بقلم: السعيد موفقي*
إنّ طبائع الأشياء في نفوسنا أو في الطبيعة كثير منها لا نعرفه، إلا بالتصوّر، وبحكم العادة نتخذها في حياتنا متنفسا نلجأ إليه عندما تتأزم المواقف وتتداخل المصالح الذاتية مع العوالم الأخرى. فالطبيعة في الصحراء تكتسي نمطا مختلفا عن تلك التي يعيشها عالم البراري المتنوع، قد ننجح في توظيفها عندما نضطر إلى تفسير ما بدواخلنا ونسقط مشاعرنا وأوهامنا عليها، لما تتشابه هذه الطبائع وتتماثل سلوكاتها المتدفقة ولو بالفطرة، نشعر –عندئذ- بوصول الغايات ولو من باب الاعتقاد. نكره منها ما لا يروق لنا، ونحب بعضها الآخر لما فيه من أشياء نعتقد بأنّها صحيحة، وأنّها تفي بالغرض الذي نريد وصوله إلى الآخرين.
الكاتب في نصّه (صلوات مالك الحزين) استجمع فيه ما يمكن أن يستغرق في عالم الطبيعة ويوغل في متاهاتها العجيبة، ينتقي ما يناسب منها كل التجارب التي تعبر عن انشغالات الإنسان والنفس والروح والبقاء والخلود. حديثه عن الصحراء والريح على وجه التحديد لم يكن من قبيل الصدفة؛ إنّه التأمل في متغيرات الطبيعة والتجدد الذي يشكل صراع الحياة الذي لا ندركه مباشرة إلا عندما نفحص ذلك التجدد في انتقال أكوام من الرمال، وهي تتحول بآلية ليست كتلك التي يحدثها الإنسان ولا يعي منها إلا صورها الخارجية ومشاهدها السطحية، مهملا عمقها الحقيقي.
كانت هذه الريح ذات رملٍ حارق، تلهو بمناخٍ يعرفه البدو بأنه قاسٍ، وتسكنه الحمى الترابية، تألفه الأفاعي ذوات الدم البارد، وتعشقه اللافقاريات!
يتصور الكاتب بأنّ الإنسان في كثير من ممارساته اليومية هو تعاقب لجملة من الحالات العابرة، إذا كان الأمر عن تجربة السعادة فلا يدركها إلا لما تتوالى المواقف والأسباب سواء من داخله وما يعيشه من آلام وآهات، أو من خارج ذاته وفي هذا المستوى تتساوى كل أصناف البشرية، وإذا شئنا تحولت معطيات النص بما فيه أبطاله إلى شيء واحد، تحركه دوافع كثير منها مجهول لديه، باعتبار تصوره القائم البحث عن الحقيقة التائهة في عمق هذه الصحراء في كهوف الجبال ومغاورها المظلمة ظلمة النفس الغائرة المعقدة، أو ربما في محاور كثبان الرمال الضائعة في كل اتجاه.
كانت هذه الريح قاب رملين أو صفير من سرابٍ موغلٍ في القدم حطّ على جناح طائرٍ خرافي أوسعَ الأساطيرَ ضرباً وطار في سماءٍ حمراء للأبد. دمه –الذي هو علامة التفاؤل الوحيدة– كان غارقاً في شبر ماء. لُعابه – الذي قد سال للمرة الأولى عندما رآني– رآني مرةً أخرى ولم يسلْ!
و الطريقة التي اختارها الكاتب في دفع كل الأفكار نحو اتجاه واحد وإن تعددت نهاياته، حتى أنّه تحول في بعض المواضع إلى شخصية محاورة تتنقل وجدانيا بين مختلف رواسب الماضي والتوغل في كل الجراح التي ألهبتها عزف الآمال عن الاستقرار والرخاء المفقود في كل مكان، وإلا بماذا نفسر اهتمام الكاتب بجزئيات كل حيّز مما لاحظه في هذه البيئة، أو حتى تلك الحيوانات في تصرفاتها وسلوكاتها، قد تبدو غير معبرة لكثير من السذج من البشر، ولكنها رسالة على حد اعتقاد الكاتب، وهو اعتقاد أسقطه على تعامل الإنسان معها وخضوعه لتقلباتها وصراعها وكفاحها مثلما هو حادث في عالم الإنسان الغريب.
لا مجال للمُراهنة، الجرح غائرٌ في شوكة الصبّار، وفي حراشف السحالي التي تجيد التخفي. السرابُ وحمةُ الصحراءِ الغربية، ونقطة ضعفها الوحيدة. على مدار أُغنيةٍ كاملة، ظل المُغني يُتابع السلّم الموسيقي، لكنه سقطَ عند حافة النهر فجأةً عندما تصاعدت أصوات الضفادع المزعجة.
لماذا هذا الاهتمام بالصحراء ؟ ما الذي جعل الكاتب يمعن النظر فيها وأحيانا يكرر مشاهدها وصورها وليس من باب التوصيف بقدر ما هي المسألة أبعد من كونها وجود مادة أو كونها تشغل حيزا فيه، فالتردد على الصحراء ينبع من أعماق الكاتب لاعتقاده بوضع الإنسان كونه محاصرا من الداخل بالمخاوف ومختلف الأسباب الأخرى قارة في نفسه تنبعث كلما ما أثارها عامل أو عوامل ما تحاول إزاحته من عالمه المتناقض، وحصار آخر من الخارج فرضته أساليب الحياة وإن بدا مجرد ريح أو زوابع رملية وما شابهها، فهي كتلك التي يحدثها البحر أيضا عندما تعصف الرياح وتضرب العواصف في كل مكان وتشتدّ الأمواج، فيأتي على الإنسان ويقف أمامها عندئذ وقد أصابه الروع والهلع وشدّت على مكامنه أسباب الفناء والتلاشي والاندثار.
ولنعد إلى الصحراء حيث هذه الريح مليكةٌ وحيدة، على شعب كله يعشقُ السخونة. حتى هؤلاء البدو كانوا يرهبون غضبة الريح عندما تبصقُ الرمالَ في وجوههم، وتهِبُ الخيولَ طريقها إلى الفِرار. أيتها المليكة العادلة!
هل من الممكن أن تنفع تلك الوقفات التي يختلي بها إلى الصحراء أو إلى البحر أن تنفع مع تلك الزفرات التي تحدثها النفس؟ لا يستقر به الحال مادام الوضع الداخلي لم يتغير وأنّ التغير الحقيقي لم يحدث بعد، إذن بقاء الأسباب يعني بقاء تعاسته، حزنه؛ حتى تلك الثغرات البعيدة والتي تكاد تضيق يستأنس بها ويتنفس قدر جهد الروح العالقة وسط زحام الحياة.
مازال بعض الشعب يُعاني من الصُداع والأشف، ولا ملاذ منكِ إلا هذه الشقوق! أحبكِ لأنّك الوحيدة التي تستطيع أن تخونني ولا أجرؤ على الكلام! أحبكِ لأنني أُحب أن أنام! أحبكِ لأنكِ التي أهابها ، وأعشق اقترابها! أحبكِ لأننا عتيقان في قافلة الرق المُتجهة شمالاً. حيث هذا الجرح قِبلةٌ مهجورة، ومحرابٌ غيرُ معترفٍ به.
وكل الأمكنة يربطها خيط البقاء والتغيّر حتى تلك التي كانت في غابر الأزمان، وكان المكان شغلهم الشاغل، يبحثون عن شيء كان هناك ذات يوم مارسه الآباء والأجداد تحت كل الأشياء الظاهر منها و الباطن، اعتقاد يملأ الروح و يدفعون من أجله كل ما يملكون من أسباب السعادة، لأنّ التضحية بمثابة محور حياتهم، وسر وجودهم.
البدو يعبدون الريح سراً، ويدفنون القرابين تحت رمال هذه الصحراء. أين يختبأ الوجدُ في هذا النهار!من أي ناحية يتبخر الشوق؟
من أي فاصلةْ ؟
ومن – على امتداد الدمِ القاني –
يعرف النارَ التي بين أضلعي
إنما بيني وبين أن أموتَ .. فاصلة
ها هي الصحراء تمدّ لسانها لي
وتعلنني المسافة
بين كل خطوةٍٍ وأختها
في العلاقةِ الحميمة بين
سرابٍ لا يُمكن الرِهَانُ عليهِ
وبين صحراءَ قاحلةْ
من – على امتداد هذه الحمى –
يبيعني قُرصاً من الثلج
واحة من الارتياح
آهٍ . . كم أشتكي من الصداع
تلك رحلة شاقة أتعبته وأنهكته وهو يكتشف أسباب بقاء الإنسان القديم في علاقاته الموغلة في عمق الحياة، يتصور الحياة بسيطة على الرغم من تفورها على كل الأسباب التي تجعله يحتكّ بها، وكان للحيوان دور في تنقله، اعتدادا بالنفس التي كانت تشعر بالكبرياء تطمح لتحطيم الأشياء و التعلق بأخرى أردفتها ظروف و صروف.
الخيل أنهكتها العرب، تلك القبائل التي لا هم إلا أن تغير على التخوم . . على مشارف امرأة جميلة أو بعير !!! يا كبرياء امرأةٍ حقيرةٍ ، في هودجٍ حقير ! يا كيمياء الرمل .. عندما ليلاً تهادن البرودة ، تنسف حلفها عند الهجير.
لماذا الريح ؟ في الواقع الكاتب تنقل بنا في مختلف الأماكن ولم يستقر عند حد معين منها وفي كل مرة يكتفي بالإشارة إلى ما يمكن أن يجعلنا كقراء تحرك خلفه بفضول شديد ووقوف حذر، لكنّه لا يخلو من اعتقاد جميل في ترصد الحقائق وتصديقها ولو عن بعد مادام التفكير فيها مستمرا، وربما هذا الهاجس المتغيَّر والمغيِّر يبقى سار إلى أبعد من كونه مجرد ظاهرة في الطبيعة، يحسبها القارئ رصد بسيط للريح التي قد تتحول إلى إعصار يهزّ كيان الإنسان ويزعزع استقراره، في هذا المستوى يلتبس عليه معرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت منه كائنا تائها في كل مكان، ما أصابه منها إنّما من قبيل السؤال الملحّ الذي انتبه ذات يوم تكرر معه مثلما تكرر معه في البداية، يتكرر معه في النهاية و قد يبقى غامضا، لا جواب له وإن وجد الجواب تكرر طرحه مرة أخرى و ربما بحدة أكثر.
وهذه الريح قاموسٌ للغةٍ غير مقروءة! وأطلسٌ لجغرافيا تستعصي على الفهم. هذه الريح كانت – ولا تزال – ملاذَ القبائلِ البدوية في رحلةِ البحثِ عن حربٍ من أجل ناقةٍ عوراء! أنا الوحيد الذي يستطيع أن يمشي حافي القدمين في رمالكِ الحارقة، والوحيد – صاحب المهابةٍ – الذي يعرف سرّ كيمياء الحرارة. ها هي اللعنة الآن على أعتاب بابي الخشبي، آآآآهِ يا لُعبتي الصغيرة! كم بكيتُ – فقط أمامكِ – قبل أن أُغيّر اللكنة الحزينة قبل آذان الفجر! كم – يا صغيرتي – خلعتُ كبريائي الوحيد، لأرتديكِ! هذا سرٌ بيننا، فلا تبوحي بالسر إلاّ للريح والصحراء.
والملفت في هذا النص تنوع الخطاب الذي اتخذ مسارات متنوعة في البحث عن هذه الحقيقة، وبالتالي تنوعت لغة الخطاب، من مخاطبة الطبيعة والتأمل فيها والغوص في أعماقها والتنقل بين أجزائها الكثيرة، الصحراء، البحر، البدو إلى مخاطبة الإنسان في حدّ ذاته ومع ذلك ينتابه الشك والتردد في هذا الاعتقاد بما أنّ دون اليقين أسئلة كثيرة.
أنتِ التي تفهمين لغتي التي لا يفهمها أحد. كُلّهم – بلا استثناء – لم يفهموا، وكأنني كان يجب أن أتعلم لغاتهم كي يُتاح لي أن أصرخَ بلغةٍ يفهمونها! كُلّهم – بلا استثناء – ظنّوا أنني أبيع خرز الساحرات ، وأوهام القراصنة الباحثين عن كنزٍ ما في بحرٍ لا يعرفه أحد! كُلّهم – بلا استثناء – نعتوني بالجنون، فلم أستطع أن أبوح أكثر.
