الاثنين، 13 أبريل 2009

في رثاء الثقافة والمثقفين

إنه لمن الغريب أن يتزامن انحطاط الثقافة مع نهضة العلوم التكنولوجية والرقمية، فبدلاً عن أن يخدم هذا التطور التقني الأدب والثقافة؛ كان خصماً عليهما دون شك. قبل دخول الإنترنت إلى بيوتنا وعوالمنا الخاصة والعامة، كانت المعرفة تشق على غير الراغبين فيها، وبالتالي فإن الإنسان العارف والمثقف والمتعلم كان يجد حظوته ونصيبه من الاحترام والتقدير. أما وقد أصبحت المعرفة متاحة للجميع بضغطة زر واحدة؛ فإن هذا مما يجعلنا نصاب بالدهشة، لأنه أصبح بمقدور الجميع الآن أن يدعي المعرفة والثقافة وبانورامية المعلومات.

يُذكرني هذا بمقاربتنا بالإنسان الأول الذي كان يخاف من النيران ويخشاها لدرجة العبادة في بعض القبائل والثقافات، بالإنسان الحديث الذي تمكن من التحكم في هذه النيران؛ بل وحبسها في قدّاحات، تماماً مثلما في الميثولوجيا الدينية وقصة النبي سليمان وسيطرته على الجن، وحبسهم في خواتم وجرار ومصابيح زيتية. وبعد أن كانت النيران مصدر رهاب مخيف بالنسبة إلى الإنسان، أصبح وسيلة لإنتاج الطاقة، بل ووسيلة ترفيهية يستخدمها حتى الأطفال: في أعياد الميلاد ورأس السنة، وربما لم تأت عبارة (ألعاب نارية) إلا توضيحاً لهذا التطوّر المخيف الذي يسير إليه الإنسان.

إن الكلام عن التطور التكنولوجي وموقع المثقف من هذا العالم الآن؛ في عصر المعلوماتية والأطياف والموجات لهو كلام متشعب جداً، لأن الأمر أصبح مرتبطاً باحترام المعرفة والثقافة مع عدمه، متفرعاً إلى الكلام عن ماهية الثقافة والمثقف ودوره من جديد. ولابد أن يقودنا ذلك إلى الحديث عن علاقة كل من الفلسفة والأدب والفن، لأنه أصبح من الواضح انفصال هذه العلوم الإنسانية عن بعضها في هذا العصر الذي تمايزت فيه التعريفات وتداخلت فيه وظائف كل جنس من أجناس هذه العلوم بطريقة تدعو للدهشة والتعجّب.

ومنذ عصور سحيقة كانت الطبقات المثقفة والعارفة تأتي في درجات عليا في المجتمع، فكان الفلاسفة على قدم المساواة مع طبقة النبلاء ورجالات الدين ثم يأتي العامة والرعاع فالعبيد في أدنى الدرجات. وبصرف النظر عن أخلاقية هذا التصنيف وصحته، فإن ذلك كان يُعبّر عن مكانة العلم والمعرفة وتقديمه على كثير من التصنيفات الأخرى. أما الآن فقد أصبح المثقف مادة للسخرية والتندّر. ومع التقدّم الهائل للتكنولوجيا والمعلوماتية فقدت المعرفاتية رونقها وبريقها الذي اشتهرت به، ويبدو ذلك في تدني الاهتمام بالقراءة والمثقافة وأعتبر كل ذلك شكلاً من أشكال الوهم المعرفي الذي ساعد على إعادة تصنيف الناس إلى طبقات يأتي فيها الممثلون والمغنون والرياضيون على قدم المساواة مع رجال الدين والأثرياء؛ ولا غرو في ذلك إذ أنها قنوات سهلة وسريعة للثراء.

وإن كنتُ أتكلم في رثاء الثقافة والمثقفين، فإنني –في الوقت ذاته- أرثي غياب الحس والوعي الفني على الصعيدين: الموسيقي والدرامي. فكما أن الطحالب المُعوّقة قد نالت من المعرفة والعملية التثقيفية، فإنها تمددت بكل قوة إلى توربينات الفن فعطّلته وشوّهته تماماً.

ولأن الشيء يكتسب حظوته من ندرة عارفيه وممارسيه، فإن المثقف كان له تلك الحظوة والمكانة التي يستحقها؛ وكذلك العلماء والفلاسفة والمفكرين والفنانون. واليوم، وبفضل الإنترنت وإمكانياته اللامحدودة؛ فقد أفرخت العديد من المخلوقات المشوّهة: أشباه مثقفين، وأشباه فنانين، وأشباه تشكيليين، وأشباه مفكرين، وأشباه مؤرخين. وتوضّح لنا المقاربات الكميّة والنوعية تفاصيل مروّعة عن هذه الحقبة التي نعيش فيها اليوم بفضل ما أنتجته الرأسمالية من كائنات طفيلية مُدعية. فكم عدد المغنيين في العالم العربي؟ ماذا قدّموا من جديد لهذا الفن؟ ما هي رسالتهم؟ والسؤال الأهم من كل ذلك: إلى أين يقودوننا بهذا الجنون الأرعن؟ ذات الأسئلة يُمكن طرحها عن الثقافة والمعرفة والسياسة وكافة الفنون والمعارف الإنسانية التي أشبه كل من هبّ ودب يدعي المعرفة بها.

لقد ولّدت ثقافة الإنترنت والفضائيات زخماً مثيراً للاشمئزاز، ليس فقط أدى إلى تدهور الفنون والعلوم، بل الأكثر من ذلك عمل على تهميش دورها الحقيقي، وتحنيطها في متحف الحياة العصرية المتسارعة. وبدا المثقفون مخلوقات غريبة على هذا العالم، لا تقدّم شيئاً إليه سوى الكوميديا الهزلية المثيرة للضحك والسخرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق