عندما اعتلت حكومة ما يسمى بالجبهة الإسلامية الحكم قبل عشرين عاماً سارعت برفع شعارات إصلاحية مسبقة الصنع لتخفيف ردود فعل الشارع السوداني إبان الانقلاب الذي كان يمثل المرآة السحرية التي تعكس وجه الحكومة القبيح. ولأن التحدي الحقيقي أمام الحكومات هو قدرتها على تحقيق الوعود ما يجعلها في محك حقيقي أمام شعوبها للتدليل على مصداقيتها من عدمه، فإن حكومة ما يسمى بالإنقاذ عجزت حتى بعد كل هذه السنوات على تحقيق المعادلة مستحيلة الحل على أرض الواقع ، ليسقط بذلك قناعها الذي ظلت مصرّة على ارتدائه. وفي الحقيقة فإن قيام حكومة مثل هذه الحكومة لخطأ تاريخي سيظل عالقاً في عقول الجماهير ويظل يذكرهم بأن لا مخرج لهذا الشعب إلا الديمقراطية والتي بدورها تستحيل في ظِل حكومة قامت في الأساس بطريقة غير ديمقراطية.
الهراء الذي تعنيه مؤسسية الحكومة بجميع أنوعها وأشكالها السرطانية يوضح بجلاء عجز هذه الحكومة على البقاء بغير شرطية السلاح والذي هو الفرس التي تراهن عليه في كل مرحلة. والسلاح كأداة من أدوات القمع في حدّ ذاته يهدم خرافة الديمقراطية التي تنادي بها الحكومة التي تتنفس برئة واحدة.
ولنقف على اليوتوبيا Utopia التي تستخدمها الحكومة في خطابها السياسي، علينا أن نقدّم كشف حساب تفصيلي يتضمن (خطرفات) المراهقة السياسية التي مارستها ما تسمى بحكومة الإنقاذ ابتداءاً باسمها (الإنقاذ) وحتى آخر الشعارات حداثة.
شعار : فلنأكل مما نزرع ولنلبس مما نصنع:
شعار رفعته الحكومة المسماة –اعتباطاً- بحكومة الإنقاذ، حاولت به التلميح لمرحلة الاعتمادية والاكتفاء الذاتي عن المعونات الدولية وبالطبع فقد رافق هذا الشعار مجموعة من الشعارات العدائية للقوى العالمية متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية ودولة إسرائيل –وسوف آتي على ذكر هذه الشعارات أيضاً– هذا الشعار الذي يهدف إلى تفعيل الكوادر الوطنية لاستغلال الثروات القومية حاولت به الحكومة إيهام الشارع السوداني ضاربةً بذلك على الوتر الحسّاس في محاولة لتمرير ودعم مشروعها الحضاري الذي تبنّته منذ انطلاق الرصاصة الأولى والمسمار الأول في نعش الديمقراطية ألا وهو تطبيق الشريعة الإسلامية.
وبعد هذه السنوات التي مضت على اعتلاء الحكومة سدة الحكم في السودان، فإننا نجد أن الوضع الاقتصادي لا يسير إلا من سيئ إلى أسوأ. وإن خيرات البلاد توزّع في الخفاء مقاسمةً بين رجالات الحكم وأرزقيته من قوت الشعب المغلوب على أمره. ويظل الوضع الاقتصادي الأعرج يسير بعرجته من سيئٍ إلى أسوأ. فدخل الفرد لا يكاد يسد الرمق وبدأ سودانيو الداخل في الاعتماد شبه الكلي على ما يصلهم من مساعدات من ذويهم في الخارج. وآخرون آثروا أن يسايروا التيار وأن يقتاتوا من الفتات الذي يلقي به النظام في طريقهم. وبهذا طفت على السطح الطبقية الواضحة: الرأسمالية ويمثلها أرباب النظام وسدنته، والبرجوازية الانتهازية ويمثله التجّار وأرزقية النظام والمغفلين النافعين وفئة أخرى تقبع تحت خط الفقر. وهنا أقف على ما قاله الشاعر الصادق الرضي :
لماذا لم تقل
أنّ العمارات استطالت
أفرخت أطفالها الجوعى
على وسخ الرصيف
ولا يخفى على الجميع فضائح المشاريع الزراعية الكبرى في السودان من سرقات وأتاوات فرضتها الحكومة على المزارعين المغلوب على أمرهم في شكل التسهيلات المزيفة التي ادعى بتحمل أعبائها بنك المزارع وما كانت إلا نهجاً واضحاً من الحكومة في إغراق المزارعين بالديون وبالتالي سرقة إنتاجهم من محاصيل زراعية تارة باسم الضرائب، وتارة تحت بند سداد القروض المؤجلة، وتارة بحجة دعم المجهود الحربي، ليخرج المزارع بعد حولٍ كامل من الجد والتعب بلا حول ولا قوة؛ كما لا ننس المشاريع التي قامت لخدمة مصالح حكومية على حساب قوت الشعب تجعل من تلك الشعارات الزائفة محض خِرق بالية غير قابلة للتصديق.
وإذا عرفنا أنّ السوق السودانية ما زالت تعتمد على الاستيراد لسد حاجة المواطنين إما عن طريق ضخها بهذه السلع عبر تجارة الشنطة أو التهريب عبر الحدود، وإذا عرفنا أنّ مؤشرات العرض في ارتفاع دائم عن معدّل الطلب الذي بدأ في التناقص بصورة مطردة لعجز القدرة الشرائية لدى المواطنين، عندها سيتولّد لدينا سؤال كبير: "أين تذهب موارد الدولة المالية؟" عائداتها من النفط ومن سياسة الترشيد التي تتبعها مع المواطنين حتى فيما لا يصلح الترشيد فيه؟
وإذا عرفنا أن سياسة الحكومة الاقتصادية فشلت –حتى بعد كل هذه السنوات– في رفع قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية الأخرى، أفلا يدل ذلك على أحد أمرين: إما أن المشاريع والخطط التي رفعت الحكومة شعاراتها منذ أول خطاب سياسي فشلت كلها في إنعاش الاقتصاد السوداني، وإما أن هنالك سرقات واسعة النطاق تتم على حساب رفاهية المواطنين وحقهم في مشاركة النظام الحاكم هذه الثروات مما يدل بدوره أن الحكومة تقتسم أو فلنقل تنهب خيرات البلاد وتوزعها فيما بينها دون أن تترك للشعب حتى الفتات.
شعار: خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود:
إن الحقيقة التي تبدو لنا واضحة وجلية هو أن المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية ما كان إلا جداراً اختبأ ورائه مصاصو الدماء البشرية في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ السياسية السودانية ألا وهي تسيس الدين، وشرعنة الاستلاب الثقافي، واستخدام الدين سلاحاً، وليت السلاح رفع في وجه من يستحقون المحاربة، بل الغريب والمضحك أن سلاح الدين لم يرفع إلاّ في وجه الشعب المتديّن بفطرته على اختلاف طوائفهم وتباينهم الإثني والعرقي. وكما يقول شاعرنا محمد الحسن سالم حُمّيد:
العندو دين
ما بسرق البلد العبدو موحدين
وليس بغريب على حكومة ظلّت تعمل في الخفاء، وتخطط لمدة سبعة عشر عاماً قبل نجاحها في الاستيلاء على الحكم. بدءاً بعمليات الوسوسة التي مارستها ذات الشلّة المراهقة سياسياً على آذان حكومة مايو بغرض التخلّص من الند والخصم المتوقع للمرحلة القادمة الحزب الشيوعي السوداني، وحملة الاعتقالات والتصفية الجسدية التي تمت على رموز الحزب تمهيداً لفرش حصيرة تطبيق الشريعة في عهد حكومة مايو ومن ثم الانقلاب عليها للقيام على ذات الأرضية الهشّة. والمتتبع لمسلسل السخافات التي مثلتها الحكومة يجد التباين الواضح بين ما تدعو إليه وبين التطبيق.
إنّ الربط الطبيعي بين الوضع الاقتصادي المتردي وبالتالي اليأس من الواقعية، وبين يوتوبيا الخطاب الديني المسيّس؛ وبالتالي الأمل الكامن في الغيبية أدى بالضرورة إلى بروز ظاهرة الهوس الديني والذي لم يكن معروفاً لدى شعب يمارس الوحدانية بكل تلقائية. فوجدنا الكلام حول الحور العين وعرس الشهيد وخطرفات روائح الجنّة ورؤى النبي في المنام ونزول الملائكة التي لم نعدها تتنزّل إلاّ ليلة القدر!! كل ذلك يجعلنا نفكّر كثيراً قبل أن نقول بمصداقية الشعارات التي ترفعها الحكومة.
إن وهم المشروع الحضاري الذي تتبنى فشله حكومة الإنقاذ يكاد يفقأ عيني الحقيقة بإصبع واحد. وليس ثمة مجال للمطابقة بين فرضيات قيام مشروع الدولة السودانية الحالي وبين نموذج الدولة الإسلامية في عهد صدر الإسلام. لأن لكل نموذج ظرفه الموضوعي الذي أدى إلى ظهوره. فأنا هنا لا أناقش الظروف التي أدت إلى ظهور كلٍ من المشروعين إنما أناقش النتائج المترتبة على هذا المشروع. وإذا كانت سياسية الدولة الإسلامية في عهد صدر الإسلام وسياسة حكومة الإنقاذ تشتركان في أن كلٍ منهما انتهج ذات النهج الذي يعني بالضرورة تهميش فئات محددة من الشعب إما عن طريق السلاح والعنف السياسي المباشر، أو عن طريق ممارسة التعالي والفوقية وجعل هذه الأقليات فئات من الدرجة الأدنى في نموذج الدولة. وهذا تحديداً ضد الديمقراطية التي تعني ليس فقط الاعتراف بالأقليات؛ بل وتمكينها من ممارسة حقها الطبيعي في المعارضة والممارسة السياسية دون خوف ودون قمع.
إنّ نموذج الدولة الإسلامية وغيرها العديد من النماذج التي تعني حكرية الرأي السياسي وإقصاء الرأي الآخر مما يعني لا ديمقراطية الدولة الإسلامية يشابه إلى حدّ بعيد سياسة حكومة الإنقاذ القائم أساساً على ذات الأسس والمنهاج. وفي كلا الحالتين فإن القاسم المشترك واحد وهو: صراع المصالح العليا.
وإنني لأجد في شعار (جيش محمد) الذي رفعت حكومة الإنقاذ دلالة واضحة على السير على نهج ذلك الخط حذو القذّة بالقذّة. مما لا يبشّر بمستقبل واعد لتلك الأقليات؛ طالما أنها ستظل محاصرة بإطار مشروع الدولة الدينية. إن المخرج الوحيد من هذه الورطة هو إلغاء فكرة المشروع الديني كسياسة وفتح الباب واسعاً لممارسة واعية من جميع شرائح المجتمع على اختلاف مرجعياتهم الدينية والعرقية للحد من ظاهرة تغوّل ممارسة الأغلبية على حقوق الأقليات. وإتاحة الفرصة للجميع بالمشاركة السلطوية نبذاً للتهميش والتغييب الذي ليس سمة من سمات الديمقراطية.
شعار الطاغية الأمريكان ليكم تسلحنا:
استمراراً للخرف السياسي فقد أقامت حكومة الإنقاذ معسكرات ما يسمى بالدفاع الشعبي. وكان الغرض من هذا الشعار -وغيره من الشعارات الجهادية- تدعيم هذا الخط، مخفية بذلك الغرض الأساسي من إقامة هذه المعسكرات والمجاهرة به عبر وسائلها الإعلامية، وإلزام الشعب على التعاطي مع المسلك العسكري للحكومة الهمجية. وهذا المنحى الخطير الذي أخفته وراءه مشروع تسليح الشعب، ساهم لاحقاً في ظهور المليشيات والجماعات المسلحة تمهيداً لزرع فتنة كبرى هو ما نعيش في ظله الآن في دارفور وفي شرق السودان، وبذلك فقد عملت الحكومة على وضع زيت التسليح قرب نار العرقية؛ بل وأشعلت الشرارة. مطبّقة بذلك المثل الشعبي السائد "خربها وقعد على تلّها".