تلك هي صورة البقاء و الحياة تعجّ بالناس العابرين و أنّ القلق مسّ الجميع لا فكاك منه من الصحراء الواسعة إلى البحر اللجب فالبدو المترامية الأطراف إلى الشارع المكتظ و الحياة تزادا اكتظاظا كلما امتدت رقتها عبر الزمان و المكان قد تكون النهاية بلا نهاية.
للبدو هذه الصحراء، ولي هذا الشارع النائي، المُرصّع بالضوضاء والعابرين. قال لي عابرٌ ما: " لا تقف على قارعة الطريق، ولا تُغني حيث لا يسمعُك أحد!" ولكنني أُريد أن أُغني . . أُريد أن أغني. ولذا استعرتُ صوتي من مالك الحزين! جبل من القطن!!
- أين شموخكَ أيها الجبل؟
* جفل !
- أين البريق الذي – في كل صخرةٍ – يضيء من بعيد؟
* أفــل !
وينفلت الوجع وزفرات الآهات المشحونة تملأ كل فراغ من النفس أو الروح، أمن الممكن أن تنجح الحياة وصور السأم والظلم والحزن تزداد يوما بعد يوم وليس هناك من يفهم ما تقول ولا يدرك مقصد إلا فئة مغبونة هي لغة يستصعبها الكثير ويشقى في فهمما القليل؟ الكاتب استخلص نهاية جميلة لتلك المعاناة التي ازدادت تعمقا و غارت في عمق الإنسان وأحيانا يكتفي بالتألم، هذه اللغة التي لا نفهما إلا بالتجربة.
آهٍ من هذه الحمى السفلية! ومن هذه الصحراء، ومن هؤلاء البدو. لقد تعبت من الدعاء، سئمت من الاستجابة! سئمتُ من الذين لا يجيدون العزف، ومن الذين لا يفهمون هذا الغناء.
إنّ طبائع الأشياء في نفوسنا أو في الطبيعة كثير منها لا نعرفه، إلا بالتصوّر، وبحكم العادة نتخذها في حياتنا متنفسا نلجأ إليه عندما تتأزم المواقف وتتداخل المصالح الذاتية مع العوالم الأخرى. فالطبيعة في الصحراء تكتسي نمطا مختلفا عن تلك التي يعيشها عالم البراري المتنوع، قد ننجح في توظيفها عندما نضطر إلى تفسير ما بدواخلنا ونسقط مشاعرنا وأوهامنا عليها، لما تتشابه هذه الطبائع وتتماثل سلوكاتها المتدفقة ولو بالفطرة، نشعر –عندئذ- بوصول الغايات ولو من باب الاعتقاد. نكره منها ما لا يروق لنا، ونحب بعضها الآخر لما فيه من أشياء نعتقد بأنّها صحيحة، وأنّها تفي بالغرض الذي نريد وصوله إلى الآخرين.
الكاتب في نصّه (صلوات مالك الحزين) استجمع فيه ما يمكن أن يستغرق في عالم الطبيعة ويوغل في متاهاتها العجيبة، ينتقي ما يناسب منها كل التجارب التي تعبر عن انشغالات الإنسان والنفس والروح والبقاء والخلود. حديثه عن الصحراء والريح على وجه التحديد لم يكن من قبيل الصدفة؛ إنّه التأمل في متغيرات الطبيعة والتجدد الذي يشكل صراع الحياة الذي لا ندركه مباشرة إلا عندما نفحص ذلك التجدد في انتقال أكوام من الرمال، وهي تتحول بآلية ليست كتلك التي يحدثها الإنسان ولا يعي منها إلا صورها الخارجية ومشاهدها السطحية، مهملا عمقها الحقيقي.
كانت هذه الريح ذات رملٍ حارق، تلهو بمناخٍ يعرفه البدو بأنه قاسٍ، وتسكنه الحمى الترابية، تألفه الأفاعي ذوات الدم البارد، وتعشقه اللافقاريات!
يتصور الكاتب بأنّ الإنسان في كثير من ممارساته اليومية هو تعاقب لجملة من الحالات العابرة، إذا كان الأمر عن تجربة السعادة فلا يدركها إلا لما تتوالى المواقف والأسباب سواء من داخله وما يعيشه من آلام وآهات، أو من خارج ذاته وفي هذا المستوى تتساوى كل أصناف البشرية، وإذا شئنا تحولت معطيات النص بما فيه أبطاله إلى شيء واحد، تحركه دوافع كثير منها مجهول لديه، باعتبار تصوره القائم البحث عن الحقيقة التائهة في عمق هذه الصحراء في كهوف الجبال ومغاورها المظلمة ظلمة النفس الغائرة المعقدة، أو ربما في محاور كثبان الرمال الضائعة في كل اتجاه.
كانت هذه الريح قاب رملين أو صفير من سرابٍ موغلٍ في القدم حطّ على جناح طائرٍ خرافي أوسعَ الأساطيرَ ضرباً وطار في سماءٍ حمراء للأبد. دمه –الذي هو علامة التفاؤل الوحيدة– كان غارقاً في شبر ماء. لُعابه – الذي قد سال للمرة الأولى عندما رآني– رآني مرةً أخرى ولم يسلْ!
و الطريقة التي اختارها الكاتب في دفع كل الأفكار نحو اتجاه واحد وإن تعددت نهاياته، حتى أنّه تحول في بعض المواضع إلى شخصية محاورة تتنقل وجدانيا بين مختلف رواسب الماضي والتوغل في كل الجراح التي ألهبتها عزف الآمال عن الاستقرار والرخاء المفقود في كل مكان، وإلا بماذا نفسر اهتمام الكاتب بجزئيات كل حيّز مما لاحظه في هذه البيئة، أو حتى تلك الحيوانات في تصرفاتها وسلوكاتها، قد تبدو غير معبرة لكثير من السذج من البشر، ولكنها رسالة على حد اعتقاد الكاتب، وهو اعتقاد أسقطه على تعامل الإنسان معها وخضوعه لتقلباتها وصراعها وكفاحها مثلما هو حادث في عالم الإنسان الغريب.
لا مجال للمُراهنة، الجرح غائرٌ في شوكة الصبّار، وفي حراشف السحالي التي تجيد التخفي. السرابُ وحمةُ الصحراءِ الغربية، ونقطة ضعفها الوحيدة. على مدار أُغنيةٍ كاملة، ظل المُغني يُتابع السلّم الموسيقي، لكنه سقطَ عند حافة النهر فجأةً عندما تصاعدت أصوات الضفادع المزعجة.
لماذا هذا الاهتمام بالصحراء ؟ ما الذي جعل الكاتب يمعن النظر فيها وأحيانا يكرر مشاهدها وصورها وليس من باب التوصيف بقدر ما هي المسألة أبعد من كونها وجود مادة أو كونها تشغل حيزا فيه، فالتردد على الصحراء ينبع من أعماق الكاتب لاعتقاده بوضع الإنسان كونه محاصرا من الداخل بالمخاوف ومختلف الأسباب الأخرى قارة في نفسه تنبعث كلما ما أثارها عامل أو عوامل ما تحاول إزاحته من عالمه المتناقض، وحصار آخر من الخارج فرضته أساليب الحياة وإن بدا مجرد ريح أو زوابع رملية وما شابهها، فهي كتلك التي يحدثها البحر أيضا عندما تعصف الرياح وتضرب العواصف في كل مكان وتشتدّ الأمواج، فيأتي على الإنسان ويقف أمامها عندئذ وقد أصابه الروع والهلع وشدّت على مكامنه أسباب الفناء والتلاشي والاندثار.
ولنعد إلى الصحراء حيث هذه الريح مليكةٌ وحيدة، على شعب كله يعشقُ السخونة. حتى هؤلاء البدو كانوا يرهبون غضبة الريح عندما تبصقُ الرمالَ في وجوههم، وتهِبُ الخيولَ طريقها إلى الفِرار. أيتها المليكة العادلة!
هل من الممكن أن تنفع تلك الوقفات التي يختلي بها إلى الصحراء أو إلى البحر أن تنفع مع تلك الزفرات التي تحدثها النفس؟ لا يستقر به الحال مادام الوضع الداخلي لم يتغير وأنّ التغير الحقيقي لم يحدث بعد، إذن بقاء الأسباب يعني بقاء تعاسته، حزنه؛ حتى تلك الثغرات البعيدة والتي تكاد تضيق يستأنس بها ويتنفس قدر جهد الروح العالقة وسط زحام الحياة.
مازال بعض الشعب يُعاني من الصُداع والأشف، ولا ملاذ منكِ إلا هذه الشقوق! أحبكِ لأنّك الوحيدة التي تستطيع أن تخونني ولا أجرؤ على الكلام! أحبكِ لأنني أُحب أن أنام! أحبكِ لأنكِ التي أهابها ، وأعشق اقترابها! أحبكِ لأننا عتيقان في قافلة الرق المُتجهة شمالاً. حيث هذا الجرح قِبلةٌ مهجورة، ومحرابٌ غيرُ معترفٍ به.
وكل الأمكنة يربطها خيط البقاء والتغيّر حتى تلك التي كانت في غابر الأزمان، وكان المكان شغلهم الشاغل، يبحثون عن شيء كان هناك ذات يوم مارسه الآباء والأجداد تحت كل الأشياء الظاهر منها و الباطن، اعتقاد يملأ الروح و يدفعون من أجله كل ما يملكون من أسباب السعادة، لأنّ التضحية بمثابة محور حياتهم، وسر وجودهم.
البدو يعبدون الريح سراً، ويدفنون القرابين تحت رمال هذه الصحراء. أين يختبأ الوجدُ في هذا النهار!من أي ناحية يتبخر الشوق؟
من أي فاصلةْ ؟
ومن – على امتداد الدمِ القاني –
يعرف النارَ التي بين أضلعي
إنما بيني وبين أن أموتَ .. فاصلة
ها هي الصحراء تمدّ لسانها لي
وتعلنني المسافة
بين كل خطوةٍٍ وأختها
في العلاقةِ الحميمة بين
سرابٍ لا يُمكن الرِهَانُ عليهِ
وبين صحراءَ قاحلةْ
من – على امتداد هذه الحمى –
يبيعني قُرصاً من الثلج
واحة من الارتياح
آهٍ . . كم أشتكي من الصداع
تلك رحلة شاقة أتعبته وأنهكته وهو يكتشف أسباب بقاء الإنسان القديم في علاقاته الموغلة في عمق الحياة، يتصور الحياة بسيطة على الرغم من تفورها على كل الأسباب التي تجعله يحتكّ بها، وكان للحيوان دور في تنقله، اعتدادا بالنفس التي كانت تشعر بالكبرياء تطمح لتحطيم الأشياء و التعلق بأخرى أردفتها ظروف و صروف.
الخيل أنهكتها العرب، تلك القبائل التي لا هم إلا أن تغير على التخوم . . على مشارف امرأة جميلة أو بعير !!! يا كبرياء امرأةٍ حقيرةٍ ، في هودجٍ حقير ! يا كيمياء الرمل .. عندما ليلاً تهادن البرودة ، تنسف حلفها عند الهجير.
لماذا الريح ؟ في الواقع الكاتب تنقل بنا في مختلف الأماكن ولم يستقر عند حد معين منها وفي كل مرة يكتفي بالإشارة إلى ما يمكن أن يجعلنا كقراء تحرك خلفه بفضول شديد ووقوف حذر، لكنّه لا يخلو من اعتقاد جميل في ترصد الحقائق وتصديقها ولو عن بعد مادام التفكير فيها مستمرا، وربما هذا الهاجس المتغيَّر والمغيِّر يبقى سار إلى أبعد من كونه مجرد ظاهرة في الطبيعة، يحسبها القارئ رصد بسيط للريح التي قد تتحول إلى إعصار يهزّ كيان الإنسان ويزعزع استقراره، في هذا المستوى يلتبس عليه معرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت منه كائنا تائها في كل مكان، ما أصابه منها إنّما من قبيل السؤال الملحّ الذي انتبه ذات يوم تكرر معه مثلما تكرر معه في البداية، يتكرر معه في النهاية و قد يبقى غامضا، لا جواب له وإن وجد الجواب تكرر طرحه مرة أخرى و ربما بحدة أكثر.
وهذه الريح قاموسٌ للغةٍ غير مقروءة! وأطلسٌ لجغرافيا تستعصي على الفهم. هذه الريح كانت – ولا تزال – ملاذَ القبائلِ البدوية في رحلةِ البحثِ عن حربٍ من أجل ناقةٍ عوراء! أنا الوحيد الذي يستطيع أن يمشي حافي القدمين في رمالكِ الحارقة، والوحيد – صاحب المهابةٍ – الذي يعرف سرّ كيمياء الحرارة. ها هي اللعنة الآن على أعتاب بابي الخشبي، آآآآهِ يا لُعبتي الصغيرة! كم بكيتُ – فقط أمامكِ – قبل أن أُغيّر اللكنة الحزينة قبل آذان الفجر! كم – يا صغيرتي – خلعتُ كبريائي الوحيد، لأرتديكِ! هذا سرٌ بيننا، فلا تبوحي بالسر إلاّ للريح والصحراء.
والملفت في هذا النص تنوع الخطاب الذي اتخذ مسارات متنوعة في البحث عن هذه الحقيقة، وبالتالي تنوعت لغة الخطاب، من مخاطبة الطبيعة والتأمل فيها والغوص في أعماقها والتنقل بين أجزائها الكثيرة، الصحراء، البحر، البدو إلى مخاطبة الإنسان في حدّ ذاته ومع ذلك ينتابه الشك والتردد في هذا الاعتقاد بما أنّ دون اليقين أسئلة كثيرة.
أنتِ التي تفهمين لغتي التي لا يفهمها أحد. كُلّهم – بلا استثناء – لم يفهموا، وكأنني كان يجب أن أتعلم لغاتهم كي يُتاح لي أن أصرخَ بلغةٍ يفهمونها! كُلّهم – بلا استثناء – ظنّوا أنني أبيع خرز الساحرات ، وأوهام القراصنة الباحثين عن كنزٍ ما في بحرٍ لا يعرفه أحد! كُلّهم – بلا استثناء – نعتوني بالجنون، فلم أستطع أن أبوح أكثر.
تلك هي صورة البقاء و الحياة تعجّ بالناس العابرين و أنّ القلق مسّ الجميع لا فكاك منه من الصحراء الواسعة إلى البحر اللجب فالبدو المترامية الأطراف إلى الشارع المكتظ و الحياة تزادا اكتظاظا كلما امتدت رقتها عبر الزمان و المكان قد تكون النهاية بلا نهاية.
للبدو هذه الصحراء، ولي هذا الشارع النائي، المُرصّع بالضوضاء والعابرين. قال لي عابرٌ ما: " لا تقف على قارعة الطريق، ولا تُغني حيث لا يسمعُك أحد!" ولكنني أُريد أن أُغني . . أُريد أن أغني. ولذا استعرتُ صوتي من مالك الحزين! جبل من القطن!!
- أين شموخكَ أيها الجبل؟
* جفل !
- أين البريق الذي – في كل صخرةٍ – يضيء من بعيد؟
* أفــل !
وينفلت الوجع وزفرات الآهات المشحونة تملأ كل فراغ من النفس أو الروح، أمن الممكن أن تنجح الحياة وصور السأم والظلم والحزن تزداد يوما بعد يوم وليس هناك من يفهم ما تقول ولا يدرك مقصد إلا فئة مغبونة هي لغة يستصعبها الكثير ويشقى في فهمما القليل؟ الكاتب استخلص نهاية جميلة لتلك المعاناة التي ازدادت تعمقا و غارت في عمق الإنسان وأحيانا يكتفي بالتألم، هذه اللغة التي لا نفهما إلا بالتجربة.
آهٍ من هذه الحمى السفلية! ومن هذه الصحراء، ومن هؤلاء البدو. لقد تعبت من الدعاء، سئمت من الاستجابة! سئمتُ من الذين لا يجيدون العزف، ومن الذين لا يفهمون هذا الغناء.
ومهما انبسطت معالم الحياة فاللغز باق مادامت ساحة الحياة خالية ممن يحسنون الإصغاء ويقدرون معنى البقاء، وعلى العموم فالكاتب أثار مشكلة نموذجية في حياة الإنسان، طرح يبعث على كسر جدار الصمت وتعلم أساليب الحياة
* السعيد موفقي: كاتب وناقد جزائي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق