت عليه عن طريق نهب الثروة والموارد الطبيعية للدولة وعبر وسائل الإعلام الذي كان لعبتها القذرة حتى قبل أن تعتلي عرش السلطة الرخو.

وإذا عرفنا أن حكومة الدم هذه تقوم على عنصرين فقط لا غير (السلاح – الإعلام) ومستخدمة أسلوب التخدير عن طريق يوتوبيا خطابها السياسي المتهالك؛ نعرف عندها أنه لا حيلة لنا في مقاومتها إلا عن طريق أحد العنصرين: إما السلاح أو الإعلام المضاد؛ وهذه الأخيرة لا تتأتى إلا عندما تتاح لنا ممارسة ديمقراطية معافى يسمح فيها للمعارضة استخدام وسائلها في النضال ضد الحكومة، وطالما أننا لا نتمتع بالحرية الديمقراطية؛ عندها لن نجد بداً من نحمل السلاح.

فهذه الشعارات التي تطلقها الحكومة وتغلف بها مشروعها الدموي وحيد الخلية ليست إلا مجرّد قشرة هشّة لا يمكننا أن نراهن على مجابهته بيوتوبيا مضادة متفائلين بحتمية جدوى التكريس لمفهوم الحريات والديمقراطية والحلول الدبلوماسية السلمية وأدب التفاوض. ولا يمكن أن نفترض أنفسنا خيول مروّضة تؤمن بحتمية انتصار الحق والقيم. لا مجال هنا للمثاليات التي تعني هدر الحقوق والمكتسبات. هنا فقط منطقة القوة والحق الذي لا يرد إلا كما سُلب. وكما يقول الشاعر محمد الحسم سالم حُمّيد:

حقاً تحرسو ولا بجي
حقك تقاوي وتقلعو

الأحد، 19 أبريل 2009

جدلية المرأة والرجل (تاريخ العبودية)

أنوي أن أتكلم عن مسألة العقلية الأنثوية المتطرفة بقدر ما يهمني أن أسحب هذه التجربة على تجربة الرق والعبودية اللونية التي عرفت منذ القدم إبان الثورة الصناعية في أوروبا من أجل أن أصل معكم إلى حقيقة واحدة هي: أن قضية المرأة تستند في مجملها على عقدة نسائية متأصلة لا يمكن تجاوزها إلى علات أخرى مجتمعية أو ذكورية إلا في بعض القضايا الحصرية.

فمسألة الرق قامت على مبدأ عنصرية لونية ترى أن الأبيض أعلى وأرقى من الأسود وهنا أرجو من الأخوة القراء والمتابعين أن يلتزموا بأمرين غاية في الأهمية عند متابعة هذا البوست حتى نتفادى المواجهات التي تنجم عن عدم فهم لمغزى البوست ، ربما بسبب الدفاعية غير المتعقلة، أو ربما بسبب عجزي عن توصيل الفكرة كما يجب:

أولاً : المحاولة القصوى في الالتزام بالحياد لأنني أعتبر نفسي محايداً عند طرح هذه القضية بشكلها التاريخي غير المنهجي ، إذ لم أعتمد فيها على مراجع تاريخية موثقة بأرقام وتواريخ وحقائق تاريخية مباشرة بقدر ما اعتمد فيها على مخزوني المعرفي وعلى مشاهداتي للواقع التاريخي للقضيتين (المرأة) و (الرق).

ثانياً : سحب تفاصيل قضية الرق كلياً على قضية المرأة للوصول إلى التطابق الذي أريد أن أصل إليه في هذا البوست، ومن ثم التوصل إلى النقطة الفاصلة التي هي محور القضية التي أتناولها.

فأقول، إن مسألة الرق والعبودية عندما بدأت كان السبب فيها ناجماً عن عقدة عرقية تعتقد أن اللون الأبيض هو السيد وأن اللون الأسود لا يعدو إلا أن يكون عبداً يستفاد منه كيد عاملة نشأت على إثر الثورة الصناعية. ولا يستطيع أحد القول بأن مسألة الرق كانت مبررة بل أنها ذهبت إلى أبعد من مسألة تشغيل السود كعمال في المناجم وغيره إلى امتهان وإلغاء إنسانية الإنسان الأسود وإباحة دمه والنظرة الفوقية التي كانت متمثلة في شكل المعاملة بين طبقة البيض والسود.

ليس ذلك فحسب بل ظهرت بعد ذلك في شكل تجارة لها رواجها الكبير استفاد منها البيض وبعض السود الذين تآمروا على بني جلدتهم وساعدوا تلك الدول الصناعية في نقل العديد من السود وبيعهم لهم، وهذه التفرقة العنصرية خلّفت – بلا شك – عقدة كبيرة جداً عملت بدورها في اتساع الهوة بين أصحاب اللونين. ورغم أن فوقية البيض لم تكن موجه فقط للسود بل إلى جميع الألوان الأخرى وإنما تركزت تحديداً على السود على اعتبار أنهم الأقل حضاً من الناحية الثقافية والاقتصادية. وربما عانى بعض السود على إثر ذلك من عقدة اللون.

وإذا قمنا بسحب هذه الجزئية على قضية المرأة. نجد أن المرأة منذ القديم كانت تعاني من قهر وتمييز قائم على أساس الجنس وهو نفس القهر الذي قابل به البيض أقرانهم السود. وكما أن العنصرية بين البيض والسود لم تقف عند حد التمييز والعنصرية فقط بل تجاوزها إلى القهر والاضطهاد كذلك نجد أن المرأة كانت مقهورة في محاربتها جنسياً ويظهر ذلك في شكل تمييزها من الرجل على الأساس الجنسي وسلبها الأهلية والقدرة على ممارسة ما يقوم به الرجل.

ليس ذلك فحسب بل تضمن القهر اتخاذه شكلاً من أشكال العنف المعنوي والحسي الذي مورس عليها طيلة هذه المدة مما كرس لشعورها بالدونية والضعف وحصر وجودها لخدمة الرجل ومن أجل إمتاعه فقط كما أن تصوير المرأة على أنها أداة لتفريغ الشهوة الحيوانية هو نوع من أنواع الممارسات السلبية التي تمت ممارستها على المرأة وكما أننا نجد أن بعض السود يعانون من عقدة اللون فإننا نجد بعض النساء يعانين من عقدة الجنسية أو الذكورة فهي تمثل لهم عقدة حقيقية لم يستطيعوا تجاوزها بسهولة فيظهر ذلك في رفض كل ما هو ذكوري أو متعلق بالذكورية ومحاولات تقبيحها وبالمقابل تمجيد الهوية الأنثوية على اعتبار أنها مصنع الرجال وأم الأجيال وما إلى ذلك من الأوصاف التي يحاول بعض النساء بها التعويض عن عقدة نشأت في الأصل بدافع القهر الذي مورس عليها من قبل الرجل. تماماً كتلك الأوصاف التي بدأ السود نسبها إلى أنفسهم في محاولة للتخلص من عقدة النقص التي نشأت عن العنصرية اللونية كمثل قولهم: "السمار نص الجمال" و "السود أكثر فحولة من البيض" و "السود أكثر خصوبة من البيض" ونسب القوة إليهم أكثر من غيرهم ...إلخ كالنزعة إلى الحامية ضد السامية وغير ذلك من المقولات التي لا تبرير لها غير أنها ناشئة من عقدة نشأت في الأصل من العنصرية، وهذه العقدة عقدة اللون وعقدة الذكورة على الرغم من أنهما عقد غير محمودة إلا أن لها تبريراتها الموضوعية التي ساعدت على تولدها.

وبالعودة إلى موضوع العنصرية اللونية ، فنجد أن السود كانت لهم نضالات قوية جداً في سبيل التحرر من هذه العبودية للبيض ولاسترداد حقوقهم، كما نجد مناصفة بعض البيض لقضيتهم والدعوة بتحريرهم من قيود العبودية والتمييز والعنصرية والتاريخ حافل بالعديد من المناضلين سواء من السود أنفسهم - على اعتبارهم المستفيد الأول من هذه النضالات - أو من البيض على حد سواء.

ولا أفهم لوقوف بعض البيض ومناصرتهم لقضية العنصرية اللونية إلا أنهم أناس يفهمون معنى الإنسانية والحرية البشرية التي تقوم في أصلها على مساواة البشر سود/بيض دون التفريق من الناحية الأهلية لأي منهما. فلا يعقل أن تكون العنصرية مبرراً للقول بأن السود أكثر ذكاءً أو أكثر فحولة أو أكثر خصوبة من البيض، كما أنه لا يعقل أن ننعت البيض بتلك الصفات بشكل حصري. إذ أننا نجد الأبيض الغبي والأبيض الفحل والبيضاء الخصبة والعكس بالعكس. فمعايير الذكاء البشري والتفكير العقلي والأهلية ليست مقترنة باللون والعرق أبداً.

وإذا سحبنا هذه النقطة على قضية المرأة نجد أن الحركة النسوية التي بدأت في الانتفاضة على وضعها المزري قد قامت في مجملها من أجل تحرير المرأة من عبوديتها للرجل ورفع الظلم عنها على اعتبار أنها إنسانة كاملة الأهلية بدون الرجل. ووجدت هذه الحركات التي تدعو إلى تحرير المرأة وإلغاء التمييز ضدها قبولاً ومناصرة حتى بين صفوف الرجال ، بل أن أول من دعا بتحرير المرأة المسلمة على وجه الخصوص والمرأة العربية بشكل عام هو رجل (قاسم أمين)، ومن ثم بدأت المجتمعات تفتح عينها على حقيقة كانت واضحة وجلية منذ البداية ولكن العنصرية الرجولية التي كانت تمارس بحكم العادة أو التعوّد هي من كانت تضع هذه الغشاوة على العيون. ومثلما قوبلت حركات مناهضة العنصرية اللونية بالرفض العنيف في بداياتها كذلك نجد أن البعض رفض مسألة تحرر المرأة وتفاوت الرجال في المجتمعات في هذا الرفض، فالبعض رأى بأن لها الحق في التعليم ، ولكنها لا يجب أن تعمل. والبعض رأى أنها يجب أن تعمل ، ولكن يحصر نطاق عملها في مجالات محددة ... وهكذا.

وهذا في رأيي أمر طبيعي حيث أن مسألة ثورية التغيير لا بد أن تقابل بالتصادم والرفض في البداية. كما أن التغيير الثوري في أي مجتمع لا يأتي فجأة ولا يفرد سيطرته بشكل مفاجئ وفوري، فكما نعرف فإن التغييرات المجتمعية تحدث بصورة بطيئة قد لا تكون ملاحظة في أغلب الأحيان ولكن يتم اكتشافاها بالتاريخ السابق لها. وكما كان هنالك زنجي يطالب برفع الظلم عنه لمجرد أنه يريد فقط أن يحس بإنسانيته وبألا يفرق في المعاملة على أساس لونه ، كذلك نجد امرأة تطالب بحقها في أن تكون إنسانة كاملة العقلية والأهلية وألا يفرق في معاملتها على أساس جنسي.

وبعد هذه النضالات التي قادها الزنوج ومناصروهم ضد العنصرية اللونية ، والضغط الذي مارسته هذه الحركات في شكل تصعيد قضيتهم على المستوى الدولي نجد أن كل هذه العوامل هي من فرضت واقع إنشاء بعض المنظمات الإنسانية والحقوقية ، كحقوق الإنسان وغيرها التي نصت على رفع العنصرية والمطالبة بحقوق هؤلاء الزنوج ومنحهم حق التجنس والمواطنة داخل الدول التي استعبدتهم وجلبتهم من أرضهم فيجب أن تكون لهم حرية تقرير مصيرهم في أن يعودوا إلى أوطانهم أو البقاء في تلك الدول مع منحهم جميع حقوق المواطنة الممنوحة للبيض. وسنت الدساتير التي تعاقب كل رجل أبيض يتضح أنه يتعامل مع الزنوج أو أحدهم على أساس عنصري، وفرضت عقوبات مشددة على ذلك.

وبدأ السود في مرحلة انتقالية جديدة تبشر على المدى البعيد بأجيال لا تعاني من العنصرية وتعامل معاملة إنسانية، فسمح للزنوج بإدخال أبنائهم في المدارس مع أقرانهم البيض، وتم منحهم حقوقاً كانوا يطالبون بها طوال حركتهم النضالية وبسحب هذه التجربة على واقع قضية المرأة فإننا نجد أن نضالات الحركات النسوية والرجالية الداعمة لها قد نجحت في خلق تيارات قوية جداً تناصر قضية المرأة؛ نشأ عنها قيام بعض المنظمات التي تدعو إلى محاربة العنصرية الجنسية والتمييز الجنسي. وسنت الدساتير والقوانين التي تعطي للمرأة حقوقها وبدأ العمل على نشر هذه الدساتير على مستوى المجتمعات المتخلفة والتي ما زالت تردح تحت وطأة الثقافة الذكورية، وبدأت هذه المنظمات تضغط على حكومات الدول لتطبيق الدساتير التي تم الاتفاق عليها بعد سلسلة من الاجتماعات والمناقشات لوضع رؤية واضحة لمطالب المرأة والأقليات المستضعفة كالأطفال والأقليات الدينية والعرقية وغيرهم، وكيفية تنظيم هذه القضية وهذه المطالب وصياغتها في شكلها القانوني الملزم. ولقد استجابت بعض الدول لهذه المطالب وضمنت تلك القوانين في دستايرها التشريعية، ولازالت إنجازات الحركة النسوية تتقدم وتحرز مكاسبها يوماً بعد يوم في شكلها البطيء غير الملاحظ إلا بالمقارنة التاريخية. فنالت المرأة حقها في التعليم وحقها في العمل وحقها في الاستثمار وحقها في القرار وحقها في السلطة ... إلخ.

واليوم وبعد كل الإنجازات التي حققها المناضلون الذين دفعوا حياتهم من أجل إلغاء العنصرية اللونية، نجد أن بعض السود ما زالوا مأسورين إلى ماضي الرق وذكرياته المؤلمة التي حفرت على قلوبهم نوعاً من الحقد العرقي على البيض، فلم يستطيعوا التخلص بالشكل الكامل من تلك النعرة اللونية، وفكرة أن الأسود أدنى من الأبيض ونجد ذلك واضحاً في تأويل السود كل ما يوجه إليهم من البيض على أساس عنصري ما زالت أثاره موجودة داخلهم.

وكذلك فإن بعض البيض ما زالوا يعتقدون بأن اللون الأسود أحقر من أن يتسالم معه كلياً رغم أهليته القانونية التي فرضتها القوانين الدولية. ونفس الوضع هو الحاصل في قضية المرأة فرغم الإنجازات والمكاسب التي حققتها الحركات النسائية والرجالية المناصرة لها فما زالت بعض النساء مأسورات إلى ماضي العبودية الرجولية وذكرياته المؤلمة التي حفرت على قلوبهن نوعاً من الحقد الجنسي على الرجال. فلم يستطعن التخلص بالشكل الكامل من تلك النعرة الجنسية وفكرة أن الرجل أعلى من المرأة، وأن المرأة أقل من الرجل وتأويل كل ما يوجه إليهن من الرجل في قالب العنصرية الجنسية والتمييز الذي ما زالت أثاره موجودة داخلهن، ويساعدهن في ذلك وجود تلك الفئات من الرجال ممن لا يزالون مأسورين هم كذلك بثقافة العقلية الذكورية، وافتراضهم أن المرأة لا تعدوا أن تكون كائناً حقيراً لا يرقى إلى أن تكون وزيرة أو رئيسة دولة أو حتى رئيسته المباشرة في العمل.

ويرون أن الوضع الحالي بعد القوانين الجديدة التي طالبت بحقوق المرأة وأهليتها هو في وضع خاطئ ولا بد أن يعود الأمر إلى أصله في النهاية بل وأن بعض النساء يذهبن إلى أبعد من ذلك فيمارسن حقدهن على اللغة التي ترى فيها الصبغة الذكورية وترى أن حتى اللغة ظلمت المرأة في كثير من المواطن وترى ان اللغة إنما هي صنعة ذكورية يجب تعديلها حتى يتوافق مع مشروعهن الثوري المرجّى ، وما الكلمات التي أوردتها في مقدمة هذا المقال إلا للدلالة على ذلك. وهنالك العديد من الأمثلة التي تقابلها في اللغة العربية وغيرها من اللغات التي ترى ظلم اللغة للمرأة. وكل ذلك يمكن أن يبرر في ظل القهر الذي لم تستطع المرأة أن تتخلص منه بشكل كلي. ومن الصعب أن نفترض أن يتماثل المحروق للشفاء بمجرد أن نمسح عليه مرهم الحروق، فلا بد أن نقتنع أن عملية الشفاء وإعادة إحياء الأنسجة وإلتئام الجروح تأخذ فترة زمنية حتى تتم وتصل إلى مرحلتها النهائية المقبولة ، ويعود لون الجلد ليبدأ بالاقتراب من اللون الطبيعي حتى يختفي الفارق بين اللون القديم والجديد تماماً.

هذا فيما يتعلق بالماضي والحاضر، أما المستقبل فيصعب التنبؤ بما سيكون عليه الوضع. هل سنشهد أجيالاً تتفهم المسألة وتستطيع التخلص نهائياً من هذه العقدة والرواسب التي نتجت عبر آلاف العشرات من السنين؟ هل سنشهد أجيالاً تنتفي فيها عقدة الرجل والمرأة ويتساوى فيها الجميع أمام المجتمع وأمام القانون وأمام الدين؟ هل سيكون حال الأجيال القادمة أفضل بحيث تشهد تفتحاً يعي مصلحة أن يكون الرجل والمرأة على حد سواء في بناية المجتمع والمساهمة في مجرياته الاقتصادية والسياسية والعلمية على أساس من التفاهم والمساواة وتكافئ الفرص؟ أم سيشهد ذلك الجيل تقهقراً إلى الوراء وخسارة تلك الحركات لمكاسبها التي اكتسبتها عبر السنين لترجع إلى مربع رقم واحد حيث الدونية والعنصرية والتفريق والتمييز الجنسي؟ أم ربما ستشهد تلك الأجيال ثورة أنثوية تطغى على المجتمع وتكون هي المتحكمة فيه كما صرحت بذلك الصحفية اللبنانية نضال الأحمدية بأن عام 2012 سيكون عالماً أنثوياً بمعنى الكلمة.

ألا يذكر ذلك بثورة البوليتاريا التي تحدثت عنها الماركسية؟ هل سيصاب الرجال بالقهر الأنثوي يوماً ما؟ ويكرر التاريخ نفسه بشكل عكسي؟ هل يولّد الإحساس بالقهر قهراً مضاداً؟ هل تستحيل الدعوات بالعتق والخلاص إلى دعوات بالعنصرية المضادة والانتقام من التاريخ القديم؟ هل تصح المقولة بأن قضية تحرير المرأة ما هي إلا دعوة حق أريد بها باطل؟ لها الله تلك الأجيال القادمة فيما سوف تراه وما سوف تشهده.

والتحية للنساء أمهات الرجال وهن يحاولن محاولات الجنين أن يخرجن من ثوب الرجل ليضعن وبشكل واضح معالمهن التي يرونها لأنفسهن دون أن يجنح بهن الحلم إلى تمثيل دور القاهر بدلاً عن المقهور ، ودون أن يحصرن حلمهن في دور الجلاد وإنما يردن فقط أن يفهم الرجال أن النساء كائنات عاقلة ومتصرفة ومؤثرة ومنتجة.

أحيي أمي وهي من منحتني من رحيقها الرحمي لوني وشكلي وتفكيري، وأحيي أخوتي الإناث وهن يقبعن داخل سجنهن المتخلف "المجتمع" في محاولات لمقاومة الوضع والتغلب عليه، أحيي صديقاتي أينما كنّ وهن يناضلن من أجل أن يتنفسن هواءً لا يحمل رائحة الرجال دون أن يؤدي بهن ذلك إلى التقزز من رائحة الرجال.

السبت، 18 أبريل 2009

لكنه الخواء .. لكني خائفة


ضربات قلب في الصباح تشجّ رأس الحبّ
كأنّ القلب فأس بيد ملاك غاضب
يوجعني ذاك الأفق الذي ترك مكانه لعظامه
الذي لا يعلم عن حمرته سوى أنها فرّت من السماء مع ثلاث من جواريها
صاحب السماء البائس
حجر القروح الذي يتدحرج من قدميه و يقف بينه و بين ضريحه
كم ينبغي أن أعاود القفز في جيفتي
وأبحث هناك عن بائع الموج الذي اختفى في ظروف غامضة ..
ربما – تقول المرأة التي حملت الأرض على ظهرها تسعة قرون
ربما كل هذا ريش يحتضر
ربما كنتُ في حياة سابقة أصيصاً للموت
لو ارتطمت الآن بطائر حليق الجناحين لمنحته حدبتي كلها
من يدري لو ارتفعَ عن مائدة الثلج وفي منقاره قشة
قد يضعها في روحك لتسندها
في عينك مكان الشوكة التي تبحث عنها القبيلة لتعلنها ملكة
وقد يصيح في الفجر مكان الديك العاقر القليل الحياء الذي لم يعد يوقظ أحدا
سوى خرائط مخصية لجهة لا تعرف من أين الطريق إلى مدينة أين* ..
السمك الذي خرج من ثقوب جسدي وأنا أشمّ رائحة البحر لأول مرة و علق في صنانير الصيادين
مازلت أسمعه يئنّ في الولائم و في رؤوس القطط المالحة
تتهمني أعضائي بالخيانة لحساب زعنفة تضرب سواحل كوكب مقزز
وحدها عيني التي سقطت أهدابها دفعة واحدة تدافع عن فقاقيعي التي تخرج من فمي
كلما حاولت أن أقول للعالم
اخرس ..
آخر العراة كانت الأمطار التي تسقط بسرعة دمعة في قطار كهربائي
محاولة ألا تنفجر في خراج المرآة التي تركتها صاحبتها لتلحق بساقها البضّة
حين نفض الركن الفارغ جناحيه ، كان البلل قد وصل إلى مسمع العروق ، وإلى لحية الرصاص المذعور من ظله ، ، وتوقف هناك ..
بدا الأمر وكأنه بكاء
وحين اقتربت أكثر وجدت نبتة تتأوه في البؤبؤ الذي يضيق تحت الشمس
وحين اقتربت أكثر
كانت العين كلها قد صارت حرشاً ..
أيها الأبد هل يؤنسك الجحيم أكثر من حبّ لا ينتهي ..
كنتُ قبل قدميك الحافيتين محجر صغير يقفز وتقفز القطط فيه
مالذي كنتـَه قبل بؤبؤي المسحوق
هنا على قمم الماء المالح، انتظرت الله
ورأيت رأساً من بعيد فصرخت هو القمر نبتت له قدم
لكن الصرخة وقفت على الجسر بهيئة مسخ يلتهم فمه المفتوح للاشيء
هكذا هبطت غاضبة و ركلت خاصرتك النيئة برمش نما فجأة ..
قالت العين
لو أن تراباً يلعقني
لو أني لا أنبش قبور العتمة
لو أني أعرف الحكمة من انقباضات الرحم و أنا ألد موتاي
لو أن المجرة تربط شعرها الذي يدخل في نومي
لكنّه الخواء
مهد الخفافيش الأولى التي تتدلى من الضوء
حتى الغرق لا يحمل رائحة
ولاصوتاً
ولا طغاة أنحر خوذتي في أخوة لي في وجوههم
ليست مهرجانا ضل طريقه
فجوتي التي تبقى بعد أن تتزوج الجمجمة و تغادر منزل أمها
الجمجمة التي لا تعرف أبيها سوى في صورة له نصف ممزقة
يحملها بين يديه و يبتسم للعالم ..
كي لا تطاردني عيني في مدينة تطلّ على البحر ، رميت في البحر تمثالي الرملي
ردمته بأخوة لي و بجنازات لعاريات راغبات و يتمنعن
قبلت أن أطفو بحجري الكريم الثقيل ، وسمعت كركرة الزيت تصبه الجنادب في حنجرة الضوء المعذب كي لا تصدأ نهارات الموتى
خرجت من عيني مبتلـّة وحاقدة ، لا مناص من نفخ روح أخرى في القرابين التي قدمتها للخوف
أفعى و تفاحتين
ثلاثة غادروا جحورهم في الصباح ، أنجبوا الأرض في المساء ، دون أن يخبرني أحدهم كيف أفك عنق الطين من المشنقة ..

***
الـ ...
أعرف أن الخوف لا يوقف النزيف
لكني خائفة ..

* في إشارة إلى- مدينة أين- للراحل سركون بولص

فنانة تشكيلية وشاعرة لبنانية مقيمة في اسبانيا
deaddiamond@windowslive.com
www.sammardiab.blogspot.com

المصدر

الثلاثاء، 14 أبريل 2009

انكسار الذات في (صلوات مالك الحزين)

بقلم: السعيد موفقي*
إنّ طبائع الأشياء في نفوسنا أو في الطبيعة كثير منها لا نعرفه، إلا بالتصوّر، وبحكم العادة نتخذها في حياتنا متنفسا نلجأ إليه عندما تتأزم المواقف وتتداخل المصالح الذاتية مع العوالم الأخرى. فالطبيعة في الصحراء تكتسي نمطا مختلفا عن تلك التي يعيشها عالم البراري المتنوع، قد ننجح في توظيفها عندما نضطر إلى تفسير ما بدواخلنا ونسقط مشاعرنا وأوهامنا عليها، لما تتشابه هذه الطبائع وتتماثل سلوكاتها المتدفقة ولو بالفطرة، نشعر –عندئذ- بوصول الغايات ولو من باب الاعتقاد. نكره منها ما لا يروق لنا، ونحب بعضها الآخر لما فيه من أشياء نعتقد بأنّها صحيحة، وأنّها تفي بالغرض الذي نريد وصوله إلى الآخرين.

الكاتب في نصّه (صلوات مالك الحزين) استجمع فيه ما يمكن أن يستغرق في عالم الطبيعة ويوغل في متاهاتها العجيبة، ينتقي ما يناسب منها كل التجارب التي تعبر عن انشغالات الإنسان والنفس والروح والبقاء والخلود. حديثه عن الصحراء والريح على وجه التحديد لم يكن من قبيل الصدفة؛ إنّه التأمل في متغيرات الطبيعة والتجدد الذي يشكل صراع الحياة الذي لا ندركه مباشرة إلا عندما نفحص ذلك التجدد في انتقال أكوام من الرمال، وهي تتحول بآلية ليست كتلك التي يحدثها الإنسان ولا يعي منها إلا صورها الخارجية ومشاهدها السطحية، مهملا عمقها الحقيقي.

كانت هذه الريح ذات رملٍ حارق، تلهو بمناخٍ يعرفه البدو بأنه قاسٍ، وتسكنه الحمى الترابية، تألفه الأفاعي ذوات الدم البارد، وتعشقه اللافقاريات!
يتصور الكاتب بأنّ الإنسان في كثير من ممارساته اليومية هو تعاقب لجملة من الحالات العابرة، إذا كان الأمر عن تجربة السعادة فلا يدركها إلا لما تتوالى المواقف والأسباب سواء من داخله وما يعيشه من آلام وآهات، أو من خارج ذاته وفي هذا المستوى تتساوى كل أصناف البشرية، وإذا شئنا تحولت معطيات النص بما فيه أبطاله إلى شيء واحد، تحركه دوافع كثير منها مجهول لديه، باعتبار تصوره القائم البحث عن الحقيقة التائهة في عمق هذه الصحراء في كهوف الجبال ومغاورها المظلمة ظلمة النفس الغائرة المعقدة، أو ربما في محاور كثبان الرمال الضائعة في كل اتجاه.

كانت هذه الريح قاب رملين أو صفير من سرابٍ موغلٍ في القدم حطّ على جناح طائرٍ خرافي أوسعَ الأساطيرَ ضرباً وطار في سماءٍ حمراء للأبد. دمه –الذي هو علامة التفاؤل الوحيدة– كان غارقاً في شبر ماء. لُعابه – الذي قد سال للمرة الأولى عندما رآني– رآني مرةً أخرى ولم يسلْ!
و الطريقة التي اختارها الكاتب في دفع كل الأفكار نحو اتجاه واحد وإن تعددت نهاياته، حتى أنّه تحول في بعض المواضع إلى شخصية محاورة تتنقل وجدانيا بين مختلف رواسب الماضي والتوغل في كل الجراح التي ألهبتها عزف الآمال عن الاستقرار والرخاء المفقود في كل مكان، وإلا بماذا نفسر اهتمام الكاتب بجزئيات كل حيّز مما لاحظه في هذه البيئة، أو حتى تلك الحيوانات في تصرفاتها وسلوكاتها، قد تبدو غير معبرة لكثير من السذج من البشر، ولكنها رسالة على حد اعتقاد الكاتب، وهو اعتقاد أسقطه على تعامل الإنسان معها وخضوعه لتقلباتها وصراعها وكفاحها مثلما هو حادث في عالم الإنسان الغريب.
لا مجال للمُراهنة، الجرح غائرٌ في شوكة الصبّار، وفي حراشف السحالي التي تجيد التخفي. السرابُ وحمةُ الصحراءِ الغربية، ونقطة ضعفها الوحيدة. على مدار أُغنيةٍ كاملة، ظل المُغني يُتابع السلّم الموسيقي، لكنه سقطَ عند حافة النهر فجأةً عندما تصاعدت أصوات الضفادع المزعجة.
لماذا هذا الاهتمام بالصحراء ؟ ما الذي جعل الكاتب يمعن النظر فيها وأحيانا يكرر مشاهدها وصورها وليس من باب التوصيف بقدر ما هي المسألة أبعد من كونها وجود مادة أو كونها تشغل حيزا فيه، فالتردد على الصحراء ينبع من أعماق الكاتب لاعتقاده بوضع الإنسان كونه محاصرا من الداخل بالمخاوف ومختلف الأسباب الأخرى قارة في نفسه تنبعث كلما ما أثارها عامل أو عوامل ما تحاول إزاحته من عالمه المتناقض، وحصار آخر من الخارج فرضته أساليب الحياة وإن بدا مجرد ريح أو زوابع رملية وما شابهها، فهي كتلك التي يحدثها البحر أيضا عندما تعصف الرياح وتضرب العواصف في كل مكان وتشتدّ الأمواج، فيأتي على الإنسان ويقف أمامها عندئذ وقد أصابه الروع والهلع وشدّت على مكامنه أسباب الفناء والتلاشي والاندثار.

ولنعد إلى الصحراء حيث هذه الريح مليكةٌ وحيدة، على شعب كله يعشقُ السخونة. حتى هؤلاء البدو كانوا يرهبون غضبة الريح عندما تبصقُ الرمالَ في وجوههم، وتهِبُ الخيولَ طريقها إلى الفِرار. أيتها المليكة العادلة!
هل من الممكن أن تنفع تلك الوقفات التي يختلي بها إلى الصحراء أو إلى البحر أن تنفع مع تلك الزفرات التي تحدثها النفس؟ لا يستقر به الحال مادام الوضع الداخلي لم يتغير وأنّ التغير الحقيقي لم يحدث بعد، إذن بقاء الأسباب يعني بقاء تعاسته، حزنه؛ حتى تلك الثغرات البعيدة والتي تكاد تضيق يستأنس بها ويتنفس قدر جهد الروح العالقة وسط زحام الحياة.

مازال بعض الشعب يُعاني من الصُداع والأشف، ولا ملاذ منكِ إلا هذه الشقوق! أحبكِ لأنّك الوحيدة التي تستطيع أن تخونني ولا أجرؤ على الكلام! أحبكِ لأنني أُحب أن أنام! أحبكِ لأنكِ التي أهابها ، وأعشق اقترابها! أحبكِ لأننا عتيقان في قافلة الرق المُتجهة شمالاً. حيث هذا الجرح قِبلةٌ مهجورة، ومحرابٌ غيرُ معترفٍ به.
وكل الأمكنة يربطها خيط البقاء والتغيّر حتى تلك التي كانت في غابر الأزمان، وكان المكان شغلهم الشاغل، يبحثون عن شيء كان هناك ذات يوم مارسه الآباء والأجداد تحت كل الأشياء الظاهر منها و الباطن، اعتقاد يملأ الروح و يدفعون من أجله كل ما يملكون من أسباب السعادة، لأنّ التضحية بمثابة محور حياتهم، وسر وجودهم.

البدو يعبدون الريح سراً، ويدفنون القرابين تحت رمال هذه الصحراء. أين يختبأ الوجدُ في هذا النهار!من أي ناحية يتبخر الشوق؟
من أي فاصلةْ ؟
ومن – على امتداد الدمِ القاني –
يعرف النارَ التي بين أضلعي
إنما بيني وبين أن أموتَ .. فاصلة
ها هي الصحراء تمدّ لسانها لي
وتعلنني المسافة
بين كل خطوةٍٍ وأختها
في العلاقةِ الحميمة بين
سرابٍ لا يُمكن الرِهَانُ عليهِ
وبين صحراءَ قاحلةْ
من – على امتداد هذه الحمى –
يبيعني قُرصاً من الثلج
واحة من الارتياح
آهٍ . . كم أشتكي من الصداع
تلك رحلة شاقة أتعبته وأنهكته وهو يكتشف أسباب بقاء الإنسان القديم في علاقاته الموغلة في عمق الحياة، يتصور الحياة بسيطة على الرغم من تفورها على كل الأسباب التي تجعله يحتكّ بها، وكان للحيوان دور في تنقله، اعتدادا بالنفس التي كانت تشعر بالكبرياء تطمح لتحطيم الأشياء و التعلق بأخرى أردفتها ظروف و صروف.

الخيل أنهكتها العرب، تلك القبائل التي لا هم إلا أن تغير على التخوم . . على مشارف امرأة جميلة أو بعير !!! يا كبرياء امرأةٍ حقيرةٍ ، في هودجٍ حقير ! يا كيمياء الرمل .. عندما ليلاً تهادن البرودة ، تنسف حلفها عند الهجير.
لماذا الريح ؟ في الواقع الكاتب تنقل بنا في مختلف الأماكن ولم يستقر عند حد معين منها وفي كل مرة يكتفي بالإشارة إلى ما يمكن أن يجعلنا كقراء تحرك خلفه بفضول شديد ووقوف حذر، لكنّه لا يخلو من اعتقاد جميل في ترصد الحقائق وتصديقها ولو عن بعد مادام التفكير فيها مستمرا، وربما هذا الهاجس المتغيَّر والمغيِّر يبقى سار إلى أبعد من كونه مجرد ظاهرة في الطبيعة، يحسبها القارئ رصد بسيط للريح التي قد تتحول إلى إعصار يهزّ كيان الإنسان ويزعزع استقراره، في هذا المستوى يلتبس عليه معرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت منه كائنا تائها في كل مكان، ما أصابه منها إنّما من قبيل السؤال الملحّ الذي انتبه ذات يوم تكرر معه مثلما تكرر معه في البداية، يتكرر معه في النهاية و قد يبقى غامضا، لا جواب له وإن وجد الجواب تكرر طرحه مرة أخرى و ربما بحدة أكثر.
وهذه الريح قاموسٌ للغةٍ غير مقروءة! وأطلسٌ لجغرافيا تستعصي على الفهم. هذه الريح كانت – ولا تزال – ملاذَ القبائلِ البدوية في رحلةِ البحثِ عن حربٍ من أجل ناقةٍ عوراء! أنا الوحيد الذي يستطيع أن يمشي حافي القدمين في رمالكِ الحارقة، والوحيد – صاحب المهابةٍ – الذي يعرف سرّ كيمياء الحرارة. ها هي اللعنة الآن على أعتاب بابي الخشبي، آآآآهِ يا لُعبتي الصغيرة! كم بكيتُ – فقط أمامكِ – قبل أن أُغيّر اللكنة الحزينة قبل آذان الفجر! كم – يا صغيرتي – خلعتُ كبريائي الوحيد، لأرتديكِ! هذا سرٌ بيننا، فلا تبوحي بالسر إلاّ للريح والصحراء.
والملفت في هذا النص تنوع الخطاب الذي اتخذ مسارات متنوعة في البحث عن هذه الحقيقة، وبالتالي تنوعت لغة الخطاب، من مخاطبة الطبيعة والتأمل فيها والغوص في أعماقها والتنقل بين أجزائها الكثيرة، الصحراء، البحر، البدو إلى مخاطبة الإنسان في حدّ ذاته ومع ذلك ينتابه الشك والتردد في هذا الاعتقاد بما أنّ دون اليقين أسئلة كثيرة.

أنتِ التي تفهمين لغتي التي لا يفهمها أحد. كُلّهم – بلا استثناء – لم يفهموا، وكأنني كان يجب أن أتعلم لغاتهم كي يُتاح لي أن أصرخَ بلغةٍ يفهمونها! كُلّهم – بلا استثناء – ظنّوا أنني أبيع خرز الساحرات ، وأوهام القراصنة الباحثين عن كنزٍ ما في بحرٍ لا يعرفه أحد! كُلّهم – بلا استثناء – نعتوني بالجنون، فلم أستطع أن أبوح أكثر.
تلك هي صورة البقاء و الحياة تعجّ بالناس العابرين و أنّ القلق مسّ الجميع لا فكاك منه من الصحراء الواسعة إلى البحر اللجب فالبدو المترامية الأطراف إلى الشارع المكتظ و الحياة تزادا اكتظاظا كلما امتدت رقتها عبر الزمان و المكان قد تكون النهاية بلا نهاية.

للبدو هذه الصحراء، ولي هذا الشارع النائي، المُرصّع بالضوضاء والعابرين. قال لي عابرٌ ما: " لا تقف على قارعة الطريق، ولا تُغني حيث لا يسمعُك أحد!" ولكنني أُريد أن أُغني . . أُريد أن أغني. ولذا استعرتُ صوتي من مالك الحزين! جبل من القطن!!
- أين شموخكَ أيها الجبل؟
* جفل !
- أين البريق الذي – في كل صخرةٍ – يضيء من بعيد؟
* أفــل !
وينفلت الوجع وزفرات الآهات المشحونة تملأ كل فراغ من النفس أو الروح، أمن الممكن أن تنجح الحياة وصور السأم والظلم والحزن تزداد يوما بعد يوم وليس هناك من يفهم ما تقول ولا يدرك مقصد إلا فئة مغبونة هي لغة يستصعبها الكثير ويشقى في فهمما القليل؟ الكاتب استخلص نهاية جميلة لتلك المعاناة التي ازدادت تعمقا و غارت في عمق الإنسان وأحيانا يكتفي بالتألم، هذه اللغة التي لا نفهما إلا بالتجربة.

آهٍ من هذه الحمى السفلية! ومن هذه الصحراء، ومن هؤلاء البدو. لقد تعبت من الدعاء، سئمت من الاستجابة! سئمتُ من الذين لا يجيدون العزف، ومن الذين لا يفهمون هذا الغناء.

ومهما انبسطت معالم الحياة فاللغز باق مادامت ساحة الحياة خالية ممن يحسنون الإصغاء ويقدرون معنى البقاء، وعلى العموم فالكاتب أثار مشكلة نموذجية في حياة الإنسان، طرح يبعث على كسر جدار الصمت وتعلم أساليب الحياة
* السعيد موفقي: كاتب وناقد جزائي

صلوات مالك الحزين

كانت هذه الريح في ذات رمل حارق، تلهو بمناخٍ يعرفه البدو بأنه قاسٍ، وتسكنه الحمى الترابية، تألفه الأفاعي ذوات الدم البارد، وتعشقه اللافقاريات! كانت هذه الريح قاب رملين أو صفير من سرابٍ موغلٍ في القدم. حطّ على جناح طائرٍ خرافي أوسع الأساطير ضرباً وطار في سماءٍ حمراء للأبد. دمه – الذي هو علامة التفاؤل الوحيدة – كان غارقاً في شبر ماء، لُعابه – الذي قد سال للمرة الأولى عندما رآني – رآني مرةً أخرى ولم يسلْ! لا مجال للمُراهنة، الجرح غائرٌ في شوكة الصبّار، وفي حراشف السحالي التي تجيد التخفي. السرابُ وحمةُ الصحراءِ الغربية، ونقطة ضعفها الوحيدة.

على مدار أُغنيةٍ كاملة، ظل المُغني يُتابع السلّم الموسيقي، لكنه سقطَ عند حافة النهر فجأةً عندما تصاعدت أصوات الضفادع المزعجة. ولنعد إلى الصحراء حيث هذه الريح مليكةٌ وحيدة، على شعب كله يعشقُ السخونة. حتى هؤلاء البدو كانوا يرهبون غضبة الريح عندما تبصقُ الرمالَ في وجوههم، وتهِبُ الخيولَ طريقها إلى الفِرار. أيتها المليكة العادلة! مازال بعض الشعب يُعاني من الصُداع و( الأشف ) ولا ملاذ منكِ إلاّ هذه الشقوق! أحبكِ لأنّك الوحيدة التي تستطيع أن تخونني ولا أجرؤ على الكلام! أحبكِ لأنني أُحب أن أنام! أحبكِ لأنكِ التي أهابها وأعشق اقترابها! أحبكِ لأننا عتيقان في قافلة الرق المُتجهة شمالاً. حيث هذا الجرح قِبلةٌ مهجورة، ومحرابٌ غيرُ معترفٍ به. البدو يعبدون الريح سراً، ويدفنون القرابين تحت رمال هذه الصحراء.

أين يختبأ الوجدُ في هذا النهار! من أي ناحية يتبخر الشوق؟ من أي فاصلةْ ؟ ومَنْ – على امتداد الدمِ القاني – يعرفُ النارَ التي بين أضلعي إنما بيني وبين أن أموتَ فاصلةْ ها هي الصحراءُ تمدّ لسانها لي وتعلنني المسافة بين كل خطوةٍٍ وأختها في العلاقةِ الحميمة بين سرابٍ لا يُمكن الرِهَانُ عليهِ وبين صحراءَ قاحلةْ مَنْ – على امتداد هذه الحُمى – يبيعني قُرصاً من الثلج واحةً من الارتياح آهٍ . . كم أشتكي من الصُداع هذه الريح قاموسٌ للغةٍ غير مقروءة! وأطلسٌ لجغرافيا تستعصي على الفهم. هذه الريح كانت – ولا تزال – ملاذَ القبائلِ البدوية في رحلةِ البحثِ عن حربٍ من أجل ناقةٍ عوراء! أنا الوحيد الذي يستطيع أن يمشي حافي القدمين في رمالكِ الحارقة، والوحيد – صاحب المهابةٍ – الذي يعرف سرّ كيمياء الحرارة.

ها هي اللعنة الآن على أعتاب بابي الخشبي، آآآآهِ يا لُعبتي الصغيرة! كم بكيتُ – فقط أمامكِ – قبل أن أُغيّر اللكنة الحزينة قبل آذان الفجر! كم – يا صغيرتي – خلعتُ كبريائي الوحيد، لأرتديكِ! هذا سرٌ بيننا، فلا تبوحي بالسر إلاّ للريح والصحراء. أنتِ التي تفهمين لغتي التي لا يفهمها أحد، كُلّهم – بلا استثناء – لم يفهموا، وكأنني كان يجب أن أتعلم لغاتهم كي يُتاح لي أن أصرخَ بلغةٍ يفهمونها! كُلّهم – بلا استثناء – ظنّوا أنني أبيع خرز الساحرات، وأوهام القراصنة الباحثين عن كنزٍ ما في بحرٍ لا يعرفه أحد! كُلّهم – بلا استثناء – نعتوني بالجنون، فلم أستطع أن أبوح أكثر.

للبدو هذه الصحراء، ولي هذا الشارع النائي، المُرصّع بالضوضاء والعابرين. قال لي عابرٌ ما: " لا تقف على قارعة الطريق، ولا تُغني حيث لا يسمعُك أحد!" ولكنني أُريد أن أُغني . . أُريد أن أغني. ولذا استعرتُ صوتي من مالك الحزين! ( جَبَلٌ ) من القطن!!
أين شموخكَ أيها الجبل؟
جَفَلْ !
أين البريق الذي – في كل صخرةٍ – يضيء من بعيد؟
أفــلْ !

آهٍ . . من هذه الحمى السفلية! ومن هذه الصحراء، ومن هؤلاء البدو. لقد تعبتُ من الدعاء، سئمتُ من الاستجابة! سئمتُ من الذين لا يجيدون العزف، ومن الذين لا يفهمون هذا الغناء.

الاثنين، 13 أبريل 2009

في رثاء الثقافة والمثقفين

إنه لمن الغريب أن يتزامن انحطاط الثقافة مع نهضة العلوم التكنولوجية والرقمية، فبدلاً عن أن يخدم هذا التطور التقني الأدب والثقافة؛ كان خصماً عليهما دون شك. قبل دخول الإنترنت إلى بيوتنا وعوالمنا الخاصة والعامة، كانت المعرفة تشق على غير الراغبين فيها، وبالتالي فإن الإنسان العارف والمثقف والمتعلم كان يجد حظوته ونصيبه من الاحترام والتقدير. أما وقد أصبحت المعرفة متاحة للجميع بضغطة زر واحدة؛ فإن هذا مما يجعلنا نصاب بالدهشة، لأنه أصبح بمقدور الجميع الآن أن يدعي المعرفة والثقافة وبانورامية المعلومات.

يُذكرني هذا بمقاربتنا بالإنسان الأول الذي كان يخاف من النيران ويخشاها لدرجة العبادة في بعض القبائل والثقافات، بالإنسان الحديث الذي تمكن من التحكم في هذه النيران؛ بل وحبسها في قدّاحات، تماماً مثلما في الميثولوجيا الدينية وقصة النبي سليمان وسيطرته على الجن، وحبسهم في خواتم وجرار ومصابيح زيتية. وبعد أن كانت النيران مصدر رهاب مخيف بالنسبة إلى الإنسان، أصبح وسيلة لإنتاج الطاقة، بل ووسيلة ترفيهية يستخدمها حتى الأطفال: في أعياد الميلاد ورأس السنة، وربما لم تأت عبارة (ألعاب نارية) إلا توضيحاً لهذا التطوّر المخيف الذي يسير إليه الإنسان.

إن الكلام عن التطور التكنولوجي وموقع المثقف من هذا العالم الآن؛ في عصر المعلوماتية والأطياف والموجات لهو كلام متشعب جداً، لأن الأمر أصبح مرتبطاً باحترام المعرفة والثقافة مع عدمه، متفرعاً إلى الكلام عن ماهية الثقافة والمثقف ودوره من جديد. ولابد أن يقودنا ذلك إلى الحديث عن علاقة كل من الفلسفة والأدب والفن، لأنه أصبح من الواضح انفصال هذه العلوم الإنسانية عن بعضها في هذا العصر الذي تمايزت فيه التعريفات وتداخلت فيه وظائف كل جنس من أجناس هذه العلوم بطريقة تدعو للدهشة والتعجّب.

ومنذ عصور سحيقة كانت الطبقات المثقفة والعارفة تأتي في درجات عليا في المجتمع، فكان الفلاسفة على قدم المساواة مع طبقة النبلاء ورجالات الدين ثم يأتي العامة والرعاع فالعبيد في أدنى الدرجات. وبصرف النظر عن أخلاقية هذا التصنيف وصحته، فإن ذلك كان يُعبّر عن مكانة العلم والمعرفة وتقديمه على كثير من التصنيفات الأخرى. أما الآن فقد أصبح المثقف مادة للسخرية والتندّر. ومع التقدّم الهائل للتكنولوجيا والمعلوماتية فقدت المعرفاتية رونقها وبريقها الذي اشتهرت به، ويبدو ذلك في تدني الاهتمام بالقراءة والمثقافة وأعتبر كل ذلك شكلاً من أشكال الوهم المعرفي الذي ساعد على إعادة تصنيف الناس إلى طبقات يأتي فيها الممثلون والمغنون والرياضيون على قدم المساواة مع رجال الدين والأثرياء؛ ولا غرو في ذلك إذ أنها قنوات سهلة وسريعة للثراء.

وإن كنتُ أتكلم في رثاء الثقافة والمثقفين، فإنني –في الوقت ذاته- أرثي غياب الحس والوعي الفني على الصعيدين: الموسيقي والدرامي. فكما أن الطحالب المُعوّقة قد نالت من المعرفة والعملية التثقيفية، فإنها تمددت بكل قوة إلى توربينات الفن فعطّلته وشوّهته تماماً.

ولأن الشيء يكتسب حظوته من ندرة عارفيه وممارسيه، فإن المثقف كان له تلك الحظوة والمكانة التي يستحقها؛ وكذلك العلماء والفلاسفة والمفكرين والفنانون. واليوم، وبفضل الإنترنت وإمكانياته اللامحدودة؛ فقد أفرخت العديد من المخلوقات المشوّهة: أشباه مثقفين، وأشباه فنانين، وأشباه تشكيليين، وأشباه مفكرين، وأشباه مؤرخين. وتوضّح لنا المقاربات الكميّة والنوعية تفاصيل مروّعة عن هذه الحقبة التي نعيش فيها اليوم بفضل ما أنتجته الرأسمالية من كائنات طفيلية مُدعية. فكم عدد المغنيين في العالم العربي؟ ماذا قدّموا من جديد لهذا الفن؟ ما هي رسالتهم؟ والسؤال الأهم من كل ذلك: إلى أين يقودوننا بهذا الجنون الأرعن؟ ذات الأسئلة يُمكن طرحها عن الثقافة والمعرفة والسياسة وكافة الفنون والمعارف الإنسانية التي أشبه كل من هبّ ودب يدعي المعرفة بها.

لقد ولّدت ثقافة الإنترنت والفضائيات زخماً مثيراً للاشمئزاز، ليس فقط أدى إلى تدهور الفنون والعلوم، بل الأكثر من ذلك عمل على تهميش دورها الحقيقي، وتحنيطها في متحف الحياة العصرية المتسارعة. وبدا المثقفون مخلوقات غريبة على هذا العالم، لا تقدّم شيئاً إليه سوى الكوميديا الهزلية المثيرة للضحك والسخرية.

الأربعاء، 8 أبريل 2009

يتنفسها دمع

بقلم: هند جودة*
تتنفس الدمع وهي تبحث عن ثانية تفهم أنها لا تستطيع العبور دون يديه، ثم يتنفسها الدمع؛ كأنه الوحيد الذي استطاع أن يفهم لازالت تحاول القفز على إحساسها بوجوده، رغم أن كل شيء يؤكد أنه رحل رحيل اللاعودة ، ذلك الرحيل الأخير ذو الخط الشعاعي الذي له نقطة بداية تعني النهاية.

تحاول أن تقتنع بأنها لن تصحو ذات إغماضة ٍ لتناديه فيجيب، وأن صوتها سيظل حين يلفظ حروفه يخرج ليعانق فقط الفراغ والصمت. هو الذي اكتشف مناطق الفرح والحمّى! والذي جعل من الليل نهارات بنجوم عينيه، وجعل من النهار أمنيات تتقن الحلم، وتحفل بالورود الجورية، واقتناص الضحكات. تسمع صداها، وتتلفّت بحثا عنه، وهي تدرك أن ذلك البحث عبث، وتترك الغصة تتكوّر في حلقها..

آه..لو تنطق وتعرف أن الآهة (أو التأوهات) لا تجدي في رفع كاهل التعب ثانية عن الصدر، وأن تلك ال "لو" لا تقدر على إعادتها لرحم الضباب قبل أن تصطدم بوجوده وهي مغمضة ٌ وترى جيدا أنها تلتصق بها نخاعا لنخاع..!

وتكرر لذاتها ما قالته طويلا وانتظرته طويلا: لو أنه منحها طفلا يعشش في قلبها قبل رحمها لتشير إلى صورته حين يكبر وتقول: "هذا الذي جعلك تتكون قبل غيابه الأخير." تحاول أن تكفّ عن تجرّع فقده، تحاول الاستمرار في حمل الحلم، تحاول أن تصدّق، أن تتوهم بأنه سيطرق الباب بعد قليل، حاملا قلبه وابتسامته وغمازتين تصنعان واديا، تودّ لو تنغرس فيهما وينتهي الأمر، لتصبح جزءا من ابتسامةٍ ملتئمةٍ فيه...!

يرهقها غيابه الذي لم يأت به بعد!

غادر دون وداع، كانت تنساب كل يوم وليلة في بحيرة روعته الوادعة، لم يترك لها هذه المرة علامات على الطريق لتلحق به، لم يترك لها وقتا للتلويح له، وهو يركب قطار الراحلين، بكل عفوية؛ ككل شيء فيه. جاء الغياب عفوياً، لم يترك لها طفلا ينمو داخلها ويتحرك ليحرك قلبها، أو يرفس لترفس حزنها المقيت.. لو أنك زرعت في أرضي غرسا يحمل ملامحك وصوتك وغمازتيك، وشعرك الليل الذي لا مدى لعتمته.

تترنّح في كأس عينيها دمعة، تتركها لمجرى حُفِرَ في وادي الخدين، وتعود لإرهاق الذاكرة. نقلوا لي خبر موتك الحيّ، وأنا أعدّ لك قهوة المساء، لم لم تشرب قهوتي في الساعة السابعة ساعة عودتك ووعدك قربي بأن تأتي؟!!

لا زالت قهوة السابعة تعدّ ويشربها صبارّ نبت في فناء المنزل الخلفي بين البرتقالة والزيتونة في تلك المساحة التي تركتها فارغة، وكأنك عقدت معها عهدا سريّا لم أعرفه أبدا؛ إلا صباح رحيلك حين شقّ الرمل أخضرٌ يحمل شوكه...!!

عرفت أنك ترى وتعرف بقلبك، ربما بحدس الشهداء، أنها ستشرب قهوتك؛ لذا تركتها دون جورية بيضاء طالما طلبتها منك هناك، وكما شربت الأرض ملامحك ، يشرب ملامحي غيابك بارودتك لا زالت تعلق إصبعي على زنادها كلما فاض بي الشوق للمس أصابعك!! هل يكفي أن أشتاق إليك حدّ الاحتراق كي تأتي؟

كانت الطلقة وهي تقصد قلبك لا تتوه عن قلبي، وكان عرقك في كل ليلة يركض بين احتشاد أصابعي فوق جبينك فيم ثورتك تركض داخل قلبك تجاه سوادهم. هل لا زلت تمارس الركض، وتشحذ البارود بالرصاص ويعرق جسدك؟؟ قل لي من يمسح عن جبينك عرقه الآن؟!

دقت السابعة يا سيدي وها أنا أسكب فنجان قهوتك إلى جذور خلف فناء المنزل تشبه غيابك وذكراك.. أشواكها كثيرة، ولاتبخل بثمرٍ حلو
______________
* هند جودة: أديبة فلسطينية مقيمة في السعودية

الثلاثاء، 7 أبريل 2009

المناصير الجديدة .. اسمعي يا جارة

هشام آدم
27 آب/أغسطس 2008م


ظلت مشاريع بناء السدود على مجرى نهر النيل في السودان يُشكل هاجساً إنسانياً في المقام الأول، ورغم تعالي الأصوات المنادية بوقف مثل هذه المشاريع التي لا تخلو من أهداف تنموية زائفة؛ إلا أن الحكومة السودانية ما تزال مصرة على أن تضع القطن على أذنيها، ليُصيبها الوقر، وتتغاضى عن مصائر الأسر السودانية المغلوب على أمرها، خدمةً لأجندة استثمارية معروفة بينها وبين الحكومة المصرية. فقد كان بناء السد العالي من الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها الحكومة المصرية، حيث عمل السد منذ عام 1964 على حجز الطمي، الأمر الذي أدى إلى أن تغمر بحيرة ناصر القرى النوبية الواقعة جنوب للسد، ورغم علم الحكومة السودانية وقتها بوقع كارثة إنسانية سوف تشمل أجزاء واسعة من بلاد النوبة؛ إلا أنها قامت بإرغام المواطنين على التهجير القسري، ووعدتهم بدفع تعويضات مجزية، غير أن الحكومة لم تصدق في وعودها. وحتى تاريخ اليوم فإن المواطنين النوبيين الذين تم تهجيرهم إلى حلفا الجديدة وخشم القربة يعانون من شح في البنى التحتية في مناطق التعويضات.

ولا يجهل الجميع الآثار السلبية للسد العالي على الجانبين السوداني والمصري على السواء؛ فإقامة السد العالي حرم النوبيين من الطمي الذي كان يُشكل مصدراً غذائياً هاماً لتربة أراضيهم الواقعة في ظل السد، كما أن وجود السد العالي يُشكل خطراً أمنياً وعسكرياً على مصر في حال تمّ تفجيره، وما سوف تسببه من فيضانات ستغمر كافة المدن المصرية، إضافة إلى مساعدة السد العالي في تآكل الدلتا، والخسائر الفادحة التي تجنيها مصر والسودان في الثورة المائية جراء تبخر كميات كبيرة جداً من المياه في تجمّع بحيرة ناصر؛ إذ تشير بعض التقارير إلى أن نسبة تبخّر هذه المياه توازي حصة العراق من نهر الفرات.

كان من المعتقد وجود هجمات مؤسسة ومدروسة سواء من قبل الحكومة المصرية أو الحكومة السودانية على قبائل النوبة الموزعة بين البلدين نوبة مصر في جنوب مصر و نوبة السودان في شمال السودان متمثلة في محاولات اقتلاع النوبيين من أراضيهم، وغمر الآثار والمعالم الحضارية بالمياه، وبالتالي انتزاع النوبيين من حضارتهم وتراثهم وإلى الأبد؛ إلا أن التطورات الكارثية الخطيرة التي حصلت مؤخراً لقبيلة المناصير جراء فيضان سد مروي أوضح الصورة بجلاء، فالأمر لم يكن مقصوداً به الإنسان النوبي فحسب؛ وإنما هي هجمة ضد الإنسان السوداني أينما وجد؛ طالما تعارض وجوده مع مصالح الحكومتين الاستثمارية والتوسعية.

أكثر من ستة آلاف أسرة من قبائل المناصير منفيون من بيوتهم الآن، ويعيشون في ملاجئ وخيام في قلب صحراء المكابراب، ويأتي الوعد الحكومي بالتعويض مجدداً وذلك بإقامة مدينة المناصير الجديدة والتي تخلو تماماً من الخدمات والمرافق الحيوية الأساسية التي يحتاج إليها السكان، وهو نفس ما حدث من قبل لأهالي حلفا القديمة الذين تم ترحيلهم إلى خشم القربة، وهي نفس الوعود التي تقطعها الحكومة لأهالي الشمالية طمعاً في إنشاء سدي دال وكجبار.

إن العرض الذي تقدمه الحكومة للمواطنين ما هو إلا تمثيل حقيقي لسياسة العصا والجزرة، حيث أن الحكومة لجأت إلى بيع أراضي المناصير لصالح مستثمرين عرب الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن حق السودانيين في السودان.

إن مناهضة قيام هذه السدود ليس رفضاً للمشاريع التنموية، لأنه ببساطة ليست هنالك عوائد تنموية واضحة تعود على المنطقة جراء إقامة هذه السدود، ويأتي ذلك على ضوء دراسات الجدوى، والدراسات الاقتصادية التي تؤكد عدم الإفادة من إقامة مثل هذه السدود، ولكنه أصبح مطلباً يتعلق بوجود الإنسان السوداني، ومن صميم حقوقه الدستورية التي تتجاهلها الحكومة السودانية، لتضع المواطن السوداني في درجة أقل بكثير مما يستحقه.

إن إقامة هذه السدود يصب في الحقيقة في خدمة مصلحتين متبادلتين لا ثالث لهما في جدول أعمال الحكومة السودانية: المصلحة الاستراتيجية والمتمثلة في رغبة الحكومة السودانية في إبقاء الخط الدبلوماسي مع مصر مفتوحاً؛ لاسيما بعد الأحداث والتطورات السياسية الأخيرة والتي أوقدت شرارتها الأولى مع تفاقم أزمة دارفور وتبعاتها لاحقاً، وتظل الحكومة السودانية راغبة في الحصول على دعم لوجستي من مصر في حال تفاقمت الأوضاع السياسية والأمنية، وفي الوقت نفسه تزيد الحكومة المصرية من نصيبها المنصوص عليه في اتفاقية مياه النيل الموقعة بين البلدين في عام 1959م.

والمصلحة الثانية هي مصلحة استثمارية تخدم الحكومتين المصرية والسودانية على السواء كذلك، فالحكومة السودانية تستفيد من بيع أراضيها داخل السودان لصالح الحكومة المصرية مقابل المال، وكذلك مقابل المساندة المصرية المحتملة، ومصر تستفيد من هذه الأراضي في توسيع مشاريعها الزراعية التي لا تتوفر لها كامل الظروف في الأراضي المصرية، ويتجلى ذلك واضحاً في مساعي الحكومة المصرية لزراعة القمح في السودان إثر أزمة الرغيف الطاحنة التي اجتاحت مصر مؤخراً.

وبين خوف الحكومة السودانية وجشع الحكومة المصرية يقبع المواطن السوداني بكل ذل وانكسار يدفع فواتير هذا الخوف وهذا الجشع، ويُسلب إرادة حياته وحقوقه الدستورية في الحصول على الحياة الكريمة التي يستحقها. ويبقى خطاب الحكومة السودانية لمواطني المناصير يوتوبيا حالمة لا يمكن تحققها، كما لم تتحقق الوعود السابقة، ويظل ما يجري للمناصير الآن تحذيراً للنوبيين الذين ما يزالون يصارعون من أجل منع قيام سدي دال و كجبار، لأنهم سيلاقون نفس المصير. فالحكومة السودانية لم تثبت صدق دعاواها التنموية في جميع المشاريع السابقة، فلماذا تصدق الآن؟

الأحد، 5 أبريل 2009

الرسالة السرّية في "جوابات حراجي القط"


ربما تُعد قصيدة «جوابات حراجي القط» من أشهر قصائد شاعر العامية المصري عبد الرحمن الأبنودي المولود في عام 1938م في أبنود إحدى قرى محافظة قنا في الصعيد المصري، هذا إضافة إلى أعمال شعرية أخرى مثل: وجوه على الشط، والموت على الإسفلت، وربما كان جمعه لسيرة الهلالية من أشهر الأعمال الأدبية التي حاولت تخليد هذه السيرة وأشعارها التي جمعها من شعراء الصعيد بُجهد لا يُمكن إغفاله।


قصيدة «جواب حراجي القط» التي ظهرت للنور في العام 1969م لأول مرة، واحتوت على عدد من الشخصيات المحورية والأساسية؛ كان من أهمها:
· حراجي القط: بطل القصة وهو فلاح ريفي بسيط انتقل من قريته في جبلاية الفار، إلى أسوان للعمل ضمن الآلاف الذين تم جلبهم للمساعدة في أعمال بناء السد العالي.
· فاطمة أحمد عبد الغفار: زوجة حراجي القط، وهي سيدة ريفية بسيطة، ولكنها تحمل –رغم بساطتها وسذاجتها في أحيان كثيرة- عقلاً ووعياً مستنيراً، ودافعاً قوياً للحياة وفهمها.
· طلعت أفندي: أحد مهندسي السد العالي، وهي الشخصية التي ساعدت كثيراً في نقل الوعي التقدمي لحراجي القط، كما ساعدت في توسيع مداركه. اتسمت شخصية طلعت أفندي بالبساطة والتواضع والعمق المُبسّط الذي ساعد حراجي القط على الفهم والاستبصار.
· الحاج حسين العكرش: مقاول "أنفار"، يذهب إلى القرى الريفية ويجلب منها العمّال، ويتقاضى مبلغاً من المال مقابل كل عامل يجلبه، وهو الذي طرح فكرة العمل في أسوان لحراجي القط للمرة الأولى। ورُسمت هذه الشخصية بطريقة تجعلك لا ترتاح إليه على الإطلاق.


بالإضافة إلى بعض الشخصيات الثانوية؛ مثل:
· الملوي : أحد رفاق حراجي القط، وأحد العمّال في السد العالي.
· علي أب عباس: أيضاً أحد رفاقه العاملين في السد العالي.
· مرزوق البسطاوي: عامل البريد الذي كان همزة الوصل بين حراجي القط وزوجته.
· نظلة: أخت حراجي القط.
· الشيخ قرشي: شيخ الكُتّاب الذي كان يُشرف على تدريس "عيد" ولد حراجي।


جاءت القصة في خمس عشرة رسالة متبادلة بين حراجي القط وزوجته الريفية فاطمة أحمد عبد الغفار، يحكي لها فيها عن مشاهداته وانطباعاته عن أسوان، وكيف أن العمل في بناء السد العالي كان سبباً في انفتاح بصيرته على عوالم كانت مجهولة بالنسبة إليه، وحرص هذه الزوجة الريفية البسيطة على معرفة المزيد عن هذه العوالم عبر تساؤلاتها الساذجة في ظاهرها، والعميقة في مضمونها।أظهرت القصيدة الكثير من الملامح المخفية عن حياة الريف المصري في أوجهها المختلفة، ونقلتها في قالب شعري سهل وممتع جداً، وناقشت القصيدة العديد من الأمور الهامة والمسكوت عنها في المجتمع الريفي؛ مثل: قضية عمل المرأة، وتنميطها في قوالب عتيدة ناشئة في الأصل من نظرة الرجل لها، وارتباط المرأة بالرجل فيما يتعلق العيش وكسب الرزق، وربما تظهر هذه اللمحة الاجتماعية ظاهرة فيما جاء على لسان فاطمة أحمد عبد الغفار من احتجاجها على وضع المرأة في الريف، واستحواذ الرجل على حق العمل، وربما لم يغب عن ذهن الشاعر المبدع سذاجة التدليل على هذا القول رغم عمقه ومنطقيته:


في حاجة تانية يا حراجي
إشمعنا الشغل تملّي للرجال
أمّال الناس كانت راح تعمل كيف
لو ربنا بس خلقها كلّها نسوان؟


كما تقول في ذات الإطار:
طول عمر المرة منينا يا ود خالي
ما سبوها تعمل حاجة في البيت
إلا إن كانت الشغلة قدام الفرن
وحط الطاجن ع الكوانين

وكذلك في قولها:
واحدة عفيّة زيي يخلوها للشيل والحط
مش ملي الجرّة والكنس


وهي إذ تطرح قضية مثل قضية عمل المرأة في التجارة في المجتمعات الريفية، فهي مستبصرة في الدرجة الأولى بخطورة ما تدعو إليه، ويظهر ذلك جلياً من قولها:


والنبي لو قلت كلام دي للجبلاية
لرد في وشي بيبانها
والنبي والرجالة ما تخليني أقعد مع نسوانها


ورغم البساطة التي تتناول بها فاطمة أحمد عبد الغفار هذه الجزئية؛ فإنها تندفع للقضية بفهم ووعي تقدمي مستنير وثوري، يهدف –ليس فقط- لجعل القضية شخصية تخصها فقط؛ بل تعرض القضية باعتبارها قضية عامة موجهة للمرأة، داعية إياها للثورة على هذا الوضع؛ فتقول:


وفاطنة ما تبقاش فاطنة بت أحمد
لو ما الجبلاية تعمل نسوانها زيّها يا حراجي


ويظهر إبداع الشاعر المصري العبقري «عبد الرحمن الأبنودي» في إيصال الأفكار التقدمية والعميقة عبر لغة ريفية سهلة وساذجة في كثير من الأحيان، كما في قول فاطنة أحمد عبد الغفار وهي تسوّغ لمبررات الرفض المحتملة لعملها في التجارة:


تتباع ملوخيتها في السوق يوم السوق
أيوه ...
حطلع أبيعها في السوق
وأنا رايحة فين؟
رايحة أبيع عرقي، وأجيب حقو
ما فيهاش حاجة


وكذلك في قولها:
هي أصحاب الشغل دي، مش ليها الشغل وبس؟
مالها إذا كنتَ أنا راجلة ولا مرة
أهو واحدة ضمن الأُجرا
تشتغل اليوم وتقبض أجرة
(...)

والواحدة منينا مدام متحشمة
وعنيها مش طايرة
مش تبقى خلاص راجل؟


كما أظهر لنا النص كيف أن المرأة الريفية تتمتع بذكاء فطري، وحرصها على القيام بواجباتها تجاه زوجها، وتجاه أهله كذلك، وربما كان موقفها من ولادة أخت زوجها "نظلة" أكبر دليل على ذلك، ورغبتها في رد جميلها بالوقوف إلى جوارها ومدّها بمئونة البيت واحتياجاته من قمح وسمن خلال مدة النفاس। وعلى العموم، فإن القصيدة تُعبّر بوضوح عن تماسك القرى والمجتمعات الريفية، وسيادة روح التكافل التي تتفرّد بها عن مجتمعات الحضر والمدن.ولكن في خضم هذه المعاني التي جاءت معبّرة عن الجوانب العاطفية الجيّاشة والتي يحملها كل من حراجي وفاطنة أحمد عبد الغفار عبر رسائلهما؛ ورغم أن ظاهر هذه الرسالة هو الاحتفاء بقصة بناء السد، وإعادة الحق للعمّال الذين تم إهمال ذكرهم في كل الملحمات التي ذكرت السد العالي كما يقول الشاعر:


في الراديو يا فاطنة يقولوا:
بنينا السد .. بنينا السد
لكن ما حدّش قال:
السد بناه مين
بنوه كيف
نايمين ولا قاعدين


واعتبرت القصيدة بمثابة عرفان بفضل هؤلاء العمّال المنسيين، والذين كانوا يُعانون من التهميش حتى قبل الانتهاء من بناء السد أو بعده، تلك الحقيقة التي عبّرت عنها فاطنة أحمد عبد الغفار في قولها:


إذا جيت مكسور
السد يا راجلي رايح ينفعنا بإيه
هو اللي بيخرب حِدا واحد
الواحد ده بيعسّ عليه؟
أبداً
(...)

يعني بعد ما تخرب يا بو عيد
حيقول حراجي كان شغال ومفيد
أدولوا وظيفة بيه؟
(...)

أهي هيه هيه الحدوتة
مش كنت هنا بتزرع في أراضي الغير
وآخر الحول تكون اتهديت
والغير ياخد الخير
عندك نفس القصة يا حراجي
صدّق فاطنة وتعال
هات الرجّال وتعال
لو راح يدوك كانوا ادولك
همّا ما عاوزين منك يا حراجي
غير حيلك
لميتى حنقعد عُبطة كده
يلعب بدماغنا ديت وده


كما أن القصيدة حاولت الإشارة إلى محنة الريف وأبناء الريف عبر أبنائها الذين يتاجرون بعرقهم، معتمدين في ذلك استغلال حوجتهم وجهلهم। وتمثل هذا الدور في شخصية "الحاج حسين العكرش" الذي تناولها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي بكل تفاصيلها الاستغلالية والجشعة في هذه المقاطع:


أقول لك؛ أنا ح أحكيلك ع الحاج حسين العكرش

أصلنا في الجبلاية يا فاطنة
كنا ماخدين أكبر مقلب في حسين العكرش
يا حاج حسين .. يا حاج حسين
قِطع الحسن، وقطع الحاج حسين
وقال لما كنا نقابلوا جاي من سفرية
نجري عليه ونقوم بالواجب
كبّرناه
(...)

الشخص اللي يملك يقلب بيت اتنين
زيّي وزيّك بمشاورة يد
وقلب عمري وهو قاعد قصد الدكان
بعزقنا .. كل ما منا بعزقو ريح
(...)

العين الماشية وسطيهم
تتفرّج ع الوِلد وهيا بتكبر وتشب
ويحلم باليوم اللي يسلمهم فيه
فسفات
شرطان سكة حديد
كبريتأسوانترمي وتقبض
وتروح الولدات وتغيب
الأُمات تتلطّع تحت الباب
وعلى العتبان
تستنى اللي ما بيجوش
أهو ده يا فاطنة هوّ الحاج حسين
أهو ده يا فاطنة هوّ الحاج حسين نفسو
مش الصورة
هوّ ده الحاج حسين
اللي بنفد من إيدو ولادي
عزيزة وعيد
لازم يكبروا في طريق تاني
يمشوا في طريق تاني بعيد
ما تفعصّش في لحومهم بصّة
ذاك العكرش
اللي لابس صوف ومكرّش
من وكل اللحم
وشرب عرق ولدات الناس


ورغم الموضوعات الظاهرية التي ناقشتها القصيدة؛ إلا أنّ هنالك رسالة سرّية تم وضعها بخفة ومهارة بين طيّات النص، بصورة مُبسّطة ومخفية। هذه الرسالة السرّية التي وضعها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي كانت في حقيقتها تُعبّر عن أيديولوجية مقصودة في ذاتها، وقد تضمّنت القصيدة تلميحات سريعة لهذه الأيديولوجيا، وهي المسحة الشيوعية التي جاءت متسقة تماماً مع البيئة العمّالية؛ حيث تفرض الفكرة الشيوعية نفسها بقوة من خلال علاقات العمل بين العامل وصاحب العمل، وصراع الطبقات. ويُمكننا قراءة هذه الأبيات لنلمس المسحة الشيوعية فيها:


روسيا .. اسمها روسيا
دولة، دولة كبرانة
والناس دي يا فاطنة
مش مجبورة ع الشغل
عشان روحا
مجبورة عشانا إحنا
نقف على رجلينا
ويكون الواحد مننا حر
كانوا غلابة زيّنا يوماً
لكن –ويا فاطنة- يا ويل
الدنيا من قومة الفقرا الأجرا
مش وقتو
ده موضوع طولان ..
وعلشان الواحد يحكيه
عايزلو ورقة جرنان
حكاية إن الدنيا دي فيها غلابة وديابة
ده موضوع عايزلو ربابة
ومداح وطران


وربما كان الشاهد الأكثر وضوحاً في هذه الأبيات هول قوله: "يا ويل الدنيا من قومة الفقرا الأجرا) في إشارة لثورة البوليتاريا (ثورة العمّال) التي قامت في روسيا من قبل। وربما كان من المعلوم للجميع أن الشيوعية كفكرة قامت ضد الرأسمالية التي استغلت العمّال في عهد الثورة الصناعية التي قامت في أوروبا أول الأمر، وهنا في هذه القصيدة العديد من المقاطع التي تذكر "العمّال" واستغلال أصحاب العمل لهؤلاء العمّال.


وكان الشاعر بحنكة خفية، يحاول في كل مرّة الإشارة إلى الطبقات المسحوقة، في صراعها مع القوى الرأسمالية والبرجوازية، وفي ذلك نجده يقول على لسان حراجي القط:


وأما قالوا لي في النادي : "قوم ॥ده نادي موظفين"

صرخت في قلب أبوهم:
"نادي مين؟ موظفين؟ إيه يعني موظفين؟
مين إنتو علشان تقولولي قوم؟
اللي ما واحد منكم شفتو في الموقع تحت
اللي ما واحد منكم داق لو يوم في الكحت
قال إيه؟ جايين أسوان يلعبوا بلياردو!"
وبرضو اتلموا عليّ وطردوني
وبرضو حلفت ليجي اليوم
اللي يتعدّل فيه الأمر
اللي بنا هوّ اللي يحترموه
واللي مالوش في الشغل
مالوش في الراحة يا فاطنة
آه م الصح وم الغلط الشابكين ف بعض
وطالعين زي السبلقة والعلّيق من نفس الأرض


وكذلك قوله:
ناس طول العمر تمشي شايلة على كتوفها
هوادج فيها ناس من أتقل ناس
ناس م النوع اللي ما بيضحكش
تصرخي مهماً تصرخي ما بيسمعش
وإن يسمع ما بيستعناش


وقول الشاعر على لسان فاطنة أحمد عبد الغفار:
بتفرّق عمرك على مين يا حراجي ؟
على مين؟
الوارثين في الدنيا
حيفضلوا وارثين
واللي اتولدوا تحت سراية العز
حيفضلوا مادين الإيد
لا ح يدخلوا م البوابة
ولا همّ طالعين


وقوله كذلك على لسان حراجي القط:
والناس مسافات وسلام
سواق النورج
النسّاج
العالمصاحب الشغل
وخالي الشغل
والكدّاب اللي يزوّر
واللي يغيّر معنى الآية
كلو هنا حوليّا
وفي الشغل معايا


وأشار الشاعر في كثير من المقاطع إلى عمليات استغلال الرأسمالية للعمّال، وكيف أنها تتعامل معهم كسلعة وكيف أن هذا التعامل يُشابه في كثير من الأحوال عمليات بيع وشراء العبيد। حاول الشاعر عبر هذه التلميحات أن يُشير إلى فكرة الرق والاسترقاق عبر الاستغلال، فنجده يقول مثلاً:


في السد يا فاطنة ...

صنفين م الأنفار:
صنف اللي تبع الشركة
وصنف مع مقاولين
وأنا كنت مع مقاول
من يوم ما باعني الحج حسين
لحين ما الأستاذ طلعت
دلدلي حبال الخير
ونتعني من الكحت
ونجدني من تعب الأنفار


وكذلك قوله على لسان حراجي القط وهو يُخاطب زوجته:
حسين العكرش اعتبريه دكان
والبيّاع بيتاجر في الإنسان
الحتة بخمسة وعشرين .. تلاتين
قبّض وأديلك
عمرنا في الجبلاية يا فاطنة
ما بصينا لحسين العكرش
على إنو بيتاجر في الناس
ولا جبلاية الفار للآن
عارفة مين هو حسين العكرش


وربما جاءت –أيضاً- تلميحات سريعة يطرح فيها الشاعر فكرة المادية التاريخية، وأخرى تطرح نظرية النشوء والارتقاء وذلك على لسان شخصية "طلعت أفندي" الأمر الذي يجعلنا نقول إن طلعت أفندي كان أحد العناصر اليسارية، وحرص على نقل هذا الوعي إلى حراجي القط لما لمس منه من ميل جارف للمعرفة والتنوير। فنجده يقول عن الإنسان:


كيف جيه متفنّط ع الأرض حوان
كيف أصبح لا حوان ولا جان
إمتى حكم الإنسان الدنيا
وإمتى الدنيا قدرت على حكم الإنسان
ناس تبقى شجرة
وناس تبقى مصابيح
أقوى م الريح
وناس تبقى ديدان


ومثلما إن التيارات الفكرية اليسارية تُمجّد العلم في مقابل الخرافة، فإن الشاعر لعب على هذه الثيمة في كثير من المقاطع، مؤكداً على أن العلم هو من بيده أن يجعل للإنسان معناه الإنساني، وهو من يُحقق التغيير، ويجعلنا نرى هذا العالم بصورة مغايرة عما تمنحه لنا الخرافة فنجده يقول مثلاً:


العلم يا فاطنة ॥ العلم ده أمره غريب

دمغات زي الدمغات اللي في جبلاية الفار
لا إيد زايدة ولا وِدن
لكن بتسوّي الأعاجيب


وكذلك قوله:
لكن العلم يا فاطنة بيلبسنا ناظور
وحيطنا في النور
نوعى لكل الحاجة ونعرفها
مهماً نمشي فيها ما يقابلنا شي جديد
تقع الضحكة
والقلب ما يفرحش
لا ضلة ولا شمش
لما يكون الكون كله مش مفهوم
الخير ॥ والشر
الإيد الممدودة تولّع لنضة
والإيد الممدوة تدار الحر
الإيد الممدودة دعا
والإيد الممدودة ضر
(...)

يتحبس الإنسان في العلم وحيد
خالي
حياتو فايضة، فاضية زي المساجين
الدنيا علم
والعلم أوحش ما في راسو
إنو ما يعرفش إيه طعم حلاوة الحلم
العلم يحقق الأحلام
لأنو ما بيحبش يبقى فيه في الدنيا حلم


وهكذا فإننا نرى أن الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، استطاع من خلال قصيدته الرائعة جوابات حراجي القط أن ينثر –بالإضافة إلى اللمحات الإنسانية العميقة، والعديد من القضايا الاجتماعية الهامة- بعض القضايا الفكرية التي جاءت متوافقة تماماً مع جو النص، لتخدم خطاً أيديولوجياً محدداً، ولكن بطريقة فنية راقية جداً، وفي نفس الوقت بلغة سهلة ومبسّطة؛ حيث أنه أجاد في شرحه لنظرية الملكية الفردية والملكية العامة وذلك في قوله:


زوجتي فاطنة
مش عارف إنهين كان يبقى الأحسن
الشغل كده .. ولا لو أدوني مقطوعية
في جسم السد
مقطوعية أخلصها في سنة في اتنين
في تلاتة ف عشرة
أهو أبقى عارف اللي عملتو وبس
يبقى اسمي عليها ولا ما يبقاش
مش ده المشكل
إشكالي يا بنيّة خالي
إني مش عارف فين اللي عملتو
في الهيصة الكبرانة دي
في شغل حراجي
الشغال من سنتين في السد؟
يعني اللي ياجي يقول لي:
"فرجني على شغلك يا حراجي"
كيف حنطق وأرد؟
المواسير والصواميل
اللي طلعت عيني فيهم
ح أعرفهم كيف من بين صواميل
الناس التانيين؟
أهو عندك كانت الشغلانة
بعد ما تخلص معروفة

نمشي ونقول:
"والله كبر قمحك يا شاهين
زارعو بإيدي يا رجالة وراويه"
ببقى عارف ..
في اليوم الواحد ده
عامل بالضبط الشغلانة دي
لكن في الغول الواقف قدامي ده
محدش عارف اللي عملو ده
من اللي عملو ده
بيسفّ في جوفو اليوم
وما يشبعش
مش يومي أنا لوحدي
لا ..
يوم الألوفات دي
يوم الألوفات اللي بتنطق زيي بالعربي
واللي بتبرجم ويترجم بالأفرنجي


إلى أن يقول:
طب إيه الفرق ما بيني وبين طلعت أفندي
والملوي أو خواجات الروس؟
أهو كلو بنا ويبقى السد بتاع الكل
حكاية مليحة
ما يبقى أنت كمان اللي دفعتي
سنتين من عمر حراجي
وسنتين م الشوق والصبر
ليكِ زيينا يا فاطنة في السد

وفي كل هذه الإلماحات؛ فإن الأبنودي لم يغفل التطرّق إلى إشكالية الوعي المجتمعي، أو عقلية القطيع، المتشكّل مسبقاً بقوالب جاهزة ومنمّطة، تجعل عمليات التغيير أكثر صعوبة، وفي ذلك يقول على لسان حراجي القط:

مشونا أمانا وأباتنا السكة غلط
لو نستعقل حد غريب
نبقى ف عين كبراتنا يا فاطنة
زيّ اللي كسروا صندوق الجامع
ولقينا الدنيا موروثة خلاص
متقسمة عايلات وبيوت:
بيت صالح
بيت العكرش
بيت أب سلمي
ده أبوي
ودي أم مرات عمي
والبيت ده ما يفتحش
في وش البيت ده غير بابو
عمرنا في الجبلاية يفاطنة
ماشفنا بيوت فاتحة قلوبها لبيوت
إلا لمّا حدّ يموت
الموت بس اللي بيجمّعنا يا ناس جبلاية الفار
نقعد مع بعض
كأننا نخل ف كرم
إن هبّت ريح ع الكل
إطوحنا زي الكل
تنخر فينا العتة في مطارحنا
ما نتقدّمش
اللي يتقدّم ... كافر
نقعد
لا نصرخ .. ولا نعافر
لمن نموت
بعد الزول ما يموت منينا
يدوّر على أخوه التاني
الحقاني
يدوّر على مرتو اللي كان
نفسو يجوزها يا فاطنة
ولا اجوزهاش
في الجنة بس يا فاطنة يقدر
أيها واحد يمشي مع أيها واحد


لقد نجح عبد الرحمن الأبنودي أن يُبشر لأيديولوجيته الخاصة في هذه القصية وأن يوظفها توظيفاً صحيحاً بحيث يصعب علينا أن نفرّق بين "حدوتة" النص، وبين المعاني التي ترمي إليها، وفي كل مقطع من مقاطع النص الشعري، نجد العشرات من التلميحات السرّية التي أخفاها الأبنودي بذكاء حتى يستطيع أن يوصل فكرة الشيوعية ومبادئها دون أن يصطدم بشكل مباشر بتابوه الدين الذي كان هو الحال في كل مرّة أمام فهم الشيوعية أو استيعابها، طالما ظنّ الناس أنها فكرة لم تأت في الأصل إلا لمعاداة الدين، والتخلّص منه. أراد الأبنودي من هذه القصيدة أن يبعث إلينا برسالة سرّية مفادها أن فكرة الشيوعية لا تهتم بقضايا الدين والتدين، وإنما تهتم بقضية العدالة واقتسام الإنتاج والسلطة، وأنها تحرص كثيراً على تحقيق هذه العدالة ونشر مبادئ الحرية والمساواة، وأن نظرة الشيوعية للعدالة قائمة على مبدأ الإنتاج (بقدر ما تنتج؛ بقدر ما تأخذ)، وبهذا فهو يسعى لإزاحة الغبار المتراكم الذي سعت العقليات الدينية أن تهيله على الفكرة بمهاجمتهم المستمرة وتصويرها بأبشع الصور التي تجعل الإنسان العادي البسيط ينفر منها؛ لأنهم على الدوام يستخدمون –في محاربتهم للشيوعية- على سلاح العاطفة الدينية واستغلالها في إقصاء هذه الفكرة ووئدها حتى قبل أن تتاح لها الفرصة العملية للتطبيق في مناخ ديمقراطي مناسب.

الخميس، 2 أبريل 2009

أرتكاتا غربة تامة



المصدر : جريدة الرأي العام السودانية
تضاريس 107

منذ السطور الأولى التي نطالعها في رواية (أرتكاتا) سيجد المرء نفسه في عالم روائي سوداني شاب هو هشام آدم يكتب عن مجتمع ليس مجتمعه ويصوغ حياة شخوص ليس من بينهم ممثلون ولو من بعيد لبني جلدته فالبلد اسبانيا والشخوص اسبانيون . تبدأ الرواية هكذا» كنا على وشك الرحيل عندما قبلتني (سوليدا فيدل) جدتي وتستمر سطور الرواية الأولى لتكشف لنا عن اسم البطل «كاسبر سارجينيو» وأخته «جوليتا سارجينيو» وقد ولدا كليها بعد زواج أبيهما من أمهما في العام 1971 ومع ذلك أصيب كاسبر - الذي ولد في العام 1974في الرحلة من ارتكاتا إلى كوينكا- بالجدري وهو مرض كما نعلم أصبح يتعذر الإصابة به خصوصاً في بلد أوروبي بعد ان تم القضاء عليه حتى في دول العالم الثالث نفسها منذ تلك الفترة البعيدة.

تشترك رواية هشام آدم مع رواية (الحياة السرية للاشياء) للكاتب محسن خالد في كتابة تمثل بالنسبة لي غربة تامة عن مجتمعاتنا.. فقد كتب محسن روايته تلك عن أشخاص امريكيين وبيئة امريكية وذلك بخلاف روايات ليلى ابو العلا وجمال محجوب وبالطبع بخلاف موسم الهجرة ونظائرها في الأدب السوداني والعربي أوالافريقي فتلك كلها روايات عمد كل كاتب من كتابها إلى إشراك شخصيات قريبة من وجدانه نظراً لقربها من عالمه لتشترك في العوالم الأخرى الغريبة عنه وتتفاعل معه.

لكن في رواية هشام (أرتكاتا) فالأمر مختلف. وقد قلت للكاتب هشام آدم في ندوة اقيمت بجدة إن خير ناقد لرواية ارتكاتا سيكون إسبانياً بحيث يؤكد لنا تماثل الشخصيات التي سرد عنها الكاتب مع مواطني اسبانيا حتى لا تبدو الرواية غريبة في تصويرها لذلك الواقع وأولئك الأشخاص فتصبح من بعد ومن قبل في غربة تامة عنا أي نحن القراء المستهدفين الذين يصورالكاتب لنا، وعنهم أي عن الذين صورهم.

كتبت الكاتبة رانيا المامون في ثنايا تقديمها للرواية تقول: « تماهى الكاتب تماماً مع المناخ الإسباني إلا انني تمنيت لو أنه صور للقاريء البناء النفسي للشخوص ،وحتى البناء المادي لها من شكل وبنية جسدية ، كان هذا سيضيف عمقاً وغنىً لها ويجعلها أكثر إقناعاً وحياة فقد بدت لي كطيوف وليست كشخصيات ملموسة لها أبعادها.. « وكما ترى فإن رانيا مامون أصابت كبد الحقيقة .ويتعذر على كاتب لم يعش الجوهر الإنساني برمته « كلية العلاقات الاجتماعية» في اسبانيا ان يكتب رواية شخوصها اسبان وأمكنتها اسبانية وعبير أمكنتها اسبانية بينما هو سوداني.وبالتالي فإن مثل هذا الأدب يبدو للقاريء أدباً مترجماً إن كتبه هشام آدم أو غيره من الكتاب الشباب، ويبدو الحال هنا مثل كتابة أغنية بالانجليزية تخاطب حبيبة أمريكية لكن بلغتنا أما العاشق الذي يتقمصه الشاعر فامريكي طبعاً وكان سيكون هناك فرق كبير لو أنه كان من اقوامنا، أما اللحن فغربي صرف وكذلك الآلات الموسيقية لكن الجمهور المستهدف فمن عندنا.هل ترى يحس مثل هذا الجمهور بالغربة عن هذه العوالم أم أن العولمة في زحفها المقدس قد طمست كل شىء؟ خلت رواية هشام آدم من الحوار تقريباً وقد أفاد الكاتب الحضور في الندوة المذكورة بأن الحوار حسب قناعاته غير ضروري في العمل الروائي.

زمن الرواية يتم في الفترة من بعد منتصف السبعينيات إلى سنوات قريبة في مطلع الالفية ويكشف ذلك أحد الحوارين الوحيدين في الرواية:

- من على الخط؟
- صديق قديم …
- من مدريد؟
- ربما. هل تتوقعين شخصاً بعينه؟
- في الحقيقة أتمنى أن تكون كاسبر سارجينيو . فهو الوحيد الذي انقطعت أخباره منذ العام 98

هل يمتلك الكاتب هشام آدم إمكانيات روائي؟ نعم . وفي ظني هي امكانيات ملموسة . لكن بي توق لأن يوجه شراع سفينته نحو بحارنا وإن كنا قد بدأنا الكشوف الجغرافية لبلدنا وتضاريسها بعد الاسبان.

الأربعاء، 1 أبريل 2009

جريمة بتوقيت جرينيتش


كان يتصبب عرقاً إذ لم يسبق له أن دخل مخفراً من قبل. الضابط الذي كان ينفث دخان تبغه المستورد كتنين أسطوري منقوش على إحدى جدران معبد منغولي قديم كان يُثير فيه جلّ الخوف المتشعّب كأوراق شجرة أناناس استوائية في موسم لا وجود له إلا في مخيّلة الرسّامين البوهيميين. كان الاتهام الذي يُوجه إليه وحده كفيلاً بجعله يتمنى ألا يكون محسوباً من الفصائل البشرية. جريمة قتل من الدرجة الأولى. سيدة ثلاثينية جميلة، عثر عليها في شقتها شبه عارية، والدماء تنساب منها كنهر لا سلطة له على مجراه. كانت تلك التجربة الجنائية الأولى في سيرة صبري نايلون المسالم حدّ الجُبن. يتذكر صبري هستيرياه الطفولية الخاصة عندما كان الأطفال يضحكون عليه في سخرية: “قلبك خفيف زي كيس النايلون!” ومن يومها التصق به اللقب ولم يفارقه.

اهتز المكان للمرة الثانية خلال عشر دقائق: أين كنت في تمام الساعة (3:30) من عصر يوم أمس؟ وكانت الإجابة دائماً تأتي مرتجفة وفاترة: كنت في كل مكان! لم يستطع صبري تحاشي الجملة التي اعتبرها المُحقق هازلة واستفزازية ولكنه كان يحاول أن يقول الحقيقة معتمداً على قدرة تعابير وجهه في إقناع التنين المنغولي بصدقه وبراءته.

لم يكن المُحقق رغم فترات صمته الطويلة يُعطي صبري نايلون الفرصة الكافية لتذكّر تفاصيل يوميه بالأمس. كان يُحاول جاهداً أن يتذكر أيّ شيء ذا صلة بالموضوع؛ غير أنه كان دائماً يعثر في صندوق ذاكرته على أشياء سخيفة وتافهة: تذكر اللحظات السعيدة التي عثر فيها على بسكويت أولكر كان قد نسيه في درج مكتبه ووجده في حالة جوع طارئة منتصف نهاره المهني. تذكر مكالمته مع أمه وحدثيهما عن الإنجاب ورغبتها في ألا تموت قبل رؤية طفل منه. تذكر تفاصيل نكتة ماجنة كان قد أرسلها إليه أحد أصدقائه القدامى في رسالة قصيرة على هاتفه النقال. تذكر جماع قطتين في الشارع، وفقدان نظارته في المكتب، ومشاجرة صبيانية بين اثنين على الطريق العامة، وخبر قرأه في شريط التلفزيون الإخباري عن انفلونزا الطيور. ولكنه لم يتذكر شيئاً عن الجريمة.

كل ما يعرفه عن الجريمة هو القتيلة، وكل ما يعرفه عن القتيلة لم يُخفه عن المُحقق: امرأة ثلاثينية، جميلة، مطلقة، معتدة بنفسها، ذكية، تعمل صيدلانية في إحدى المراكز الصحية القريبة، ورغم الكاريزما التي تتمتع بها إلا أنها إنسانة غاية في اللطف. لم يتصادفا إلا لِماماً على درج المبنى في أوقات لم يحاول ضبطها ودراستها من قبل. لا يعرف متى تذهب إلى العمل ولا متى تعود. لم يسأل نفسه هذه الأسئلة التفاهة التي اعتبرها فضولاً من النوع المزعج. فلا بد أنها تذهب في الصباح وتعود في المساء!

يقول المُحقق أنه عثر عليها مقتولة في شقتها في تمام الساعة (3:30) عصر أمس. ولكن كيف له أن يعرف مقدار هذا التمام إلى وقته الهلامي؟ ذلك اليوم كانت ساعة المسجد المعلقة أعلى المحراب تشير إلى الساعة (3:17) والساعة الميدانية العملاقة إلى (3:15) وساعة المصعد الرقمية إلى (3:12) والساعة الحائطية في مكتبه إلى (3:16) وساعته اليدوية إلى (3:14). يؤمن صبري نايلون أنه يعيش في زمان ما بين هذه الأزمنة المختلفة، وألا زمان حقيقي على الإطلاق، كل الأشياء لها أزمنتها الخاصة والأزمنة نفسها تدور في زمان خاص بها لا نعرفه؛ ربما نشعر به، ولكن لا يُمكننا القبض عليه والإمساك به وتقييده في زمن خاص بنا نحن.

قال في نفسه: إذا كان المحقق يقول أن شاهيناز قد قتلت في تمام الساعة (3:30) فلا بد أنه اعتمد على توقيته هو: ساعته اليدوية، ساعة الطبيب الشرعي اليدوية أو ساعة حائطه. فكم كانت تساوي ال(3:30) بحساب الساعة الميدانية العملاقة؟ أو بحساب ساعة المصعد الرقمية؟ أو بحساب ساعة المسجد؟ أو بحساب ساعته هو اليدوية؟ كم كان تمام الساعة الميدانية العملاقة حين كان تمام ساعة المحقق (3:30)؟ وكم كان تمام ساعته اليدوية؟ بل وكم كان تمام الزمن الفعلي أو الساعة الفعلية للزمن؟ كيف لي أن أعرف أين كنتُ في توقيت ساعته؟

ضرب المحقق بقوة على طاولته فاهتزت بعض الأوراق وتناثرت عيدان تنظيف الأسنان الموضوعة على جانب منها، وسمع صبري صوت رنين خافت لساعة المكتب المنبهة. نظر إليها طويلاً بعد أن رجف واهتز بدنه بقوة من أثر المفاجئة ثم قال: كم كانت ساعة مكتبك حين كان زمن وفاة القتيلة (3:30)؟