هذا إضافة إلى محاولتها تغطية دعمها المادي والمعنوي للمؤسسات والمنظمات الإرهابية الأجنبية. وفتح أراضيها ومعسكراتها لتدريباتها المشبوهة. وتظل الحكومة داعمة لهذا الخط لتضيف إلى رصيدها الدموي نقطة حمراء أخرى. وعندها يصبح من البديهي أن نخمّن الآيدولوجيا التي تنطلق منها هذه الشرذمة الحاكمة. ومن السهل ملاحظة الترابط الوثيق بين هذه الشعارات وبين الخط العام الذي تنتهجه حكومة الإنقاذ في سياستها الداخلية وحتى الخارجية. إنها حكومة قامت بالسلاح وراهنت به على بقائها مستفيدة من كل ما يتاح لها من إمكانيات تحصّلت عليه عن طريق نهب الثروة والموارد الطبيعية للدولة وعبر وسائل الإعلام الذي كان لعبتها القذرة حتى قبل أن تعتلي عرش السلطة الرخو.
وإذا عرفنا أن حكومة الدم هذه تقوم على عنصرين فقط لا غير (السلاح – الإعلام) ومستخدمة أسلوب التخدير عن طريق يوتوبيا خطابها السياسي المتهالك؛ نعرف عندها أنه لا حيلة لنا في مقاومتها إلا عن طريق أحد العنصرين: إما السلاح أو الإعلام المضاد؛ وهذه الأخيرة لا تتأتى إلا عندما تتاح لنا ممارسة ديمقراطية معافى يسمح فيها للمعارضة استخدام وسائلها في النضال ضد الحكومة، وطالما أننا لا نتمتع بالحرية الديمقراطية؛ عندها لن نجد بداً من نحمل السلاح.
فهذه الشعارات التي تطلقها الحكومة وتغلف بها مشروعها الدموي وحيد الخلية ليست إلا مجرّد قشرة هشّة لا يمكننا أن نراهن على مجابهته بيوتوبيا مضادة متفائلين بحتمية جدوى التكريس لمفهوم الحريات والديمقراطية والحلول الدبلوماسية السلمية وأدب التفاوض. ولا يمكن أن نفترض أنفسنا خيول مروّضة تؤمن بحتمية انتصار الحق والقيم. لا مجال هنا للمثاليات التي تعني هدر الحقوق والمكتسبات. هنا فقط منطقة القوة والحق الذي لا يرد إلا كما سُلب. وكما يقول الشاعر محمد الحسم سالم حُمّيد:
حقاً تحرسو ولا بجي
حقك تقاوي وتقلعو
الهراء الذي تعنيه مؤسسية الحكومة بجميع أنوعها وأشكالها السرطانية يوضح بجلاء عجز هذه الحكومة على البقاء بغير شرطية السلاح والذي هو الفرس التي تراهن عليه في كل مرحلة. والسلاح كأداة من أدوات القمع في حدّ ذاته يهدم خرافة الديمقراطية التي تنادي بها الحكومة التي تتنفس برئة واحدة.
ولنقف على اليوتوبيا Utopia التي تستخدمها الحكومة في خطابها السياسي، علينا أن نقدّم كشف حساب تفصيلي يتضمن (خطرفات) المراهقة السياسية التي مارستها ما تسمى بحكومة الإنقاذ ابتداءاً باسمها (الإنقاذ) وحتى آخر الشعارات حداثة.
شعار : فلنأكل مما نزرع ولنلبس مما نصنع:
شعار رفعته الحكومة المسماة –اعتباطاً- بحكومة الإنقاذ، حاولت به التلميح لمرحلة الاعتمادية والاكتفاء الذاتي عن المعونات الدولية وبالطبع فقد رافق هذا الشعار مجموعة من الشعارات العدائية للقوى العالمية متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية ودولة إسرائيل –وسوف آتي على ذكر هذه الشعارات أيضاً– هذا الشعار الذي يهدف إلى تفعيل الكوادر الوطنية لاستغلال الثروات القومية حاولت به الحكومة إيهام الشارع السوداني ضاربةً بذلك على الوتر الحسّاس في محاولة لتمرير ودعم مشروعها الحضاري الذي تبنّته منذ انطلاق الرصاصة الأولى والمسمار الأول في نعش الديمقراطية ألا وهو تطبيق الشريعة الإسلامية.
وبعد هذه السنوات التي مضت على اعتلاء الحكومة سدة الحكم في السودان، فإننا نجد أن الوضع الاقتصادي لا يسير إلا من سيئ إلى أسوأ. وإن خيرات البلاد توزّع في الخفاء مقاسمةً بين رجالات الحكم وأرزقيته من قوت الشعب المغلوب على أمره. ويظل الوضع الاقتصادي الأعرج يسير بعرجته من سيئٍ إلى أسوأ. فدخل الفرد لا يكاد يسد الرمق وبدأ سودانيو الداخل في الاعتماد شبه الكلي على ما يصلهم من مساعدات من ذويهم في الخارج. وآخرون آثروا أن يسايروا التيار وأن يقتاتوا من الفتات الذي يلقي به النظام في طريقهم. وبهذا طفت على السطح الطبقية الواضحة: الرأسمالية ويمثلها أرباب النظام وسدنته، والبرجوازية الانتهازية ويمثله التجّار وأرزقية النظام والمغفلين النافعين وفئة أخرى تقبع تحت خط الفقر. وهنا أقف على ما قاله الشاعر الصادق الرضي :
لماذا لم تقل
أنّ العمارات استطالت
أفرخت أطفالها الجوعى
على وسخ الرصيف
ولا يخفى على الجميع فضائح المشاريع الزراعية الكبرى في السودان من سرقات وأتاوات فرضتها الحكومة على المزارعين المغلوب على أمرهم في شكل التسهيلات المزيفة التي ادعى بتحمل أعبائها بنك المزارع وما كانت إلا نهجاً واضحاً من الحكومة في إغراق المزارعين بالديون وبالتالي سرقة إنتاجهم من محاصيل زراعية تارة باسم الضرائب، وتارة تحت بند سداد القروض المؤجلة، وتارة بحجة دعم المجهود الحربي، ليخرج المزارع بعد حولٍ كامل من الجد والتعب بلا حول ولا قوة؛ كما لا ننس المشاريع التي قامت لخدمة مصالح حكومية على حساب قوت الشعب تجعل من تلك الشعارات الزائفة محض خِرق بالية غير قابلة للتصديق.
وإذا عرفنا أنّ السوق السودانية ما زالت تعتمد على الاستيراد لسد حاجة المواطنين إما عن طريق ضخها بهذه السلع عبر تجارة الشنطة أو التهريب عبر الحدود، وإذا عرفنا أنّ مؤشرات العرض في ارتفاع دائم عن معدّل الطلب الذي بدأ في التناقص بصورة مطردة لعجز القدرة الشرائية لدى المواطنين، عندها سيتولّد لدينا سؤال كبير: "أين تذهب موارد الدولة المالية؟" عائداتها من النفط ومن سياسة الترشيد التي تتبعها مع المواطنين حتى فيما لا يصلح الترشيد فيه؟
وإذا عرفنا أن سياسة الحكومة الاقتصادية فشلت –حتى بعد كل هذه السنوات– في رفع قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية الأخرى، أفلا يدل ذلك على أحد أمرين: إما أن المشاريع والخطط التي رفعت الحكومة شعاراتها منذ أول خطاب سياسي فشلت كلها في إنعاش الاقتصاد السوداني، وإما أن هنالك سرقات واسعة النطاق تتم على حساب رفاهية المواطنين وحقهم في مشاركة النظام الحاكم هذه الثروات مما يدل بدوره أن الحكومة تقتسم أو فلنقل تنهب خيرات البلاد وتوزعها فيما بينها دون أن تترك للشعب حتى الفتات.
شعار: خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود:
إن الحقيقة التي تبدو لنا واضحة وجلية هو أن المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية ما كان إلا جداراً اختبأ ورائه مصاصو الدماء البشرية في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ السياسية السودانية ألا وهي تسيس الدين، وشرعنة الاستلاب الثقافي، واستخدام الدين سلاحاً، وليت السلاح رفع في وجه من يستحقون المحاربة، بل الغريب والمضحك أن سلاح الدين لم يرفع إلاّ في وجه الشعب المتديّن بفطرته على اختلاف طوائفهم وتباينهم الإثني والعرقي. وكما يقول شاعرنا محمد الحسن سالم حُمّيد:
العندو دين
ما بسرق البلد العبدو موحدين
وليس بغريب على حكومة ظلّت تعمل في الخفاء، وتخطط لمدة سبعة عشر عاماً قبل نجاحها في الاستيلاء على الحكم. بدءاً بعمليات الوسوسة التي مارستها ذات الشلّة المراهقة سياسياً على آذان حكومة مايو بغرض التخلّص من الند والخصم المتوقع للمرحلة القادمة الحزب الشيوعي السوداني، وحملة الاعتقالات والتصفية الجسدية التي تمت على رموز الحزب تمهيداً لفرش حصيرة تطبيق الشريعة في عهد حكومة مايو ومن ثم الانقلاب عليها للقيام على ذات الأرضية الهشّة. والمتتبع لمسلسل السخافات التي مثلتها الحكومة يجد التباين الواضح بين ما تدعو إليه وبين التطبيق.
إنّ الربط الطبيعي بين الوضع الاقتصادي المتردي وبالتالي اليأس من الواقعية، وبين يوتوبيا الخطاب الديني المسيّس؛ وبالتالي الأمل الكامن في الغيبية أدى بالضرورة إلى بروز ظاهرة الهوس الديني والذي لم يكن معروفاً لدى شعب يمارس الوحدانية بكل تلقائية. فوجدنا الكلام حول الحور العين وعرس الشهيد وخطرفات روائح الجنّة ورؤى النبي في المنام ونزول الملائكة التي لم نعدها تتنزّل إلاّ ليلة القدر!! كل ذلك يجعلنا نفكّر كثيراً قبل أن نقول بمصداقية الشعارات التي ترفعها الحكومة.
إن وهم المشروع الحضاري الذي تتبنى فشله حكومة الإنقاذ يكاد يفقأ عيني الحقيقة بإصبع واحد. وليس ثمة مجال للمطابقة بين فرضيات قيام مشروع الدولة السودانية الحالي وبين نموذج الدولة الإسلامية في عهد صدر الإسلام. لأن لكل نموذج ظرفه الموضوعي الذي أدى إلى ظهوره. فأنا هنا لا أناقش الظروف التي أدت إلى ظهور كلٍ من المشروعين إنما أناقش النتائج المترتبة على هذا المشروع. وإذا كانت سياسية الدولة الإسلامية في عهد صدر الإسلام وسياسة حكومة الإنقاذ تشتركان في أن كلٍ منهما انتهج ذات النهج الذي يعني بالضرورة تهميش فئات محددة من الشعب إما عن طريق السلاح والعنف السياسي المباشر، أو عن طريق ممارسة التعالي والفوقية وجعل هذه الأقليات فئات من الدرجة الأدنى في نموذج الدولة. وهذا تحديداً ضد الديمقراطية التي تعني ليس فقط الاعتراف بالأقليات؛ بل وتمكينها من ممارسة حقها الطبيعي في المعارضة والممارسة السياسية دون خوف ودون قمع.
إنّ نموذج الدولة الإسلامية وغيرها العديد من النماذج التي تعني حكرية الرأي السياسي وإقصاء الرأي الآخر مما يعني لا ديمقراطية الدولة الإسلامية يشابه إلى حدّ بعيد سياسة حكومة الإنقاذ القائم أساساً على ذات الأسس والمنهاج. وفي كلا الحالتين فإن القاسم المشترك واحد وهو: صراع المصالح العليا.
وإنني لأجد في شعار (جيش محمد) الذي رفعت حكومة الإنقاذ دلالة واضحة على السير على نهج ذلك الخط حذو القذّة بالقذّة. مما لا يبشّر بمستقبل واعد لتلك الأقليات؛ طالما أنها ستظل محاصرة بإطار مشروع الدولة الدينية. إن المخرج الوحيد من هذه الورطة هو إلغاء فكرة المشروع الديني كسياسة وفتح الباب واسعاً لممارسة واعية من جميع شرائح المجتمع على اختلاف مرجعياتهم الدينية والعرقية للحد من ظاهرة تغوّل ممارسة الأغلبية على حقوق الأقليات. وإتاحة الفرصة للجميع بالمشاركة السلطوية نبذاً للتهميش والتغييب الذي ليس سمة من سمات الديمقراطية.
شعار الطاغية الأمريكان ليكم تسلحنا:
استمراراً للخرف السياسي فقد أقامت حكومة الإنقاذ معسكرات ما يسمى بالدفاع الشعبي. وكان الغرض من هذا الشعار -وغيره من الشعارات الجهادية- تدعيم هذا الخط، مخفية بذلك الغرض الأساسي من إقامة هذه المعسكرات والمجاهرة به عبر وسائلها الإعلامية، وإلزام الشعب على التعاطي مع المسلك العسكري للحكومة الهمجية. وهذا المنحى الخطير الذي أخفته وراءه مشروع تسليح الشعب، ساهم لاحقاً في ظهور المليشيات والجماعات المسلحة تمهيداً لزرع فتنة كبرى هو ما نعيش في ظله الآن في دارفور وفي شرق السودان، وبذلك فقد عملت الحكومة على وضع زيت التسليح قرب نار العرقية؛ بل وأشعلت الشرارة. مطبّقة بذلك المثل الشعبي السائد "خربها وقعد على تلّها".
هذا إضافة إلى محاولتها تغطية دعمها المادي والمعنوي للمؤسسات والمنظمات الإرهابية الأجنبية. وفتح أراضيها ومعسكراتها لتدريباتها المشبوهة. وتظل الحكومة داعمة لهذا الخط لتضيف إلى رصيدها الدموي نقطة حمراء أخرى. وعندها يصبح من البديهي أن نخمّن الآيدولوجيا التي تنطلق منها هذه الشرذمة الحاكمة. ومن السهل ملاحظة الترابط الوثيق بين هذه الشعارات وبين الخط العام الذي تنتهجه حكومة الإنقاذ في سياستها الداخلية وحتى الخارجية. إنها حكومة قامت بالسلاح وراهنت به على بقائها مستفيدة من كل ما يتاح لها من إمكانيات تحصّلت عليه عن طريق نهب الثروة والموارد الطبيعية للدولة وعبر وسائل الإعلام الذي كان لعبتها القذرة حتى قبل أن تعتلي عرش السلطة الرخو.
وإذا عرفنا أن حكومة الدم هذه تقوم على عنصرين فقط لا غير (السلاح – الإعلام) ومستخدمة أسلوب التخدير عن طريق يوتوبيا خطابها السياسي المتهالك؛ نعرف عندها أنه لا حيلة لنا في مقاومتها إلا عن طريق أحد العنصرين: إما السلاح أو الإعلام المضاد؛ وهذه الأخيرة لا تتأتى إلا عندما تتاح لنا ممارسة ديمقراطية معافى يسمح فيها للمعارضة استخدام وسائلها في النضال ضد الحكومة، وطالما أننا لا نتمتع بالحرية الديمقراطية؛ عندها لن نجد بداً من نحمل السلاح.
فهذه الشعارات التي تطلقها الحكومة وتغلف بها مشروعها الدموي وحيد الخلية ليست إلا مجرّد قشرة هشّة لا يمكننا أن نراهن على مجابهته بيوتوبيا مضادة متفائلين بحتمية جدوى التكريس لمفهوم الحريات والديمقراطية والحلول الدبلوماسية السلمية وأدب التفاوض. ولا يمكن أن نفترض أنفسنا خيول مروّضة تؤمن بحتمية انتصار الحق والقيم. لا مجال هنا للمثاليات التي تعني هدر الحقوق والمكتسبات. هنا فقط منطقة القوة والحق الذي لا يرد إلا كما سُلب. وكما يقول الشاعر محمد الحسم سالم حُمّيد:
حقاً تحرسو ولا بجي
حقك تقاوي وتقلعو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق