الأحد، 29 مارس 2009

جاء الموت وكان له عيناها


منذ أن ولدت من رحم "وقت الحلم" في العام 1995م، وهي تملئ سماوات الإبداع. عشقتُ فيها جموحها الشعري النافر، وكأنه مارد يأبى –بل يعاف- البقاء حبيس مصباحه العتيق في انتظار أن يفركه النفعيون والفضوليون. وحتى عندما قدمت لنا جميعاً دعوة على عشاءها السرّي في العام 1998م كانت ما تزال تشعل ثورةً دافئة في صدور المرتقبين ميلاد فجرٍ متعدد الألوان. ولكنها رفضتها جميعاً واصطفت الأبيض، وعندما أشرقت اكتشفنا أننا –جميعاً- كنّا مخدوعين؛ فقد اختارت اللون الأبيض بذكاء لم نفطن له؛ فأدركنا أن الأبيض هو أصل جميع الألوان، وأنها كانت تمثل كل الألوان التي يتمناها الحالمون والثوار والعشاق، وحتى الموظفون من وراء مكاتبهم الرتيبة والموحية بالملل.

"الملل" هو الشبح الذي ظل يلاحق الأدباء والمثقفين والكتّاب في رحلاتهم دون أن يتجاسر أحدهم ويبحث صادقاً عن خلاص أو فكاكٍ منه، فالتهم الكثيرين وأخفاهم داخل غياهبه، سديم الرهبة والوجل الذي اعتادوا عليه من أجله؛ حتى جاءت!

بجسارتها العفوية والجميلة، قدمت لنا الشاعرة اللبنانية جمانة حداد كتابها الأخير "سيجيء الموت وسيكون لها عيناكِ" وهو عبارة عن أنطولوجيا فريدة من نوعها، وغريبة في ذات الوقت؛ إذ تهتم الأنطولوجيا بالشعراء المنتحرين في القرن العشرين ممن استطاعت الحصول على معلومات عنهم وعن إنتاجهم الشعري. وقدمت فيه الشاعرة مائة وخمسين شاعراً منتحراً من كافة البلدان والأصقاع، ونماذج لأشعارهم، وتم تقسيم الأنطولوجيا إلى ثلاث أقسام رئيسة قدمت في كل قسم خمسين شاعراً منتحراً مع نماذج لشعره.

هذا العمل المتميّز في الحقيقة، رغم فرادته المكتسبة من فرادة الموضوع، لو تم تقديمه بغير الطريقة التي تم تقديمه بها، ربما لم يكن ليُثير تلك الضجة التي أثيرت حوله، فالشاعرة جمانة حداد، لم تقم بتجميع معلومات عن الشعراء المنتحرين في القرن العشرين من الجنسين، وطرائق انتحارهم، وتواريخ انتحارهم وبعض صورهم فحسب، بل إنها حاولت أن تقدم لنا نماذج من أشعارهم واجتهدت في ترجمتها اجتهاداً لا يُغفله كل من قرأ الأنطولوجيا وتناوله بالتدقيق.

لقد بذلك الشاعرة جمانة حداد في هذه الأنطولوجيا جهداً يُذكرنا بتلك الأزمنة التي كان يتم فيها تقديس فعل الكتابة والبحث؛ إذ جاءت الأنطولوجيا في (655) صفحة، ولا بد أن تستشعر الإتقان في كل صفحة من هذه الصفحات. ولم تُغفل جمانة حداد وضع بصمتها السحرية المميزة على الأنطولوجيا سواء في التقديم أو في الترجمات المقدمة، مما يُعطينا انطباعاً حسناً عن ذائقتها الشعرية، تلك الذائقة التي جعلتها تنصّب نفسها حكماً وتتدخلّ بحكمة الشاعر الحكيم فتصنّف الشعراء المائة والخمسون وتوزّعهم في أنطولوجيتها على ثلاثة أقسام مرتبين –بموضوعية- في كل قسم بحسب تاريخ الميلاد من الأقدم إلى الأحدث.

لقد أرهقتني جمانة حداد في كتابها الفريد هذا من عدة أوجه: فبين الذاتية المبررة والموضوعية البحثية لا تشعر بالحرج، وبين جمالية الموضوع وجمالية التداول، لا تجعلك تملك القدرة على الممايزة. وتأتي ملكات الترجمة لتضفي على الأنطولوجيا رونقاً خاصاً يجعلك تعتبرها كنزاً لا يُمكن الاستغناء عنه.

منذ زمن طويل لم أستشعر نهم القراءة لأيّ كتاب، فمنذ العام 1994م عندما قرأت رواية الخيميائي للروائي البرازيلي باولو كويلهو لم أجد كتاباً آخر يُشعرني بذات النهم، ويدفعني دفعاً إلى مبادلته اللذة والمتعة. أذكر أنني انتهيت من الرواية في جلسة واحدة ليس لأنها رواية قصيرة، ولكن لأنها كانت ممتعة ومحفزّة إلى أبعد الحدود. ولم استشعر هذا النهم مجدداً إلا مع هذا الكتاب الذي جعلني أعايش تلك اللحظات الحزينة والسعيدة والقلقة مع كل شاعر.

كنتُ قد قرأت في مقدمة جمانة حداد لهذا الكتاب هذه الجملة: "طاردتهم وعشتهم. عشتهم ومتهم. مئة وخمسين مرة عشت، ومئة وخمسين مرة مت." فابتسمت عند قراءتها، لأنني كنتُ أظنها من قبيل الجمل الدعائية التي تُمجّد العمل وتوحي بكبرياء الكتّاب، ولكنني عندما انتهيت من القراءة اكتشفت أنني عشت ومت مائة وخمسين مرة بالفعل؛ ربما لم أعش ولم أمت كما عاشت وماتت جمانة حداد، ولكنني فعلت. هي طاردتهم، ونبشت قبورهم، وجلست إلى أقاربهم وشاهدت صورهم، ودخلت مساكنهم، ورأيت أين كانوا يجلسون وكيف كانوا يجلسون، وأين كانوا يكتبون ومتى كانوا يكتبون، ولكنها حرمتنا –نحن القراء- هذه المتعة، وربما نحن الذين حرمنا أنفسنا ذلك بكسلنا المعتاد.

عندما انتهيت من قراءة آخر سطر في الكتاب، أحسستُ أنني كنت في عزلة موحشة؛ عزلة من نوع غريب، لقد فقدت الإحساس بالزمن ولم أعرف كم لبثت وأنا غارق في القراءة متنقلاً بين قبور هؤلاء المنتحرين. كنتُ أقرأ النبذة التي تجعلها الكاتبة عن كل شاعر فأعيشه، ثم أقرأ النماذج المرفقة فأعود مجدداً للنبذة الخاصة به. دمعتُ كثيراً حتى أنني سحبت صندوق المناديل الورقية ووضعتُه إلى جواري. كنت أحرص على وضع منفضة السجائر جانبي عند قراءة أي كتاب، ولكن مع هذا الكتاب، لم أستطع التدخين، كان التدخين يشغلني عن القراءة، كما أنه كان يخدش هيبته وهيبة الموقف. صحيح أنني لم أستطع إكمال قراءة الكتاب في جلسة واحدة كما فعلت في الخيميائي، ولكنني ارتبطتُ به كما لم أرتبط بكتابٍ آخر من قبل.

أنطولوجيا الشعراء المنتحرين "سيجيء الموت وسيكون له عيناكِ" كتاب للشاعرة اللبنانية جمانة الحداد صادر من داري النهار والدار العربية للعلوم – ناشرون ببيروت، وصمم الغلاف الفنان/ة عبر حامد. إنه كتاب العام بكل جدارة لذا أنصح بقارئته كل الذين يبحثون عن المتعة والقشعريرة اللذيذة. أنصح بأن يقتنوه وأن يظنوا به على غيرهم، لكي يضطروا لشرائه، فمثل هذا الكتاب لا يجب أن تفرّط به، فلا تهديه ولا تهبه ولا تُعيره لأحد؛ هو كتاب من جمانة حداد لي تحديداً، ولك تحديداً ولكل واحدٍ منا بشكل خاص جداً.

هذه الطبعة التي بين أيدينا طبعة أنيقة وفاخرة، ولكنها لم تسلم من بعض الأخطاء المطبعية، التي كانت تُخرجني في كثير من الأحيان عن أجواء القراءة والاستمتاع وسوف أقوم بفرد مساحة أخرى لهذه الأخطاء راجياً أن يتسنى للأستاذة جمانة حداد تدارك هذه الأخطاء في الطبعات القادمة.

السبت، 28 مارس 2009

الله والشيطان في الريّس عمر حرب


فيلم الريس عمر حرب هو فيلم مصري من إنتاج الباتروس للإنتاج الفني وإخراج خالد يوسف وبطول كل من: الفنان الشاب هاني سلامة، والفنان المتميّز خالد صالح، والفنانة سميّة الخشاب؛ وباقة من الفنانين السينمائيين المصريين। تدور أحداث هذا الفيلم حول شاب يُدعى (خالد) وقام بتجسيد دوره الفنان الشاب هاني سلامة. تتلخص حكاية الفيلم في اضطرار خالد إلى العمل في كازينو للقمار من أجل أن يُحقق هدفاً محدداً في حياته؛ وهو الزواج من حبيبته، ولكن؛ وبمجرّد استلامه للوظيفة في الكازينو يبدأ في الانسلاخ تدريجياً من حياته الأسرية والعاطفية والاجتماعية؛ إذ يرفض الجميع معرفته بسبب عمله الذي يعافه المجتمع، ويعتبر مكسبه حراماً، ولكنه وبطريقة عبثية تماماً يُقرر أن يواصل في هذه المهنة، وفي ذلك المكان؛ لتتواصل بعدها مشاهد الفيلم وأحداثه الشيّقة. ليعيش خالد حياة جديدة كلياً عما اعتاد عليه. حياة مليئة بالحكايا والقصص المثيرة والمحزنة والمخيفة، مستفيداً مما يتعلمه من رئيسه المباشر في العمل (عمر حرب) الذي اعتبره قدوته ومثله الأعلى. كان مجرّد موظف عادي، ولكنه كان يملك دافعاً وموهبة للتفوّق والتميّز، وكان دافعه في كل ذلك هو الطموح. طموحه بأن يُصبح كرئيسه في العمل، وأراد أن يكون (إله الحظ) فتعلّم القمار، وتعلّم كيف يُمكنه أن يتحكم في دوران طاولة الرويليت، ليس فقط ليكون كعمر حرب، ولكنه كان يمتلك دافعاً شخصياً وهو الانتقام من أحد العملاء الذي أهانه إهانة بالغة.


يبدأ الفيلم بنزول عمر حرب (الذي قام بتجسيد دوره بمهارة فائقة الفنان خالد صالح) من سيارة فارهة جداً، ودخوله الكازينو في أبهة أوضحتها الكاميرا من مشاهد الموظفين المصطفين بكل أدب واحترام. يدخل (عمر) على مجموّعة جديدة مكونة من عشرة شباب (من الجنسين) تعيّنوا حديثاً في الكازينو الذي يديره. كل أحادث الفيلم تدور داخل هذا الكازينو وحوله. يبدأ عمر حرب بشرح قوانين العمل والتعامل مع العملاء للموظفين الجدد. ولا يغيب عنا جميعاً ونحن نتابع هذا الحديث بين رئيس العمل والموظفين الجدد، الإخلاص الشديد الذي يتكلّم به خالد صالح وإبداعه في تجسيد شخصية الريس عمر حرب. وربما –وهذا رأي شخصي- كان الفنان خالد صالح أحد تلاميذ مدرسة الفنان القدير يحيى الفخراني القائمة على المصداقية الشديدة والإخلاص في العمل، وينتمي إلى هذه المدرسة عدد لا بأس به من الممثلين كالأستاذ الراحل أحمد زكي، والراحل محمود مرسي وغيرهما. وفي اعتقادي الخاص كذلك، أن الفنان خالد صالح يمتلك موهبة تمثيل جبارة تجعله قريباً يتربع على عرش السينما المصرية بل والعربية بكل جدارة. فهو فنان له القدرة على التحرك داخل مساحة الشخصيات التي يقوم بتجسيد دورها ببراعة شديدة، ولن أقول بأنه يُضفها لها رونقه الخاص، لأنني بذلك سأكون قد هضمته حقه، فهو فنان متعدد المواهب، ويمتاز بكاريزما استثنائية تؤهله للقيام بأي دور والنجاح فيه: دور رجل فقير، أو دور رجل غني فاحش الغنى. القيام بدور الشرير، أو دور رجل طيّب وكل هذه الأدوار يقوم بها بإبداع منقطع النظير.

يشتغل خالد في الكازينو وفي خلال عمله يتعرف بالمصادفة على (زينة) ويُقيم معها علاقة جنسية دون أن يستشعر تجاهها بأية عاطفة، ويتعرف كذلك على (حبيبة) التي يحبها بإخلاص من كل قلبه. كانت زينة إحدى المومسات اللواتي تعمل في الكازينو سيدة مطلقة ولديها ابنة واحدة، وحبيبة سيدة متزوجة من رجل مريض بداء السرطان. تسعى حبيبة جاهدة لجمع المال اللازم لعلاج زوجها، ويُقرر خالد مد يد العون لها، وذلك بمساعدتها على الربح على طاولة القمار، وعندما تعرف زينة بأمر علاقته بحبيبة تثور عليه وتحاول قتله، ولكن عاطفتها الجارفة تجاهه تمنعها من ذلك. يُقرر خالد بعدها الاستمرار في علاقته مع زينة ومضاجعتها كلما أرادت ذلك، ويحتفظ بمحبته لحبيبة ويمد لها يد العون في كل مرة. إلى أن يكتشف بالصدفة المحضة؛ أن حبيبة لم تكن تودع المبالغ التي كان يُعطيها لها في خزينة المستشفى، وعرف أنها كانت تبتزه فقط. عاش خالد حياة قاسية مليئة بالخوف والوحدة وكانت تتناوشه الأحلام المزعجة في كل حين، وحتى عندما أتقن حرفة القمار، وتعلم كيف يُمكنه السيطرة على عجلة الروليت، أصبحت نوبات تأنيب الضمير تأتيه من حين لآخر لأنه كان سبباً في إتعاس الكثيرين.

وفي نهاية الفيلم يكتشف خالد أن كل ما يدور من حوله، ما كان إلا مجرّد تمثيلية من صنع الريس عمر حرب، الذي كان قد خطط لأول مقابلة له مع زينة، وأنه كان وراء تعرّفه على حبيبة. ولكنه رغم صدمته لم يستطع أن يتخلى عن العمل في الكازينو، كان الريس عمر حرب يُحيطه بكل عطف ورعاية رغم ما يبدو عليه من قوة وجبروت. وهنا تتضارب المشاعر الإنسانية، ويشعر خالد أنه لا مهرب له من مديره إلا الارتماء بين أحضانه، والاستسلام له، ولرغبته في أن يكون له ذلك الابن الذي طالما تمناه دائماً.

وفي الحقيقة فإن ثمة مشاهد كثيرة جداً في هذا الفيلم تستحق التوقف عندها؛ في محاولة لإعادة قراءتها، وفهمها بطريقة صحيحة أو عميقة، ومن تلك المشاهد: المشهد الأول الذي تحدثنا عنه الآن، والذي ينتهي بجملة شديدة العمق إذ يقول فيها (عمر) لمجموعة الشباب: (لبس الديلر زي الكفن، مالوش جيوب، والكازينو زي الدنيا تدخلها عريان، وتخرج منها عريان) ثم يبدأ الموظفون بعد ذلك في استلام مواقعهم، ومباشرة عملهم في الكازينو. وكان الكازينو دنيا كاملة بالفعل، بكل ما فيها من أصناف البشر وطبائعهم المتناقضة والمتقاطعة، بكل مذاهبهم ومشاربهم: المصري وغير المصري، العربي وغير العربي، المسلم والمسيحي، الرجال والنساء. كان الكازينو فعلاً تجسيداً مصغراً (ولكن متقناً) للدنيا.

وقبل أن نحكي قصة الفيلم لابد لنا من الإشادة بالرؤية الإخراجية التي تعامل بها المخرج خالد يوسف مع هذا الفيلم، والذي كان له دور كبير جداً في تجسيد الملامح الفلسفية التي يستهدفها الفيلم. وربما استفاد خالد يوسف من أستاذه وأستاذ المخرجين العرب (المخرج الراحل) الأستاذ يوسف شاهين في تقنيات التصوير المتقنة، والتي تهتم بالتفاصيل، وتُركز ليس على الجانب السينمائي للمشاهد فحسب؛ وإنما على الجانب الإنساني كذلك، يُبدع خالد يوسف كثيراً في تسخير الكاميرا،وتطويعها إلى أداة ناطقة في المشهد. ومن ذلك مشهد إزاحة الستارة الحمراء بعد انتهاء الريس عمر من توجيهاته للشباب، وانفتاحها على عالم الكازينو الذي يضج بالحركة والحيوية، بعد جو من الهدوء والتوتر الذي كان يكتنف ذلك الاجتماع السريع. وهذه الخاصية تميّز بها الأستاذ يوسف شاهين، وكانت إحدى السمات الأساسية المميزة لأفلامه.

الفيلم عبارة عن قصة الشاب خالد الذي يحكيها لنا بنفسه من خلال تقنيات السرد داخل الفيلم. بدأ المخرج خالد يوسف في استخدام هذه التقنية مع بداية الفيلم مباشرة، حيث جاء على لسان بطل الفيلم: (كانت كلمة كازينو بالنسبة لي حاجة زي الموالد: ناس صايعة بتلعب قمار، وملك وكتابة. لقيتهم حاجة تانية خالص) وهي تقنية جيّدة وجديدة على السينما العربية، ولا نجد هذه التقنيات مستخدمة بكثرة في كثير من الأفلام. وربما عرفت السينما العربية هذه التقنية في بواكير هذه الألفية. كما تظهر ألمعية المخرج خالد يوسف في حركة الكاميرا بين أعداد كبيرة من الناس داخل الكازينو، بحيث تبدو الحركة وكأنها تستنطق المكان تماماً، وهو يعرف تماماً كيف يوظف الكاميرا في حالات كهذه، كما يعرف تماماً كيف يستثمر الممثلين وحتى الكومبارس من حيث أماكن وقوفهم، والزوايا التي تتناولهم بها الكاميرا؛ تماماً كتوظيفه للكاميرا أثناء الحوار الذي كان بين خالد وعمر حرب عندما كان يخبره برغبته في أن يكون له ابنه له نفس ذكائه وشبابه. كانت الكاميرا تدور في شكل نصف دائرة متوازية تماماً مع استدارة الطاولة التي كان يجلسان عليها. تبدأ الكاميرا دورانها من نقطة خالد وتلتف حتى تنتهي في النقطة المقابلة؛ حيث يجلس فيها عمر حرب، وهو توظيف ممتاز للكاميرا، تتناسب مع نسق الحوار، حيث أن رؤية الطرفين هامة جداً.

ومن الجوانب المثيرة التي استطاعت الكاميرا رصدها بحرفية عالية جداً (وهذا لا يعود الفضل فيه للمخرج فقط وإنما للمثل كذلك) ذلك المشهد الذي كان عمر حرب فيه يختبر قدرات الموظفين الجدد في الحساب. كانت الكاميرا تأخذ المشاهد من خلف الموظفين، وعندما جاء الدور على (خالد) التقطت الكاميرا -دون أن تتحرّك أو أن تغيّر زاويتها- حركة أصابعه المتهيّبة وهو يستعد لتلقي أولى أسئلة رئيسه. (كانت الأسئلة عبارة عن عمليات حسابية) هذه الحركة لم تكن لتصدر أبداً بتلقائية وعفوية إلا من خلال ممثل متمكن يعلم تماماً أن التمثيل لا يشترط فقط وقوفه أمامها، ولكن –وكما كان الفنان الكبير الراحل: أحمد زكي يقول دائماً- : يجب أن تتعلّم أن تمثل بظهرك أو قفاك، لأن تعابير الجسد واحدة سواء من الأمام أو من الخلف، ووقوف الكاميرا خلف الممثل لا يعفيه أبداً من القيام بدوره على الوجه الأكمل؛ كما لو كانت الكاميرا أمامه مباشرة. غير أن الفنان هاني سلامة -في ذات المشهد- أخفق قليلاً عندما فضح نفسه بحركة شفاهه التي أظهرت أنه لا يُجيب عن الأسئلة، وإنما يؤدي دوراً تمثيلاً؛ فقد كانت حركة الشفاه أسرع ببضع أجزاء من الثانية وهو يقول (6250). فعندما تجري عملية حسابية، لا يُمكن أن تتحرك شفاهك بالإجابة قبل أن تكتمل العملية الحسابية في الدماغ تماماً، بل على العكس؛ بعد أن تُنهي الدماغ عمليته الحسابية، يُعطي الدماغ إشارات عصبية للفم لينطق بالإجابة، ولكن ما حدث من (خالد) كان يبدو أنه استنطاق لإجابة كان يعرفها مسبقاً؛ رغم أنه لم يُظهر هذا الاستعجال في الإجابة على الأسئلة السابقة.

ونفس الخطأ وقعت فيه ممثلة كانت تؤدي دور عاملة طاولة (تيلر) إذ تسرّعت كثيراً في التعبير عن ردة فعلها عندما أراد أحد العملاء لمس أحد أثدائها، كانت ردة فعلها سريعة لدرجة توحي بأنها كانت تعلم تماماً بما سيحدث، ولكنني أجد لها العذر لأنها ليست ممثلة محترفة، بينما لا يُعفى ممثل مثل هاني سلامة في مثل هذا الخطأ، والذي وقع فيه كذلك الفنان شريف منير في فيلم (الكتكات) أمام الفنان الكبير محمود عبد العزيز. كان الفنان محمود عبد العزيز يجسّد دور شيخ ضرير؛ بينما جسّد الفنان شريف منير دوره ابنه. كان الابن يقف خلف والده الظهير، وأبدى ردة فعل استباقية عندما التفت والده إليه ليطبع صفعة قوية على جبينه.

اختلطت أفكار كثيرة جداً في هذا الفيلم بين الجوانب الإنسانية العاطفية، والجنسية، والمادية الجشعة، ومحاولات خلق علائق رومانسية للحد من سطوة الجمود الفلسفي الذي يكتنف قصة الفيلم، ولكن حتى تلك الإحالات العاطفية كان لها معنى ساهم كثير في تدعيم توجهات الفيلم الفلسفية شديدة الحضور. حاول الفيلم منذ البداية إظهار الريس عمر بمظهر خارق وهذا المعنى هو ما تقوم عليه قراءتي المتواضعة للفيلم. فالريس عمر إضافة إلى هوايته -غير المخفية- في مراقبة الموظفين عبر كاميرات موزّعة على المكان؛ فهو يمتاز بالملاحظة الدقيقة لكل ما يجري حوله، ولكل ما يصدر من الموظفين من تصرفات، حتى تلك التي تبدو في شكل سرّي: كسرحان الموظفين، واختلاسهم النظر لما يجري من حولهم. وكذلك قدرته الخارقة التي تكمن في عينيه، ومن ذلك تحكّمه في البلية وحتى حركة السلندر، وكذلك ما حكاه عن خالد من موقفه من الكلاب التي سلّطها أحد أعدائه عليه، وقدرته العجيبة في إيقاف الكلاب، وتهدئتهم، وإعادتهم مرة أخرى بمجرّد نظرة من عينيه. كل ذلك يُعطي لعمر حرب مواصفات غير عادية وتجعله من شخصية مريبة ومخيفة فعلاً، والسؤال هنا هو: لماذا؟ لماذا أراد خالد يوسف أن يظهر عمر حرب بهذه الشخصية؟ وهذا ما سأحاول الإجابة عليه من خلال هذا المقال.

من الأسئلة التي طرحت نفسها عليّ وأنا أتابع الفيلم، هو حديث (خالد) عن حياة الكازينو وتقسيماتها والتي لا تتاح لشخص جديد على المكان أن يعرفها إلا بعد مرور وقت طويل، ومن ذلك ما كان يحكيه هو بنفسه في قوله: (الكازينو ده في شلّتين: شلّة عمر حرب؛ أو الريس زيّ ما بيسموه، وده ما حدش عارف مستمد قوتو منين. وشلة مونير موني واللي بيسندو المدير الأجنبي) ثم يبدأ بشرح طبيعة العلاقة القائمة بين هذين الشلّتين بقوله (الشلتين بكرهو بعض) ويستفيض في سرد تاريخ هذا العداء بين الاثنين، ولو أن هذا السرد تأخر قليلاً لقلنا أنه تمكن خلال هذه الفترة أن يعرف هذه التفاصيل، ولكن هذا الحديث جاء في أول يوم باشر فيه (خالد) العمل، وتحديداً بعد مشهد شرح فيه خالد عدم اعتياده على الحياة الليلية وكيف أن عمر حرب أيقظه من غفوته خلال الاستراحة وذلك بسكب الماء البارد عليه، وليس من المنطقي أن يكون خالد وقتها قد تعرّف على هذه التفاصيل. وربما كان من المنطقي أن يحكي (خالد) ذلك على لسان آخرين ممن سبقوه في العمل في الكازينو، كما فعل في أكثر من مرة عندما كان يحكي عن عمر حرب كقوله مثلاً (بيقولوا كمان إنو قتل أبوه وورث منو ثروة كبيرة)

ومن هذه الأسئلة كذلك هو وضع عمر حرب من الكازينو، فأنا شخصاً لم أعرف ما إذا كان مالكاً له أم مجرّد مدير عليه. ففي حديث (خالد) عن انطباعاته الأولية يقول عن عمر حرب: (هو المدير الوحيد اللي سمّوه الريس دوناً عن باقي المديرين) وكذلك قوله( أول واحد جا هنا الكازينو، حافظو حتة حتة) مما يُشير إلى أن الكازينو مملوك لشخص آخر، وأن عمر حرب ما هو إلا مجرّد مدير، ولكن بقدرات متميّزة وشخصية مُلغزة.

ومن الإلماحات الجميلة في هذا الفيلم: الإشارة إلى ارتياد بعض الأمراء العرب للكازينوهات وصالات القمار؛ كشخصية (الأمير حمد) الذي ظهرت في الفيلم وهو شخصية ماجنة لا تتورع في عمل أيّ شيء؛ طالما أنها تعلم تماماً أنها تملك القوة والسلطة على فعل ذلك. وربما تناولت أفلام كثيرة موضوع الشخصية العربية أو الخليجية بالتحديد وما تقوم به في المجتمع المصري لاسيما في صالات الديسكو والكازينوهات وصالات القمار، ولكن وحسبما أذكر أنه لا يوجد فيلم واحد تناول الشخصيات الاعتبارية في هذه البلدان. ففيلم كفيلم (كباريه) أو (خالتي فرنسا) يتناول هذه الظواهر بطريقة سطحية وعابرة، ولكنها تحاول فيها تجسيد ما يحدث في الواقع، إلا أنها رغم ذلك لم تتجرأ في تناول شخصيات اعتبارية كشخصية الأمراء والشيوخ العرب. وجاء على لسان (خالد) وهو يحكي عن أحد عملاء الكازينو ويُسدعى حمدي الدنجوان، الذي يقول عنه: (ممثل قديم ما حققش أي نجاح في السينما، اشترا جنسية بلد من أفريقيا بخمسة آلاف جنية عشان يقدر يخش الكازينو، وبيجي عشان يقابل الستات. تخصصو الأميرات، وطبعاً بيصرفوا عليه) واللبيب بالإشارة يفهم. وفي الحوار الذي دار بين (سحر) ابنة زينة وخالد يظهر جلياً تفعيل هذه السمة بشكل أوضح، وأن الأمراء العرب ليسوا فقط مرتادو طاولات قمار فقط؛ وإنما أصحاب مغامرات غرامية وجنسية كذلك. تقول سحر في حوارها مع خالد الذي يلتقيها لأول مرّة:

- انت خالد؟
- ايوة
- انا سحر. هي ماما ما كلمتكش عني؟
- ماما؟ انت بنت زينة؟ لا .. هي ما قالتليش غير على أخوكِ عبد الله بس.
- وطبعاً قالت لك إنو أمير، وان أبوه الشيخ مهران من العيلة المالكة، وإن ليه حقوق ولازم تجيب هالو. مش كده؟ عبد الله ده مالوش وجود، الشيخ مهران وهي حامل وسافر، وهي سقطت. بس بعتتلو صورة ابن صاحبتها ولحد دلوقتي بتهددو إنها حتقول لقرايبو من العيلة المالكة عشان يبعت لها فلوس. زي ما بتقول لي كده إنك متجوزها عرفي!

وما تناوله الفيلم من شخصيات (الشخصية السودانية)، وكعادة السينما المصرية تناول هذه الشخصية بالاستهزاء والسخرية في محاولة لتنميط الشخصية ووضعها في قالب كوميدي، تتخذه مادة للسخرية. يقول (خالد) في وصفه لأحد الشخصيات السودانية التي تتردد على الكازينو بقوله (أما الحظ الحظ بقا فما بيلعبش غير ما الغشيم المستجد اللي ما بيخططش) وحتى يستمر هذا المقال في مساره الموضوعي، ودون أن أنزلق في مزالق الذاتية والدوافع الشخصية؛ فإنني لن أصدر أحكاماً على هذا النوع من التعامل، فالسينما المصرية دائماً ما تتناول الشخصيات السودانية بهذا النسق التنميطي المُسيء ليس فقط السودانيين، وإنما حتى الشخصيات النوبية التي يتم استغلالها لصالح العمل السينمائي بنوع من الفوقية؛ فهي لا تلعب في السينما المصرية غير شخصية البواب أو الغفير أو الخادم الذي دائماً ما يكون محل سخرية، ويخطر في بالي الآن فيلم (اللي بالي باك) من إنتاج السُبكي والذي قام ببطولته الفنان الكوميدي محمد سعد والنسق العنصري الواضح الذي تناول به الفيلم إحدى الشخصيات النوبية أو السودانية. كانت اللقطة التي ظهرت فيها الخادمة السودانية في الفيلم امتداداً واضحاً لذات النسق الاستهزائي الواضح. كان (رياض) والذي جسّد دوره الفنان محمد سعد في استقبال الفتاة السوداء متخيلاً إياها ابنته فعانقها وقبلها حتى اكتشف من زوجته (فيحاء) والتي جسدت شخصيتها الفنانة لمياء سامي العدل؛ حين أخبرته بأنها ليست ابنتهما، وأنها ابنة الشغالة وما قاله بعد ذلك متعجباً: كيف لرجل أبيض وامرأة بيضاء أن يُنجبا فتاة بلون العجوة!

احتوى الفيلم على مشاهد كثيرة درامية مؤثرة جداً، لامست أوتارنا الحساسة. كان المخرج يُراهن على الجانب الإنساني للمشاهد، واستطاع بنجاح منقطع النظير أن يرصد تلك الحالات الإنسانية لاسيما عندما، تتقاطع المشاعر وتختلط مع بعضها: الكرامة والكبرياء في مقابل المصالح والحياة نفسها، يظهر ذلك جلياً في معظم مشاهد الفيلم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، المشهد الذي تعرض فيه (خالد) لإهانة من أحد العملاء (يحيى الدهان) والذي جسّد دوره الفنان العراقي بهجت؛ إذ قام بالبصق في وجهه، ولطمه، وخلع حذائه وضربه على رأسها به. ثمة عميل آخر قام برش الماء في وجه (تيلر) آخر، ولكن هذا العميل أسرف في إهانة خالد لسببين رئيسيين في اعتقادي: أولهما أن خالد كان قد رفض عرضاً قدمه إليه من قبل يقتضي مساعدته في تسهيل مكسبه على لعبة (الروليت)، ولكنه رفض. والسبب الآخر أن المخرج أراد أن يُوضح الجانب الإنساني العميق في هذه الحالة بالتحديد، ونجح في ذلك. بينما نجح –وبامتياز- هاني سلامة في تجسيد هذا المشهد الدرامي بعمق وحرفية شديدين، ومشهده وهو يدمع أسفاً على كبريائه المسفوك على طاولة القمار، وكبته لتلك المشاعر وهو يقول (Your bastes please) كانت تلك من أكثر المشاهد المؤثرة في الفيلم، وكانت هذه الحادثة سبباً في تعرّف خالد على (زينة) والتي جسدت شخصيتها الممثلة (غادة عبد الرازق).

ومن المشاهد الإنسانية المؤثرة في الفيلم، موقف المومس زينة والذي دفعت فيه بابنتها (سحر) بين أحضان أحد الشخصيات الخليجية الذي استغل حاجتها الماسة إلى النقود لتقامر بها. كانت زينة فقط بحاجة إلى مائتي دولار، وعندما وافق الخليجي على إعطائها المبلغ مقابل أنت تهبه ابنتها، وفقت على أن يدفع لها عشرة آلاف دولار. ربما قالت له ذلك ليُخرج الفكرة من رأسه ويعدل عن ذلك، وربما أرادت فعلاً أن تبيع ابنتها بهذا المبلغ الذي يستحق. كان ذلك امتحاناً قاسياً للنفس البشرية، امتحاناً تقف فيه المشاعر الإنسانية في أجمل صورها (الأمومة)، أمام سطوة المال وجبروته. وما إن وافق الخليجي حتى اتصلت على ابنتها وأمرتها أن تتبرّج وتأتي على الفور، أسلمت الأم ابنتها للخليجي، وكان مزيج من المشاعر المتضاربة يظهر في وجه زينة وهي تسلّمه ابنتها الوحيدة. أهذا فعلاً ما يفعله المال بالناس؟ أذكر أن الفنان والمغنية المصرية (شادية) قالت جملة في إحدى أفلامها (لا تسألني من أنا) والذي مثلت فيه دور أم لخمسة أطفال، اضطرت لظروفها المعيشية القاسية أن تبيع إحدى بناتها لسيدة غنية، وعاشت معهما خادمة في المنزل، كي ترى ابنتها وهي تكبر وتترعرع في حضن السيدة الغنية دون أن تعلم الطفلة بأن الخادمة هي أمها، وكانت تتعامل معها كأنها مربية لها، في حين كان أبنها الآخرون يعيشون مما تأخذه الأم من أجر خدمة أمهم في منزل السيدة الثرية. وعندما ماتت السيدة الثرية تركت كل ثروتها لابنتها التي جسدت دورها الفنان (يسرا) وعرفت فيما بعد أن خادمتها ومربيتها ليست في الحقيقة إلا أمها البيولوجية، وعندما عرف بقية الأبناء غضبوا منها، وعنفوها لأنها باعت أحد أبنائها، فقالت: (طول ما في فقر، الناس مش بس حتبيع أولادها، دي حتبيع لحمها) فهل فعلاً يفعل الفقر ذلك؟

أقسى ما يمكن أن يتصوره إنسان على الإطلاق، أن تُقدم المرأة على بيع جسدها مقابل المال وليس المتعة، والأقسى من ذلك، أن تبيع المرأة جسد ابنتها لذلك. ولقد استطاعت غادة عبد الرازق أن تجسد هذا المعنى في شكل جيّد، فللحظات كنتُ أعيد المشهد وأدقق النظر في عينيها وفي وجهها لأقرأ فيهما نسبة الطواعية والرضوخ. إن للمال سطوة لا يعرف ثقلها إلا الفقراء والمحتاجين. هذا ما يفعله القمار، يجعلك عبداً للمال. وقدّ عبر خالد عن هذا المعنى حرفياً داخل الفيلم، الأمر الذي يجعلني في النهاية أقول بأن الفيلم كان فيلماً واقعياً يعكس دهاليز مظلمة لهذه الحياة لهذه (الكائنات الليلية) كما أسماهم الفيلم. الحياة في الليل غابة موحشة، وقاسية، ولا يعيش أحد في الليل إلا مضطراً.

وفي اللقطة التي تستلم فيها زينة المبلغ من الخليجي، تقف مترددة للحظات قصيرة جداً، ولكنها كانت معبّرة. ربما كانت تنظر إلى المال باحتقار أو كراهية. وأمسكت سحر بساعد أمها في لوحة تعبيرية غاية في الدهشة. كانت تلك اللقطة من اللقطات الناجحة في الفيلم بكل حقيقة. كانت زينة تنظر إلى ابنتها بنظرات مشفقة جداً وهي تسألها عما إذا كانت خائفة. وتلك البحة المعبّرة وهي تقول لها: (ياللا روحي معاه) كانت متوافقة تماماً مع المشهد بكل تفاصيله الإنسانية. وأمضت زينة بضع دقائق وهي تحاول استعادة توازنها؛ فتأخذ نفساً عميقاً وترفرف النقود أمام وجهها ليمنح بعض الهواء. وفي الغرفة؛ تتضح حقيقة عجز الرجل الجنسي فتعود الفتاة إلى أمها. وربما كانت تلك من أمتع المشاهد الحيوية على الإطلاق، راحت الأم تعتذر لابنتها وتطلب منها العفو والسماح، بينما راحت البنت تطمئن أمها على أنها ما تزال فتاة بكر، وأنه لم يستطع أن ينال من شرفها. مشهد مؤثر جداً استطاعت كل من الممثلتين –بمساعدة أدوات المخرج العبقرية- أن يُؤديانها بشكل أكثر من رائع.

كانت لخالد قصتان مع سيدتين إحداهما هي زينة المومس prostitute والأخرى حبيبة والتي جسدت شخصيتها الممثلة (سمية الخشاب). ربما لم يشأ خالد في أن تكون له علاقة مع زينة لاسيما وأنها عرضت عليه من قبل أن يتقابلا في غرفتها ولاحقته كثيراً؛ فرفض. ولكنها كانت حوجة إنسانية. وفي حالات الحزن الشديدة كتلك، يشعر الإنسان أنه بحاجة إلى أيّ شخص، لأن الإحساس بالحزن يدعم كثيراً الإحساس بالوحدة، وهو ما كان يشعر به خالد في عمله الذي كلّفه علاقته بخطيبته وعائلته وأصدقائه السابقين. بينما كانت علاقته مع حبيبة علاقة غريبة؛ فلقد أحبها من أول نظرة، ربما أغرته بضحكاتها الجميلة ونظراتها الطفولية، ولكنها صارحته بأنها لا تحبه، وأنها مخلصة لزوجها رغم العلاقة الجنسية العابرة التي حدثت بينهما في بداية الفيلم. ويظهر ذلك جلياً من الحوار الذي حدث بينهما في إحدى الكافتيريات وهي تحكي له عن معاناة زوجها مع مرض السرطان، وهو يعرض عليها المساعدة من خلالها جعلها تكسب في طاولة القمار: (خالد انت بتساعدني ليه؟ بتحبني، مش كده؟ بس أنا ما بحبكش. صحيح نمت معاك مرة، بس مش عشان بحبك. لا! عشان أنسى)

لم يشأ خالد أن يدخل في مقارنات بين زينة وحبيبة، فزينة مومس متمرسة، وهي تعمل في الكازينو كمومس، بينما حبيبة شيء آخر. حتى تلك العلاقة الجسدية التي حدثت بينهما لم يشأ أن يُفسّر على المحمل السيئ أبداً. هذا يُذكرننا بقول الشاعر: عين الرضا عن كل عيب كليلة *** وعين السخط تبدي المساويا

ولذا فإنه يقول واصفاً حالة العبثية التي يعيش فيها: ( ما بقيتش عارف أنا بحب مين؟ بحب حبيبة ومافيش بينا علاقة؟ وغرقان مع زينة وأنا عارف إني ما بحبهاش. كل حاجة داخلت في بعض، ما بقتش عارف أنا مين، ولا حتى أنا عايز إيه)

كل ما سبق أعتبره أنا شيئاً على هامش قضية الفيلم الأساسية، وهو المعنى الفلسفي المدفون داخل الحوارات وداخل المشاهد والقصص والحواديت التي يراها ويسمعها؛ بل ويعايشها خالد كل يوم، ونعيشها معه لحظة بلحظة. ضج الفيلم بالعديد من الحوارات العميقة والتي تحمل فلسفة الحياة، وقانونها العدمي الذي لا يعرفه سره إلا القلّة فقط. قانون يتحكم في العالم وفي مصائر الناس، ويمتلك مفاتيح ألغاز كثيرة عن الناس وحياتهم والدوافع التي تحركهم، ورغباتهم وأحلامهم. لا يُمكننا استخلاص هذا القانون من حوار واحد، أو حتى من مشهد كامل، بل يجب علينا أن نربط بين مجمل الحوارات المتناثرة في الفيلم وبين ما يدور داخله من أحداث.

من هذه الحوارات، ذلك الحوار الذي كان بين عمر حرب وخالد، عندما قرر العودة ومواصلة العمل، بعدما قرر ترك العمل بسبب الإهانة التي وجهها له يحيى الدهان. والغريب أن كل المقولات التي جاءت في هذه الحوارات والتي تحتاج منا إلى عمق فلسفي نوعاً ما كانت تأتي دائماً على لسان عمر حرب. ولنلق نظرة سريعة على بعض هذه الحوارات.

من حوار عمر حرب مع خالد بعد قرار مواصلته للعمل: (الناس هنا نوعين يا خالد: نوع عديم الموهبة، كل طموحو في الحياة لقمة العيش. همّ دول اللي اتحط لهم القانون. القانون سور يحميهم، ويقيّدهم في نفس الوقت. النوع التاني: الموهوبين، أصحاب الأحلام، والقدرات الخاص. اللي عندهم طموحات ما لهاش نهاية، واللي يعرفوا كويس معنى الحرية. دول ما اتحطلهمش القانون إلا علشان يكونوا Free ، همّ اللي بيعملوا القانون لنفسهم. حريتهم الشخصية هيّ القانون. تعرف إن كلّ ده ويُشير إلى فنادق ومساكن وراء النهر ممكن يكون ملكك؟ لو بس جات لك الجرأة إنك تحلم، وتصدق حلمك. الموضوع بسيط، متوقف على حاجة واحدة بس: إيمانك بنفسك. انت إله نفسك! بس كل حرية وليها شروط؛ مهم تعرف الشرط والأهم تعرف مين اللي بيحطه!!)
من حوار عمر حرب مع خالد في عيد ميلاد الثاني: (على فكرة أنا وانت متشابهين في حاجات كتيرة أوي. إحنا الاتنين خرجنا من حضن الأسرة على قسوة الوحدة. بس ده طبيعي: كل الرواد والمفكرين والأنبياء؛ حتى المجانين ياراجل دايماً لوحدهم، ودي ضريبة الاختلاف!
من حوار عمر حرب مع خالد في بيت عمر حرب: (طبعاً كنت متوقع فيلا أو قصر، أو على الأقل شقة فيها عفش فخم جداً، بس أنا ما بحبش الكراكيب. الفقرا بس همّ اللي بيحبوها. بيخافوا من الفضا، بيحبوا كده يلاقوا حاجات كتيرة حواليهم عشان يحسوا بلذة الامتلاك؛ حتى لو لكراكيب!)
من نفس الحوار السابق: (الفلوس هي الطريق للسلطة، يعني لو امتلكت السلطة؛ خلاص! مش حتبقى محتاج لها. اللي عندو مستوى معين من السلطة، انت بتزهد في كل شيء: الفلوس والممتلكات؛ حتى النسوان ياراجل!)
من نفس الحوار السابق: (الناس خايفين يا خالد، وحاسين بالأمان عندي أنا. المفتاح الحقيقي للإنسان هو الخوف. دايماً خايف، عشان كده بيحب يعيش في قطيع. انت عارف إيه مشكلة الإنسان يا خالد؟ إنو اتخلق عشان يكون خالد؛ بس بيموت!)
من نفس الحوار السابق: (ما هو عشان تعرف تأثر ع الناس بالفن؛ لازم تبقى نبي، أو تستعد بقا تبقى شهيد عشان تقدر تستحمل جهلهم، وغباؤهم، وشرّهم. أيوة! الناس الطيبين اللي انت بتشوفهم في الشارع دول، عندهم استعداد إنهم يقتلوا أو يسرقوا علشان يجوزوا ولايلهم أو يستروا بناتهم. لكن بالفلوس بقا تقدر تسيطر عليهم، وتأمن شرهم. أوعى تقف ضد رغبات الناس؛ حتتعب وتتعبهم. خليك مع رغباتهم، حترتاح وتريّحهم.)
من نفس الحوار السابق: (خالد، أنا اصطفيتك!)
من حوار عمر حرب مع خالد وهو يخبره في رغبته في حصوله على ابن: (عمر حرب: طول ما انت معاي، مافيش حد يقدر يمسك؛ في الكون ده كله. خالد: استغفر الله العظيم)
من حديث عمر حرب لخالد عندما قرر الاستقالة وترك العمل: (أنا باستخدم الناس كلها بشخصياتهم الحقيقية، بدوافعهم، احتياجاتهم، مصالحهم بحريتهم. هم بيفتكروا إنهم بيعملوا اللي همّ عايزينو، بس في الحقيقة هم بيعملوا اللي أنا عايزو)
وعندما قرر خالد الخروج قال له عمر حرب: (حتروح على فين؟ العالم ده كله بتاعي!)
الكلمات الأخيرة لخالد : (مش معقول! انت إنسان؟ انت أكيد شيطان. انت شيطان)
الكلمات الأخيرة لعمر حرب: (انا كنت عارف إنو قانون الكازينو ظالم، مش حتستحملوا، وحتتمرد عليه. أنا اللي حاطو أصلي! عملتوا زي المصفى، اللي يعدي منو يبقى مكسور الكبرياء واللي يرفض يا يطلع بره يا يبقى زيّك يعني خالد أنا من أول ما شفتك لمحت فيك موهبة، وقررت أنميها، بس زي ما أديك الموهبة، ممكن أخدها منك تاني. انت مصلحتك معاي. أنا المدير الحقيقي للمكان. أنا مدير كل الموظفين والفاسدين؛ الاتنين! ومش عايز الكل فاسدين، غلط. مش في مصلحتي حتى! بس إذا قررت إنك تبقى فاسد، ما ينفعش ترجع تبقى بريء. اللي ياكل من الشجرة، ما ينفعش يبقى بريء. كبرت؟ عايز تلعب؟ العب، بس تحت إيدي. حتخرج عن الحدود؛ حسحقك. اللي اتعود يبقى إله، ما ينفعش تاني يبقى عبد) … (أنا عادل أوي يا خالد، حتى مع أعدائي)

وأترك تفسير هذه الحوارات للقارئ الكريم، على أنه من المهم جداً أن يربط ما جاء في متن هذه الحوار مع مجريات أحداث الفيلم وتسلسله الشيّق والجميل. ومن كل هذه الحوارات يُمكننا أن نستخلص شيئاً واحداً فقط، وهو أن هذا الفيلم بالفعل، يُريد أن يعكس لنا الدور الذي تلعبه القوى العظمى الخفية في حياتنا، وقدرتها على السيطرة في رغباتنا ودوافعنا، وبإمكانها هي فقط أن تهبنا السعادة، وتحقق لنا الأحلام. يُريد الفيلم أن يقول لنا أن هذا الكون، سائر على نسق قانوني واحد، وأن التعساء والأشقياء والفقراء هم من لم يتمكنوا من معرفة وفهم هذا القانون والتعايش معه، ولم يستطيعوا الانسجام مع هذا النسق الناموسي، وأن مفتاح السعادة الحقيقية والسلطة مستمدة في الأصل من اكتشاف هذا القانون (قانون الله)، هل قلتُ في بداية هذا المقال أن (خالد) كان يُريد أن يكون كالريس عمر؟ هل نحن نريد أن نكون كالله؟ الإجابة ببساطة هي: نعم! بطريقة ما نحن نريد أن نكون مثله، ولكنه لن نكون مثله تماماً، الله كريم، ولذا نريد أن نكون كرماء ونحب الكرماء، الله جميل ويحب الجمال، ونحن نحب الجمال ونعشقه، ونتمنى أن نكون جميلين بالفعل، الله غفور ورحيم، والرحمة من السماة الجيدة في الناس والعفو والصفح شيمة من شيم النبلاء من الناس، الله عادل، ومن منا لا يحب العدل، ولا يحب أن يكون عادلاً؟ نحن في كل ما نفعل نسعى إلى بعض الشبه مع الله، أن نكون مثله ولكن في صورة إنسانية؛ كيف لا ونحن من روحه؛ أي جزء منه.

الدنيا تدور تماماً كما عجلة الروليت، والحياة طاولة قمار كبيرة، ليس كلنا يربح، وليس كلنا خاسر. ومن يخسر لا يظل خاسراً طوال الوقت، وكذلك الرابحون. كل شيء قد ينقلب في دقيقة واحدة فقط، وبحركة عشوائية من النرد، أو لفة متسارعة من الروليت. عجلة الروليت مليئة بالأرقام، وحياتنا مليئة بالأرقام كذلك: تواريخ ميلاد، ووفاة، وأعياد زواج، وأعياد عمّال، ومحبين، وأرقام جلوس، وأرقام بطاقات ائتمانية، وهواتف، وأرقام شقق، وأرقام خزائن، وأرقام حسابات بنكية، وتواريخ مهمة. هل نتخيّل حياة بلا أرقام؟ إن كان من الممكن اختزال هذا الفيلم في جملة واحدة فقط؛ فليس هنالك أوضح من الجملة التي قالها الريس عمر حرب في بداية الفيلم: (الكازينو زي الدنيا تدخلها عريان، وتخرج منها عريان)

الخميس، 26 مارس 2009

سريالية الحكي عند محمد الطيّب سليم

قصة “نوبة الطلق الأخيرة” لكاتبها محمد الطيّب سليم -من حيث البناء- تندرج تحت جنس أدب القصة القصيرة؛ إلا أنّ شخصية الروائي غلبت على الكاتب؛ فظهرت القصة بنفس روائي واضح. ويعتبر الفضاء الزماني للقصة فضاءً قصير الأمد؛ إذ أنّ أحداث القصة في مجملها تصف لحظات قصيرة جداً من حياة بطلة القصة ألا وهي لحظات الولادة. ومن الجميل جداً أن يُسهب الكاتب في وصف هذه اللحظات السحرية النادرة التي مجّدها الأسلاف كثيراً، وألهوا بسببها الأنثى واعتبروها معجزة الطبيعة وسرّها الأكبر؛ إذ من رحمها تولد الحياة. وركّز وفي إغراقه في وصف هذه اللحظات؛ على رصد مشاعر محددة حصر فيها كل المعاناة التي تمر بها المرأة في مثل هذه المواقف؛ ألا وهي مشاعر الألم. وربما كانت مشاعر الألم هذه مناسبة تماماً لما تحمله بطلة القصة من مواجع قديمة لفقدها شخصاً عزيزاً لديها. كما نجح الكاتب كثيراً في الربط بين جدلية الموت والحياة أيّما نجاح؛ إذ وبطريقة ذكية جداً نجده قد ربط بين الحياة (ولادة الطفلة)، وبين الموت (موت توت) الذي –في رأيي- لم تكن شخصية بذات النضوج المطلوب لاسيما وأنه شخصية محورية في النص. ولكن ربط الموت والحياة بعنصر الطفولة في الحالتين هو ربط ذكي ومتقن جداً وله مدلولاته العميقة والفلسفية.

وبالعودة إلى شخصية (توت) فإننا نشعر بأن الكاتب لم يُعط الشخصية حقها من الإيضاح والوصف؛ فجاءت هلامية. ولو لم يلجأ الكاتب إلى تقنية الاسترجاع والاستذكار
Flashback لسرد أحداث تاريخية متعلقة بسيرة “توت” ومحاولة تفسير سر ارتباط البطلة به؛ لكانت هلامية الشخصية مبررة؛ إذ كانت لتبدو كشبح تماماً كما كانت في مخيلة البطلة.

كما أن الكاتب لم يوفق –في رأيي- في شرح هذه العلاقة وتفسيرها ليبدو تذكر البطلة لهذه الشخصية في لحظات معذبة كلحظات الولادة مبرراً ومنطقياً. فلم نعلم مثلاً ما إذا كان توت: حبيباً أم صديقاً أم مجرّد طفل كانت تلهو وتلعب معه قبل (21) سنة. في الوقت الذي كان فيه ذكر تفاصيل حياة توت غير مبررة كذلك ولم تخدم النص؛ فلم تقدّم لنا كشف سرّ خوفه من العساكر وقصته وقصة أهله معهم أيّة إضافة حقيقية يُمكن ربطها بأحداث القصة، ولكنها ساعدت فقط على تشعّب القصة.

النص خلا تماماً من الأسماء، وفيما خلا ورود اسم “توت” الشبح؛ فإننا لم نعرف اسم البطلة أو اسم زوجها أو اسم والدها الذي كان سبباً في مقتله، وهذا الأمر لا يُعد –بالطبع- نقيصة في النص بقدر ما جعلنا نتساءل عن سرّ عدم تسمية الكاتب للقصة باسم (توت)؛ إذ أنّ تفرّد هذه الشخصية وسطوتها على النص أكثر من الشخصية الرئيسة جعل منها (أي من شخصية توت) ترقى إلى مرتبة الشخصية المحورية بل والأساسية فيها ويجعل من الآخرين مجرّد شخصيات ثانوية مكمّلة
Koumbars

من الأمور التي استرعت انتباهنا –كقراء للنص- إصرار الكاتب على إلحاق نعت “عزيز” على بعض الشخصيات على لسان الراوي وليس على لسان الشخصيات؛ فنجده يقول مثلاً:

- كان زوجها العزيز الصوت الجهوري الذي يخاطب الحشود
- كانت قد أحسّت بالراحة لمجيء زوجها العزيز
- وآخر حدود الدفاع عن المناطق التي يحرسها والدها العزيز.

وللمرة الأولى –ولكنها لم تكن الأخيرة- يتدخل الراوي بطريقة سافرة جداً ليُضيف من لدنه إضافات غير مبررة الأمر الذي خلق تساؤلاً هاماً أو فلنقل إضاءة حول طبيعة العلاقة بين البطلة وبين توت المغدور الذي شعرنا بأنه نال عقاباً أكثر مما يستحق، فوالد البطلة –في اعتقادي- بالغ في إنزال العقوبة بتوت في الوقت الذي كان يجب عليه أن يهتم لأمر ابنته التي كانت غارقة في دمائها، ويزداد هذا الإحساس عندما نعرف أن توت وقتها ما كان إلا مجرّد طفل صغير الأمر الذي يجعل شخصية والد البطلة تصبح شخصية عدوانية ودموية. ورغم ذلك فإن نعت هذه الشخصية بالعزيز قد جاء على لسان الراوي وليس على لسان البطلة وهذا يجعلنا نشكك في حيادية الراوي في سرده لأحداث القصة. فإذا كان الراوي يرى بأن شخصية دموية وظالمة كهذه شخصية عزيزة على البطلة فإنه حتى لا يُعطي الفرصة الكافية للبطلة لتعبّر عن مشاعرها الحقيقية تجاه والدها لاسيما فيما يتعلّق بأمر توت وما فعله معه. فربما كانت البطلة تحمل رأياً مخالفاً لرأي الراوي حول هذه النقطة. هذا الأمر يقودنا للحديث عن مستوى الأصوات في النص الأدبي والسردي بالتحديد وهو ما يُطلق عليه بالـ:
First Person و الـSecond Person والـThird Person وأنا أتمنى من الكاتب أن يُراجع هذه المستويات بشكل أدق ليفهم الفارق بين صوت الراوي Narrator وبين المتحدث باسمه، وما يُسمح وما يُتاح لكل من هذه الأصوات، والأهم من ذلك كيفية استغلال والإفادة من هذه الأصوات في النص القصصي والسردي بشكل عام.

وأخيراً لابد لنا من الحديث عن ارتباط العنوان بالنص وعلاقته به. وبعيداً عن النظريات النقدية وما ذهبت إليه المدارس: البنيوية والتفكيكية والدلالية والواقعية وغيرها حول هذا الأمر؛ فإنني أقول: إن العنوان هو مدخل النص وبوابته الرئيسة ولا يجب أن نفصل بين النص وعنوانه لارتباط كل منهما بالآخر، وعلى ذلك تكون عنونة النص من أخطر المهام التي يقوم بها الكاتب في مجمل ما يكتب. فقد يكون العنوان مقصلة للنص، وقد يكون العكس. يجب أن يكون العنوان بحجم النص ومعبراً عنه. (العنوان) في النصوص الأدبية لا يجب أن يكون بسترة أو ملخصاً للنص. وارتباط العنوان بشخوص النص أو بفضاءاته الزمانية والمكانية له مدلولاته؛ ليس فقط من حيث التكامل والوحدة النصيّة والموضوعية فقط؛ وإنما له دوره في إتمام العملية الكتابية في ربط المثلث: الكاتب – النص – القارئ. فالعنوان في هذه الحالة يجب أن يكون سفير النص لدى القارئ منها يُحدد ما إذا كان سيتقبله أم لا. وأنا أنصح الكاتب بقراءته ما تناوله رولان بارت
Roland Barthes وجاك دريدا Jacques Derrida حول موضوع عنونة النصوص الأدبية فهو مفيد جداً.

في النص العديد من الأخطاء الإملائية والصياغية، وليسمح لي الكاتب بتناولها على عجالة وعرض بعض النماذج:

- “كانت في نوبة الطلق الثالث الأفظع حتى الآن” : إن عبارة (حتى الآن) تخلق نوعاً من التشويش، وتزعزع الفضاء الزماني؛ فنجده بدأ الجملة بـ(كانت) ولـ(كان) دلالات زمانية محددة، وهذا التشويش يجعلني أتساءل عن فضاء الزماني للنص: فهل يسرد لنا الراوي قصة حدثت في الماضي
Past Simple أم أنه ينقل إلينا وقائع تحدث في الوقت الحالي Present Continuous ؟ هل أراد بعبارة (حتى الآن) أن يقول بأن الطلق الثالث الذي عانت منه بطلة القصة كان هو الأفظع الذي مرّ على أيّ امرأة حتى الآن؟ الجملة مربكة جداً وغير مفهومة على الأقل بالنسبة إليّ.
- “لم ينزعج الطاقم الطبي حولها وأزعجها ذلك” : كان من المستحسن أن يقول: “أزعجها عدم انزعاج الطاقم الطبي” أو “أزعجها أن الطاقم الطبي لم يكن منزعجاً” لأن فعل انزعاجها أسبق على فعل عدم انزعاجهم، طالما أن عدم انزعاجهم هو الوضع الطبيعي لديهم كأطباء تمر عليهم مثل هذه الحالات عشرات المرات في اليوم الواحد تقريباً. ويمكننا قياس ذلك بقولنا: أدهشتني برودة الإنكليز!، فبرودة الشعبي الإنكليزي صفة ثابتة ومستقرة، ودهشتي هي الصفة الطارئة؛ لذا فهي أسبق. ولكننا لا نقول: الإنكليز باردون، وأدهشني ذلك!”
- “كانت تلهث وتلهث وتلهث” : هذا التكرار –في رأيي- يضعف المعنى، ويصيب القارئ بالملل والإحباط، وكان الأولى أن يقول مثلاً: “لم تتوقف عن اللهاث” أو “كانت تلهث دون توقف” .. إلخ.
- “رغم جحوظ بصرها” : البصر مجرّد حاسة تعبيرية عن فعل الإبصار الذي تقوم بوظيفته العينان. والجحوظ لفظة وصفية حركية تعبّر مباشرة عن العين وليس عن وظيفته؛ فنقول: “جحظت العينان” ولا نقول: “جحظ بصره”
- “يا إلهي .. يا لكل هذا الزمان الطويل” : هذه الجميلة وردت في النص على لسان الراوي، وفيه تعاطف كبير من الراوي واقتاحم منه لجو النص؛ في حين أن الراوي يجب أن يظل مختفياً وراء سرده لأحداث القصة فلا يُسمح له بالتعبير إلا على لسان شخوصه. اقتحام الراوي للنص بهذه الطريقة كان غير لائق أبداً، ومزعج. ولا يجب أن تظهر شخصية الراوي أو أن يُظهر عواطفه ومشاعره تجاه الأحداث؛ لاسيما إذا كان الراوي ينقل إلينا أحداثاً لا تخصه؛ بمعنى ألا يكون الراوي هو نفسه طرفاً في القصة أو بطلها المحوري.
- “ثم عادت لليسار وهي تنظر إليه خائفة أن لا تجده” : كان الأجدر أن يقول: “مخافة ألا تجده” مثلاً
- “عادت للانتفاض لجهة اليمين ثم عادت لليسار” : من الواضح أن (عادت) الأولى هي للإشارة إلى لمواصلة الانتفاض بعد لحظات الهدوء القصيرة جداً التي عاشتها البطلة، وأن (عادت) الثانية هي لوصف الانتقال من وضعية إلى أخرى، ومن جهة إلى أخرى. ولكن تركيب الجملة ضعيف جداً، ولا يؤدي المعنى المطلوب، وكان من المستحسن أن يقول: “انتفضت مجدداً إلى الجهة اليمنى، ثم إلى اليسرى؛ وقد علّقت بصرها به مخافة ألا تجده” أو “مخافة أن تفقده مرّة أخرى”

النص في مجمله نص إنساني راقٍ جداً ويُسلّط الضوء على تجربة إنسانية نادرة أحسن الكاتب في وصفها وتلمس منزلقاتها ومتعرّجاتها بطريقة تعبيرية رائعة نقل فيها إلينا التجربة وكأننا أحد أطرافها الحقيقيين.

الأربعاء، 25 مارس 2009

الــــــروح

الروح فيما تعارف عليه العامة هو نفخ من هواء يتلبس الأجساد وتكون بها حياتها، وجاء في لسان العرب باب الجذر "ر.و.ح": الرُّوحُ، بالضم، في كلام العرب: النَّفْخُ، سمي رُوحاً لأَنه رِيحٌ يخرج من الرُّوحِ؛ ومنه قول ذي الرمة في نار اقْتَدَحَها وأَمر صاحبه بالنفخ فيها، فقال:

فقلت له: ارفعها إليك وأحيها روحك، واجعله لها قيتة قدرا

أي أحيها بنفخك। وعلى هذا فهذا الهواء المنفوخ من مصدر ما له خاصية الإحياء وهو على الأرجح مصدر الحياة الذي بزواله تنتهي الحياة، فيقال في كلام العرب عن الميّت بأنه: "أسلم الروح إلى باريها" أي خالقها أو نافخها، وهو المصدر كما جاء أعلاه. ويُقال: "خرجت روحه" أو "صعدت روحه" وكلها تأتي بمعاني تدل على الموت وتوقف الحياة، وهي بذلك –أي الروح- مصدر الحياة والحركة في الأجساد الحيّة، وخروجها من هذه الأجساد يكون سبباً مباشراً في موتها وانتفاء حياتها.

وارتباط الحياة بالروح على ما يبدو مرتبط بالأجساد البشرية والكائنات الحيّة المادية المحسوسة، لأن بقية الكائنات غير المرئية كالملائكة والشياطين والجن ليست لها أرواح لأنها لا تمتلك أجساداً في الأصل، ومن هنا تتوّلد أولى الأسئلة المتعلقة بالروح: أيّهما متعلّق بوجود الآخر: هل وجود الأرواح متعلّق بوجود الأجساد أم العكس। وقبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال، لابد أن نتفق على جزئية سبقت الإشارة إليها سابقاً وهي: ارتباط الأرواح بذوات الأجساد المادية: كالإنسان والحيوانات والحشرات فكلها مخلوقات مادية محسوسة، وكلها ذوات أرواح كما أشارت بعض الأحاديث النبوية وفي ذلك قال ابن أبي زيد في مقدمة الرسالة: "وأن ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه. واحتج له صاحب"كفاية الطالب الرباني في شرح الرسالة بحديث الطبراني: أن ملك الموت قال للنبي صلى الله عليه وسلم : والله يا محمد لو أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو أذن بقبضها" (من موقع الشبكة الإسلامية)

فمما لاشك فيه أن الكائنات الحيّة جميعها تستمد حياتها وحيويتها من الروح التي تتلبس أجسادها، وأن خروج هذه الروح تتسبب في مواتها ولاشك। وفي هذا المبحث المتواضع أحاول إيضاح ما قد يُمكن معالجته بالنقاش الجاد حول مسألة الروح التي هي إحدى الاختلاقات الكبرى التي اخترعتها العقلية البشرية في محاولة لتفسير ظاهرة الحياة والموت، وهي إحدى أهم وأقدم الظواهر التي شغلت البشرية لقرون طويلة جداً، تماماً كتلك المحاولات التي حاولت من قبل إيجاد تفسيرات لظواهر أخرى كالبراكين والزلازل والأمطار والفيضانات، وهي ذات المحاولات التي تجعل بعضنا يغوص أكثر ليُجيب عن تساؤلات ما بعد الموت، ويقترح مشروع الحياة بعد الموت، ليخضع هذا المشروع الميتافيزيقي لإضافات وتعديلات على مر الديانات السماوية والثقافات الدينية المتعددة.

أقول أن الروح كائن لا وجود له على الإطلاق، بل هو مختلق تماماً كبقية المخلوقات المتوهمة: كالشياطين والملائكة والجن والعفاريت وبقية المخلوقات التي لا وجود لها إلا في أخيلة العقليات الدينية المتأثرة بالخرافة، وهي ذات الأخيلة العاجزة حقيقة عن تقديم تفسيرات علمية ومنطقية للظواهر الكونية المحيطة بالإنسان। والواقع أن فكرة وجود كائن هوائي يكون مصدراً للحياة هو تفسير بدائي ومتخلف جداً لظاهرة تعتمد على قوانين علمية غاية في الدقة والتعقيد. وإن من أولى المشكلات التي قد تواجهنا في نقد هذا المشروع الهلامي هو مستنسخات هذا المشروع نفسه ومحاولات تجاوز الورطة العلمية والمنطقية بتفسيرات أكثر سخافة، وتقسيمات ما هي في الحقيقة إلا ضرب من الوهم، أو التوهّم: كالتفريق بين الروح والنفس، وكلاهما عندنا ليس بذا قيمة علمية حقيقة تذكر، فكلاهما مخلوقات لا وجود لها إلا في تلك الأخيلة المهووسة بالخرافة والماورائيات. وهذا التفريق في واقعه يضع أصحاب هذا المشروع في محك يصعب الفكاك منه على المستوى التطبيقي، فكل نظرية غير قابلة للتجريب والتطبيق هي نظرية فاشلة علمياً.

والحقيقة أن حتى الكائنات التي لا توجد لها أرواح هوائية منفوخة قادرة على الحياة واستمداد هذه القدرة من الطبيعة نفسها، عير قوانين ثابتة لا تتغيّر، وهي في ذات الوقت قابلة للدراسة والتمحيص؛ ومن ثم إعطائنا أدلة تُمكننا من القياس। فالنباتات كائنات لاروحية (إن جاز هذا التعبير) ورغم ذلك فهي كائنات حيّة بكل ما تعنيه كلمة (الحياة) من معنى: فهي تنمو وتكبر وتتكاثر وتتنفس وتتغذى وتخرج الفضلات، بل وإنها تتحرك أيضاً. ومن قالوا بروحانية الكائنات لم يُحرّموا فيما حرّموا رسم النباتات في الوقت الذي حرّموا فيه رسم (ذوات الأرواح)، كما ذكر الشيخ ابن باز في قوله: " الرسم له معنيان : أحدهما رسم الصور ذوات الأرواح ، وهذا جاءت السنة بتحريمه ، فلا يجوز الرسم الذي هو رسم ذوات الأرواح ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " كل مصوّر في النار " وقوله صلى الله عليه وسلم : " أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ، الذين يضاهئون بخلق الله " ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم " ولأنه صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله ، ولعن المصور ، فدل ذلك على تحريم التصوير ، وفسر العلماء ذلك بأنه تصوير ذوات الأرواح من الدواب والإنسان والطيور . أما رسم ما لا روح فيه ـ وهو المعنى الثاني ـ فهذا لا حرج فيه كرسم الجبل والشجر والطائرة والسيارة وأشباه ذلك ، لا حرج فيه عند أهل العلك" من كتابه (فتاوى نور على الدرب ص 302)

والواقع أن هنالك مفهوماً خاطئاً للحياة من ناحية، ولآلية هذه الحياة وصيرورتها من ناحية أخرى। وافتراض وجود كائن هوائي أو روحي يكون مصدراً لهذه الحياة هو اختزال مخل لعمليات وقوانين حيوية وطويلة ومعقدة، هذا إضافة إلى أنه لا يستند على أيّ سند علمي أو منطقي مريح. وقد أرهقت فكرة خروج الروح من الجسد هذه عقول الكثيرين منذ أزمان سحيقة، حتى أن الأستاذ هادي العلوي يذكر لنا في كتابه (من تاريخ التعذيب في الإسلام) بعض المحاولات التي كان الوليد بن عبد الملك يقوم بها لإخراج الروح من منفذ آخر غير الفم في تعذيبه للبعض، وذلك على أساس أن خروج الروح من الفم أمر مفروغ منه، فكان يدفن الشخص من رأسه في حفرة ثم يأمر فيُهال عليه التراب، ثم يوطأ التراب بالأقدام، فلا تجد الروح مخرجاً آخر إلا دبر المعذب.، ما يُوحي بأن الأرواح بحاجة لمنفذ للدخول والخروج، وهذا ما يطرح سؤالاً آخر عن سبب عدم خروج الروح في حالات التثاؤب أو التجشؤ مثلاً طالما أن هذه المنافذ مفتوحاً! وقد لا يعجز الماورائيون عن سد ثغرة كهذه متحججين بأن مسألة دخول/خروج الروح لا تتم إلا بأمر إلهي فوقي.

والسؤال عن أسبقية الأجساد على الأرواح أو العكس ليس من فقط من قبيل تجديد الخطاب الفلسفي الأزلي (أيهما أسبق الروح أم المادة؟) بل هو من قبيل استنطاق الواقع الخرافي للقائلين بوجود هذه الأرواح। فإذا كانت الأجساد اللطيفة: كأجساد الملائكة النورانية، وأجساد الشياطين النارية هي أجساداً في حدّ ذاتها، فإن ثمة إمكانية لبقاء أجساد بلا أرواح، وبما أن الجسد مادة فإن الشياطين والملائكة ليسوا أجساداً بل أرواحاً أو كائنات لطيفة كما تعارفوا على تسميتها، وهو الأمر الذي يجعلنا نرجّح ضرورة أسبقية الأجساد على الأرواح، وإلا فما الحكمة من خلق أرواح ومن ثم التفكير في حبس هذه الأرواح داخل أجساد؟ بل وما الحكمة أصلاً من خلق أجساد غير قادرة على الحياة إلا بواسطة أرواح؟

إن قولنا بروحانية الأجساد اللطيفة أو الكائنات اللطيفة (الملائكة/الشيطانين) يجعلنا نتساءل عن سبب اختصاص الإنسان والكائنات المادية الأخرى: حيوانات وحشرات بهذه الخاصية الروحانية: عدم قدرتهم على الحياة بلا أرواح! أو يجعلنا على الجانب الآخر نتساءل ما إذا كانت هنالك إمكانية لوجود أجساد غير مرئية وبالتالي إمكانية أن يكون لكل من الملائكة والشياطين أرواح بدلالة أن كل منهم يطاله الموت في النهاية। (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) (الزمر:68) (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن:26/27) أو أن نقول بأن الموت والحياة لا شأن لهما بدخول أو خروج الروح.

ومن شأن العقلية الماورائية أن تؤمن بأن هذه الأرواح التي خرج من الأجساد عند الموت تعود إليها مرّة أخرى عند البعث لتسكنها من جديد، ويُضاف إلى ذلك حساسية هذه الأجساد الجديدة لتقبّل النعيم والعذاب المتوقعين في الآخرة، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن سبب بعث الأجساد إذا كانت الذوات هي أرواحاً في الأصل وليست أجساداً، وبهذا نعود للسؤال نفسه عن أسبقية الأرواح والأجساد। فإذا كانت الأجساد ليست سوى خزائن لهذه الأرواح المعتبرة، فلم يتم بعثها لتُعذّب؟ وإذا كانت الأجساد هي الأصل، فلم خلقت الأرواح أصلاً؟ هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى ارتباط الموت برمزية الكبش الذي يُذبح على خط فاصل بين النار والجنة كما جاء في الحديث: (حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ثنا إبراهيم بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت) (صحيح البخاري: تفسير القرآن) و (صحيح مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها) وهذا يطرح علينا عدة تساؤلات موضوعية للغاية.

أولى هذه التساؤلات تتشكّل حول الميل الغريب إلى تجسيد المجرّدات والتي لم تُوجد إلى في المجتمعات البدائية؛ إذ كان الإنسان الأول غير قادر على التفريق بين العلل والمعلولات، وغير قادر في الوقت ذاته على تخيّل المجرّدات إلا بواسطة النسق التجسيدي الذي انحدرت منه الفلسفة الوثنية في مرحلة لاحقة। فكان البدائيون يرون أن الخير والشر والحب والكراهية ما هي إلا مخلوقات مادية محسوسة، وهم إنما يفعلون ذلك حتى يُمكن تصوّر حركة هذه الظواهر. أما أن نُضطر لتجسيد الموت (وهو أحد المجردات) على هيئة كبش فهو الأمر الذي لا أجد له تفسيراً منطقياً على الإطلاق. وإذا تجاوزنا عن هذه النقطة بالتحديد فإننا سوف نجد أنفسنا أمام تساؤل آخر: كيف استطاع المؤمنون والكفار على حدّ سواء التعرّف على الموت وهو في صورته التجسيدية تلك؟ والواقع أنه لم تجسيد الموت على هيئته الأصلية (هذا على افتراض أن له هيئة أصلاً) فلم يكن من المنطقي أن يتعرف عليه أحد، لأنه –ببساطة- لا أحد يعرف شكل الموت ولا هيئته.

الحياة تعني الإدراك، وتعني مجموع العمليات الحيوية والعضوية التي يعتمد عليها الكائن الحي في صراعه من أجل البقاء من: تنفس، وتكاثر، وحركة، وغذاء وما إلى ذلك من عمليات بيولوجية وحيوية أخرى। وعندما أقول أن الحياة تعني الإدراك، فإنني أعني بالإدراك إدراك الذاتي والموضوعي بالنسبة للكائن الحيّ، وهذا الإدراك يشمل إدراك الكائن لنفسه ولمتطلباته الحيوية والضرورية، كما يشمل إدراكه لمحيطه الذي يعتمد عليه في الغذاء والحركة والتكاثر؛ وعلى هذا فإن كل كائن يُمكن أن تتوافر فيه هذه الميزات الإدراكية يُمكن أن يُطلق عليه اسم (حيّ) وإن لم يتحرك أو يتبيّن لنا إدراكه بالشكل المطلوب.

وفي مسار بحثنا عن الروح في جسد الإنسان (كمثال)، نجد أن الدم قد يكون مرشحاً بقوة لتمثيل هذا الدور، فالدماء هي التي تنقل الغذاء والأوكسجين لأعضاء الجسم وأطرافه، ومجرّد توقف الدم أو تأخره في الوصول إلى عضو ما، يتهالك هذا العضو ويذبل حتى يموت، وفي هذا دليل على أن الدم هو من يهب هذا العضو حياته وحيويته। ولكن هل الدم بتركيبته المعروفة يحمل سر الحياة، أم أن تفاعل الأجزاء الحيوية في العضو مع العناصر التي يحملها الدم هو من يولّد الحياة؟ على الفور نكتشف أن الحياة تنتج من خلال تفاعل ما يتم بين العضو الحيّ والعناصر الموجودة في الدم من غذاء وأوكسجين. وهذا التفاعل يتطلب قدراً من الإدراك الكيميائية والعضوية لكل من العضو والدم، فليس كل دم صالح لتوليد هذا التفاعل، كما أن ليست كل الأعضاء يُمكنها التفاعل مع العناصر التي يحملها الدم.

وعلى هذا النسق نجد أن الضرورة تقتضي وجود مولّد لهذا الإدراك يُحدد مقدر هذا التفاعل وكيفيته، وينظمه بطريقة تتناسب واحتياجات العضو الحي لتتكامل هي الأخرى ومنظومة الأعضاء الحيوية والتفاعلات من ذات النوع لتولّد لنا في النهاية صورة من صور الحياة في أبسط أشكالها। وفي هذا الصدد نجد أن الدماغ هو المرشح الأقوى لتمثيل هذا الدور؛ إذ أنه المسئول المباشر عن تنظيم مثل هذه التفاعلات، واختلال الدماغ يؤدي في كثير من الأحيان إلى قصور في وظيفة بعض الأعضاء الحيوية والبيولوجية داخل الجسم الحي.

وأول سؤال قد يطرق أذهاننا هنا، هو: وما الذي يولد الحركة في الدماغ؟ وأقصد بالحركة هنا: الحركة الحيوية وهي حركة الوظائف والعمليات الدماغية والعصبية فائق السرعة والتعقيد। والواقع أن الدماغ يُشكل مصدراً من مصادر توليد الطاقة، وهذا التوليد ينتج في حقيقته عن طاقة كهربائية متحوّلة، فهي تتحوّل من طاقة كهربائية إلى طاقة حرارية أو حركية مثلاً. والنقطة الفاصلة بين العقلية العلمية والعقلية الخرافية هي الإيمان بوجود ما يُسمى بالطاقة الكامنة التي لا تتفاعل ولا تعمل إلا في أوساطها المناسبة والمتسقة تماماً مع طبيعتها. فسلك الكهرباء المكشوف يحتوي على طاقة كهربائية كامنة لا تعمل إلا إذا وجدت جسماً موصلاً لتكمل دورتها الكهربائية، ويتمثل هذا الجسم في القاطع الكهربائية الذي بوصله تشتعل الإنارة، وبفصله تطفئ، وقد يكون جسماً آخر يحتوي على خاصية التوصيل الجيّد للكهرباء فيسري خلاله، وإلا فإنه سوف يظل في كمونه.

بهذا المثال البسيط جداً، يُمكننا شرح عمل الدماغ الذي يؤثر في حركة عضلات القلب، والذي بدوره يضخ الدماء إلى أعضاء الجسم فيكسبها الحيوية والحياة. ليُصبح الدماغ بكل عملياته العقلية والعصبية هو ذلك العضو المادي الذي يولّد الحياة داخل أجساد الكائنات الحيّة، وهذا الدماغ موجود داخل كل كائن حيّ سواء كان هذا الكائن إنساناً أو حيواناً أو حشرة أو حتى نباتاً، ومن يظن أن النباتات بلا أدمغة فهو واهم لأن النباتات تعيش بأدمغة تعمل وفق قوانينها الخاصة، ولكن يُصبح من البلاهة أن نعتقد أن النباتات تمتلك أدمغة كأدمغة الحيوانات والبشر، بل وحتى أن يظن شخصاً بأن لكل كائن دماغ يُشبه دماغ كائن آخر. والواقع أن الخلايا الحيّة تعمل في النباتات وبعض فصائل الحشرات عمل الأدمغة تماماً.
وعلى هذا أيضاً فالنباتات كائنات مدركة، طالما أنها بأدمغة। وإدراك النباتات إدراك داخلي (ذاتي) وخارجي (موضوعي) وهو الذي يدفع النباتات الصحراوية أن تمد جذورها في الأرض إلى مسافات طويلة بحثاً عن المياه، وتقلّص من حجم أوراقها على السطح لتقلل من عملية تبخر الماء (النتح)، وتعمد إلى منح أجسادها أشواكاً تحميها من الطفيليات التي قد تقتات على الماء الذي بداخلها، وهو ذات الإدراك الذي يجعل النباتات الاستوائية تقوم بوظائفها التي تتناسب من طبيعتها ووسطها المحيط في صراع دائب ومستمر من أجل البقاء.

لا وجود لما يسمى بالأرواح، وإن كان لها وجود حقيقي فهي موجودة فقط في عقول العاشقين للخرافة والماورائيات، أولئك الكسالى الذين لا يريدون أن يقدحوا أدمغتهم بحثاً عن المعرفة الحقة والمتواضعة، مكتفيين بتلك القوالب الكلاسيكية البائدة التي أصبحت تترنح في مجابهة قوة العلم وانفلات العقد وكسره للحواجز التقليدية العتيقة. أرواح الحقيقية تقبع داخل أدمغتنا المهولة والتي لم نتعرف على كل مزاياها بعد حتى الآن، وسوف يأتي ذلك اليوم الذي يتمكن فيه العلم من فقأ أعين هؤلاء الكسالى ودحر حماقاتهم المريضة.

الثلاثاء، 24 مارس 2009

تلامس التلامس




صدر للكاتبة اللبنانية المقيمة في القاهرة (لنا عبد الرحمن) عن الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف رواية (تلامس)، وهي رواية تحكي الكثير من الأشياء والقضايا الإنسانية الهامة। فضاء الرواية المكاني هو بيروت-لبنان، في فترة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. الرواية كانت فرصة جيّدة –بالنسبة إليّ على الأقل- لأتعرّف على جوانب لم أكن أعرفها عن لبنان، وعن الإنسان اللبناني، تناولت الكاتبة المجتمع اللبناني المتباين في دياناته وفي أفكاره وفي أنماط سلوكه، ومسحت –لي على الأقل- تلك الصورة النمطية للإنسان اللبناني المرفّه الذي كنتُ أعرفه أو أتخيّله. تدور أحداث القصة حول فتاة لبنانية (ندى) وهي فتاة ذات شخصية نفسية مركّبة جداً، ينفصل والدها ووالدتها عن بعضها، وتهاجر الأم إلى دول الخليج مع زوج آخر لتنجب منه ابنين لا تربطها معهما أيّ رابط على الإطلاق، بينما تقيم هي مع والدها السكّير وجدتها في بيروت. تنتمي ندى إلى عائلة محافظة للغاية وتتم خطبتها بطريقة كلاسيكية للغاية إلى قريبها (كمال)، ولكنها تفسخ خطبتها معه لترتبط بشاب أفريقي أسود (محمدو)، وتنفصل عنه بعد فترة قصيرة رغم ارتباطها به إلى الحد الذي وصفته بأنه (شغف).




ارتبطت ندى بعمتها المودعة في مستشفى الأمراض العقلية والعصبية، وكانت شديدة الحرص والارتباط بهذه العمّة إلى درجة أنها كانت الوحيدة التي تزورها في المستشفى وتسأل عنها، وتمدها بكل ما يلزمها من مال وحاجيات، في الوقت الذي تخلّى فيه عنها الجميع। بدأت الرواية بمخاوف ندى أن تصبح إنسانة مجنونة كعمتها تماماً، وتنتهي بأن تتحقق هذه المخاوف بطريقة درامية مثيرة للغاية.




وفي الحقيقة فإن الرواية ممتعة إلى الدرجة القصوى، وسرّ هذا الاستمتاع هو قدرة الكاتبة على حياكة التفاصيل بمزاجية عالية جداً، الأمر الذي يمنحنا الإحساس بالدفء تجاه شخصيات الرواية حتى تلك الهامشية منها، فهي تبالغ حدّ الدهشة في إطفاء تلك التفاصيل على هذه الشخوص، سواء أكانت تفاصيل متعلقة بالسمات الشخصية أو النفسية أو حتى الشكلية الظاهرة لكل شخصية।




ومن الشخصيات التي جاءت الكاتبة على ذكرها، شخصية (هند) صديقتها المقرّبة والتي ارتضت الارتباط مع (زياد) رغم أن كلّ منهما ينتميان إلى ديانة مغايرة، كما أنّ لكل منهما طريقة مغايرة في التفكير। فهند إنسانة تؤمن بالغيبيات والروحانية في الوقت الذي يعتبر فيه زياد شخصاً مادياً لا يعترف مطلقاً بمثل هذه الأمور، ورغم ذلك فإنهما تحابا واتفقا على الزواج المدني رغم عدم موافقة أسرتيهما، فكان أن تساكنا في بيت واحد لفترة واتفقا على السفر إلى قبرص لإنهاء إجراءات الزواج المدني وقضاء شهر العسل هناك. ولكن الكاتبة لم تفرد مساحة كبيرة للحديث عن شخصية (زياد) ولم تستغل التباين الفكري بينه وبين خطيبته (هند) لإجراء حوارات مصادمة لهذه الأفكار ولمنابع القناعات الراسخة لدى كل منهما.




ومن الشخصيات التي أجادت الكاتبة رسم تفاصيلها النفسية بتقنية بارعة تنم عن دراية عميقة، هي شخصية قريبها الذي خان زوجته مع أختها، واختيار هذه الزوجة المغدورة للانتحار كبديل وحل منطقي جداً لاكتشاف هذه الخيانة أو الجريمة إن صحّ التعبير، ولكن لم يكن من المنطقي معرفة الراوية بتفاصيل أحداث هذه الجريمة التي حدثت في فترة ما، وانتهى السر بمقتل الزوجة على اعتبارها الشاهد الوحيد على هذه الجريمة। ففي حين أكدت الراوية أن هذا السر لم يعرف به سوى ثلاثة أشخاص فقط: الرجل وزوجته المنتحرة وأختها التي اختفت مع زوجها بعد ذلك؛ إلا أنها لم توضح لنا كيف لها معرفة سرّ انتحار زوجة قريبها ذلك!




كما أنّ الكاتبة أجادت كثيراً في صياغة الأحلام والكوابيس التي كانت تراود البطلة (ندى) والتي جاءت متوافقة تماماً ومفسّرة للكثير من الإحالات النفسية لديها، وهي في الحقيقة صياغات قياسية إلى الحد البعيد، وقد ساعدت هذه الكوابيس وصياغتها المتقنة في حل الألغاز والطلاسم في شخصية البطلة المركبّة। فشخصية (ندى) هي شخصية تنزع إلى المسالمة، المسالمة التي بدافع الخوف، وهذا الخوف في الحقيقة منبعه (كما جاء في الرواية) هو إحساس عميق بعدم الأمان والاستقرار.




وينطبق هذا الأمر كذلك على بقية شخصيات الرواية، فلقد أحسست بتوافق شديد ومستمر بين معطيات الشخصية النفسية، وبين ردود أفعالها على الدوام، وهو أمر غاية في الصعوبة، إذ في أحيان كثيرة ينسى الروائي المواصفات التي يخلعها على بعض الشخصيات؛ لاسيما إذا كان يُركز على شخصيات أخرى، ويقع بالتالي في الإرباك والتشويش। ولكن في (تلامس) كانت الشخصيات الروائية كلها مستقرة ومتوافقة ومنسجمة مع نفسها تماماً منذ بداية الرواية وحتى نهايتها.




قدمت لنا الرواية رؤى عميقة جداً سواء رؤى اجتماعية (فيما يتعلق بالحياة البيروتية) أو الفكرية الفلسفية وناقشت بلطافة بعض القضايا الهامة جداً ابتداء من قضية العلاقة بالآخر سواء علاقة المسلمين بالمسيحيين في بيروت أو علاقة العرب بالأفارقة، أو علاقة الرجل بالمرأة وكذلك قضايا فكرية كتناسخ الأرواح والتدين والعنف الأسري।




أما فيما يتعلق بعنوان الرواية (تلامس) ففي الرواية إشارة واحدة فقط إلى هذا العنوان، وهو يأتي في معرض حديث الراوية عن علاقتها بمحمدو حبيبها الأفريقي، وبعد الانتهاء من الرواية فإننا نتوقف عند سبب اختيار الكاتبة لهذا الاسم في ظل عرض سريع وخاطف لعلاقة البلطة بهذا الأفريقي الأسود। وربما فوّتت الكاتبة على نفسها فرصة نادرة وكبيرة لمناقشة علاقة الإنسان الأبيض بالإنسان الأسود بشكل أعمق بكثير مما تم في الرواية. وأرى على ذلك أن الكاتبة لم توفق في شرح هذه العلاقة وتسليط الضوء عليها، فجاءت العلاقة باهتة وغير ناضجة على الإطلاق، لاسيما وأنها (أي العلاقة) كانت سبباً في خلاص البطلة من علاقة كلاسيكية موازية وهي علاقتها بقريبها (كمال).




بداية ونهاية البطلة بمحمدو لم تكونا منطقيتين على الإطلاق، وربما كان يلزمها المزيد من الأحداث حول هذه العلاقة، ومزيد من الحوارات، كإجراء حوار بين البطلة وبين صديقتها المقربة (هند) حول علاقتها بهذا الشاب الأسود لشرح وجهات النظر المختلفة حول هذا الموضوع باعتباره الموضوع الرئيس।




ولكن يبدو أن قصة البطلة مع محمدو لم تكن هي العقدة الحقيقة للقصة، بقدر ما كانت علاقتها بعمتها المجنونة। لقد بدأت الرواية بمخاوف البطلة أن تصبح مثل عمتها المجنونة، وانتهت بأن تتحقق هذه المخاوف بطريقة درامية رائعة ومدهشة للغاية. النهاية جاءت جميلة ومدهشة على الأقل بالنسبة للجو العام الذي دارت فيه (أجواء الحرب، وحالة المستشفى العامة) وباستطاعتي أن أقول بكل اطمئنان أن هذه الرواية جميلة بالفعل ومؤثرة.




وكان بإمكان الرواية أن تكون أكثر روعة لو أنها غاصت أكثر في العديد من القضايا التي طرحتها عوضاً عن السرد العابر الذي عابها كثيراً وأكسبها صفة السطحية، وكأنها تقدّم للقارئ مجموعة مقتضبة من الموضوعات الهامة إما لعرض براعة الكاتبة الثقافية أو فقط لمجرّد تطعيم الرواية بالنواحي الفكرية المتنوعة। وهذا التسطيح يبدو لي كذلك في مجموعة من الشخصيات التي قدّمتها الكاتبة ولم تكن مفيدة للنص على الإطلاق، ابتداءً من شخصية محمدو وحتى شخصية الدكتور فواز والذي تعرّفت عليه عن طريق صديقتها هند، وبدأت معه حوارات عبر الإنترنت. هذه الشخصية على سبيل المثال لم تخدم النص في أيّ شي، ولم يكن لها ذلك التأثير المتوقع. رغم أهمية الإشارة الدلالية التي تقدمها لنا معلومة (ارتباط البطلة بالعوالم الأسفيرية) من خلال ارتباطها الشغوف بالإنترنت ونزعتها إلى الجلوس أمامه لساعات طويلة.




ولا أريد أن أنهي استعراضي النقدي هذا عن رواية (تلامس) قبل أن أؤكد إعجابي بقدرة الكاتبة على وضع تفاصيل حميمة ودافئة على المكان والأشياء، وقدرتها على رسم شخصيات رواياتها بكل براعة، فكانت الشخصيات شخصيات مرئية بالفعل، وبإمكاننا فعلاً أن نراهم وأن نتعايش معهم بكل حرية، بل ونتمكن من التكهن بردود أفعالهم، وهذه المقدرة في الحقيقة هي مقدرة احترافية من الجيّد للكاتبة أن تحافظ عليها وتحسن استغلالها في أعمالها القادمة.

الاثنين، 23 مارس 2009

نسق الصراعات الواعية في "السيّدة الأولى"

ريم بدر الدين البزال
رواية تبدأ بكابوس وتنتهي بتحقيقه؛ هذه هي القدرة الفذة للروائي الشاب هشام آدم الذي يبدو أنه احترف الغوص في عالم الرواية منذ وجوده في عالم الذر، فهذه الملكات الرائعة في اقتناص الحدث ومن ثم صهره في بوتقة من وعي وتأمل، والتكهّن لما بعد الحدث ثم إعادة تشكيلها في قالبٍ جديد يتخيل له أبعاداً أخرى، فينميه ويبتكر له تفاصيل جديدة لم تخطر البتة على بال الأبطال الأصليين للحدث.

رواية هشام آدم (السيدة الأولى)، هي روايته الثانية من حيث تقديمها لدوران آلة الطبع، تناول فيها حياة السيدة الأولى لدولةٍ ما، في فترةٍ حافلةٍ بالانقلابات السياسية، والصراع على السلطة. وفي أتون هذه الحرب الظالمة الطاحنة تأتي شخصية الرواية المحورية (ليلاتيا) السيدة الأولى، زوجة القائد العسكري فيليوباوتش الذي تبوأ مركز السلطة بالقوة العسكرية، وحكم البلاد بالحديد والنار والشعارات الطنانة.

(ليلاتيا) شهدت تطوراتٍ في شخصيتها ابتداءً من ولادتها في المهد الحريري لأسرةٍ أرستقراطية؛ فوالدها هو المُرابي الكبير، وعندما يوشك على إشهار إفلاسه ينتشله فيليوباوتش بطلب يد كريمته فيقبل دون النظر لرغبتها هي. لكن هشام آدم لم يغفل أن يوضح لنا أن ليلاتيا فتاةٌ متمردةٌ على قيم مجتمعها الزائفة، فكلما أرادت الرجوع إلى بدائيتها وفطرتها التجأت إما إلى كوخها الذي عمّرته في أحضان شجرة بلوط، أو إلى أحضان خادمتها ومربيتها الأفريقية تندراسي. أمانها النفسي يكمن في تندراسي، كما يكمن أمانها الإبداعي في كوخها حيث ترسم.

ليلاتيا الفتاة الجميلة أصبحت سيدة البلاد؛ فكانت بحكم منشأها الأرستقراطي سيدةً أولى دون منازع، وعندما أطيح بزوجها في انقلابٍ آخر، ونفيها معه إلى مكانٍ وضيع اكتفت بكل هدوء بعدّ استدارة الأيام بخطوطٍ أفقية ترسمها على باب الغرفة، وابتساماتٍ ساخرةٍ إزاء كل مفارقة تراها.
ليلاتيا لم تتلق ثقافةً فتحصل بها على آداب الأتيكيت؛ لكنها تمعنت وتأملت في معاني الأشياء؛ فأعطى ذلك بُعداً كامناً لشخصيتها. عندما هربت من المنفى لم يكن هدفها العودة لحالة الرفاهية التي عاشتها من قبل، وإنما كانت تريد أن تصنع مستقبلاً للشعب الذي أحبته، وعاشت شيئاً من معاناته، وتعرفت إلى ظروفه التي لم تكن تراها في القصر الرئاسي. قادت ثورةً تريد منها أن تكون بصمتها في الحياة.

عمق شخصية ليلاتيا وتفردها تؤكدان أن قيادة التحولات والتغيرات في التاريخ لم ولن تتم إلاّ بنخبٍ تمتاز بثقافةٍ وبُعد فكري، وكاريزما تمكنها من كسب قلوب المحيطين بها، وكانت ليلاتيا تمتلك كل ذلك؛ إضافةً إلى حسّها الإنساني الغامر وعاطفتها الجارفة تجاه الآخرين مع رومانسيةٍ طاغيةٍ في كل تصرفاتها. ليلاتيا كانت هنا كجان دارك مناضلةً شنقت بيد جلادها، لكنها أيضاً -بتعليقها على حبل المشنقة- سطرّت لنفسها تاريخاً لا يستطيعه إلاّ أصحاب الهمم النادرة.

شخصية ليلاتيا في الرواية عولجت من خلال شخصياتٍ أخرى: تندراسي وكاستيلو مارسيليو والفتاة البكماء وفيليوباوتش. أتقن هشام آدم تقديم هذه الشخصية كما أتقن الإسقاط السياسي البارع بتناوله قضية الأنظمة الديكتاتورية، وأرضيتها غير الثابتة لأنها ترتكز على الاستبداد، وهذا ما يُولد ظلماً اجتماعياً وسياسياً وفقراً ألمح إليه في الرواية بالخفافيش، وحالة البيوت الصدئة المتهالكة في حي الصفيح، وفي المخيم حيث اللاجئين الهاربين من أتون الصراع، وجحيم المحرقة السياسية.

لا تخلو رواية هشام آدم من الملامح الرومانسية في التصوير، وإبراز جمال الطبيعة حتى أثناء كوابيس ليلاتيا المتكررة؛ بحيث اتخذ النص سمةً جماليةً بالإضافة إلى القدرة القصيّة الجميلة فكانت لديه أخيلة مبتكرة.

اللغة جاءت على درجةٍ عاليةٍ من الشفافية والتناغم مع مستوى الشخصيات الفكري ومنبتها الطبقي، وهذا هو الأدب الحق: تقليد للواقع كما قال اريستوتال؛ كما أنّ دراسة العمق النفسي للشخصيات أتى بارعاً؛ بحيث استطعنا فهم تصرفات كل شخصيةٍ، ونوعية ردود فعلها. تمنيت لو كانت الأحداث مبوبةً في فصولٍ معنونةٍ فهذا أكثر جذباً لانتباه القارئ.

هذه أول مرةٍ يُلقى على عاتقي التقديم لرواية؛ لذا أتمنى ألا أكون قد غمطتها حقها من القراءة، وأتمنى ألا أكون قد أفسدت على القارئ متعة الغوص في عوالم الرواية الجميلة وكلي ثقة بأنها ستحظى بقراءاتٍ غنيةٍ جداً نظراً لتميزها.

السبت، 21 مارس 2009

حوار صحفي في جريدة "أخبار الخليج"


مؤكدا أنه وقع بين مطرقة الناشرين وسندان الأسماء اللامعة: الروائي السوداني هشام آدم: الرواية مساحة يطرح فيها الروائي احتمالاته غير المنطقية

القاهرة: لنا عبد الرحمن
ينتمي هشام آدم الي الجيل الجديد من الكتاب السودانيين، فهو من مواليد القاهرة عام 1974 وله اهتمامات في مجال النقد الأدبي والسينمائي، روايته "أرتكاتا" رواية مميزة،تحمل رؤية مغايرة صادرة عن دار شمس في القاهرة،إنها روايته الأولي التي جاءت محملة بالعديد من الأسئلة قارئ هذه الرواية سيلفت انتباهه في المقام الأول اختيار الكاتب إسبانيا لتكون مكانا تجري فيه الأحداث،كما تقوم الرؤية عبر شخصيات إسبانية، تطرح رؤيتها للحياة وللوجود العربي في إسبانيا لكن هذه الحبكة تقوم على لغة سلسة بسيطة،ممتعة عند القراءة،محملة بالتشويق الفني الذي يكشف عن تساؤلات الإنسان ككل، بغض النظر عن انتماءاته الجغرافية أو العرقية. حول تجربة "أرتكاتا"، وحول الأدب السوداني كان هذا الحوار:

- لماذا اخترت أن يكون المكان الروائي في إسبانيا وما المبرر الروائي لهذا الاختيار؟
ليس هنالك أي مبرر روائي لاختيار الفضاء المكاني أنا علاقتي ليست بإسبانيا أو أي قطر آخر بعينه، علاقتي هي مع الإنسان أينما وجد الأماكن غير الموجودة؛ أحاول أن أوجدها وأن أخلق شخوصها كما ينبغي لهم أن يكونوا وكما يقول الروائي العالمي غبريال غارسيا ماركيز: ليست الحياة ما نحياها، بل ما نتذكرها، وكيف نتذكرها لنحكيها؟، المسألة ببساطة أنني أحاول أن أخلق عوالم وحيوات لها وجودها الواقعي، وفي ذات الوقت ليست مرتبطة في حركتها وفي روابطها التصويرية بالواقع، هي مسألة أقرب من الفنتازيا المرتبطة بالواقع بطريقة ما.

إذن من وجهة نظرك يبدو ما يوحد الإنسان هو الذاكرة،أي الذاكرة البشرية التي تشترك في كثير من الأحاسيس والمشاعر؟تمالمشاعر والرغبات الإنسانية موحّدة ومشتركة: الحزن ـ الفرح ـ الحب ـ الرغبة ـ التدين ـ الغضب، ولك ثقافة الإنسان (الفرد)، بالإضافة إلى الثقافة الجماعية أو ثقافة المجتمع هي التي تحدد طريقة التعبير عن هذه الأشياء، وكيفيتها ومستوى نضجها من عدمه لست مهتماً بتبرير اختيار إسبانيا على وجه التحديد لأنني على يقين كامل بأمرين غاية في الأهمية أولهما: أن أي نطاق جغرافي في العمل الروائي، هو نطاق مواز للنطاق الحقيقي، أو مشابه له، ولا يمثله بصورة متطابقة بالضرورة، ولا يجب أن يكون الأمر كذلك على أي حال من الأحوال ثانيهما: أنّ وقائع وأحداث أي نص روائي يتناول سيرة المشاعر والرغبات الإنسانية لا يمكن حصرها في ثقافة محددة، لأنها كما قلتُ سابقاً مشاعر ورغبات إنسانية مشتركة.فضاء للسرد.

- لكن هذا لم يوضح أيضا السبب في اختيار مكان بعينه ليكون فضاء للسرد.
الكتابة عالم؛ والقراءة عالم آخر، رغم أنهما يلتقيان في نقاط أخرى من هنا أرى أنه ليس من الضروري، بل ليس من المعقول، الإفصاح عن أسباب اختياري لثقافة أو واقع ثقافي بعينه حتي وإن كان ذلك بقصد فإنه يظل رهناً بالكاتب وحده علينا كذلك أن نعرف وأن نفهم العلاقة الجدلية الحاصلة بين الكاتب والمتلقي؛ لأن في هذه العلاقة يكمن الكثير جداً من الإجابات، كما أنه يجب علينا أن نعرف إجابة السؤال الأكثر خصوبة لماذا نقرأ؟ لتتكشّف لدينا بعض الحقائق الغائبة عنّا والإجابة عن هذا السؤال أمر ليس بالهين كما يبدو أبداً। تقع أحداث الرواية، وأبطالها في بلدة "أرتكاتا" وفي مناطق إسبانية أخرى،من أين استوحيت المادة الحية لتضفيرها مع عنصر الخيال؟

في الحقيقة احتاج مني الأمر الرجوع إلى بعض المصادر لمعرفة المزيد من التفاصيل عن مناخ إسبانيا وتاريخها وجغرافياها العامة فالكتابة عن مكان لم تره ولم تعش فيه إضافة إلى قدرتها على امتاعي- فهي تشكّل بالنسبة إلى نوعاً من التحدي الذي يمثل لي دافع الكتابة وشغفها الذي يجبرني على المواصلة عندما يكتب كاتب سوداني عن السودان، فإن المتعة الحقيقية هنا، سوف تحصل للقارئ فقط، بينما سوف يفقد الكاتب هذه المتعة إلا فيما عدا متعة التفريغ عما أراد أن يتناوله في كتابته ولكن أن يكتب سوداني عن إسبانيا فإن ذلك قد يساعد على توليد أكثر من متعة: متعة الكاتب في تحديه لملكاته الخاصة، متعة القارئ الذي يتعّرف على عوالم أخرى من شخص أبعد ما يكون عن هذه العوالم، متعة القارئ الإسباني الذي سوف يكون هاجسه الأكبر محاولة معرفة إلى أي مدى نجح هذا الغريب في اقتحام ثقافته والتغلغل فيها।

- لكن ألم تخش أن يوجه إليك انتقاد حول الكتابة عن مكان لم تحي به، ولم تعرف تفاصيله؟
لا، ولا يجدر بالكاتب أن يضع مثل هذه الأمور في حسبانه قبل الكتابة أنا اكتفي بمراقبة ناقدي الذاتي، رغم تأثير هذه المراقبة على عملي بطريقة مباشرة غير أني كنتُ أعرف أن اختياري لهذا التكنيك سوف يطرح أسئلة كثيرة جداً أولها أنني أتهرب من واقع حياتي خاص بي أما عن موضوع تفاصيل البيئة التي أكتب عنها، فأنا على يقين تام بأن ثمة تماثلاً بين جميع ثقافات العالم، لاسيما فيما يتعلق بالنواحي الإنسانية وإن كنا لا نكتب إلا عمّا نعرفه، فإننا سوف لن ننتج شيئاً جديداً يستحق القراءة.

شخصية البطل:
- بطل الرواية "كاسبر" كاتب، وهو الراوي أيضا، إلى أي حد تتقاطع أنت مع شخصية بطلك من حيث الرؤية الموجودة داخل النص؟
إن الكتابة نوع من تحدي الذات في المقام الأول بالنسبة إلى، وعلى هذا فإن شرط تقاطعي مع شخصية البطل ليس وارداً بالقدر المتخيل، فأنا أختلف مع كاسبر في كثير من الآراء التي طرحها، وفي كثير من التفسيرات والتعليلات التي ساقها عبر سرده لمذكراته، كذلك عبر رؤيته وقراءته لواقعه ومن ناحية أخرى، فلا يجب علينا أن نتصوّر كاتباً يختفي وراء شخصيات أبطاله أو العكس ؛ رغم أنّ هنالك الكثير من المقولات النقدية التي تقول إن الكاتب يحاول أن يعرف نفسه عبر الكتابة، وهو ما يؤمن به ناقد مثل: كولون ولسون إذ يقول في كتابه فن الرواية: "إن الرواية مرآة لابد وأن يرى فيها الروائي وجهه وصورته الذاتية، وما وصف الحقيقة وقول الصدق وهما من الأهداف التي سعى إليها عدد كبير من الروائيين في القرن التاسع عشر- إلا هدفين ثانويين؛ أما الهدف الأساس فهو أن يفهم الروائي نفسه وأن يدرك ماهية هدفه بالذات" - وهل تتفق مع كولن ويلسن في رؤيتك للفن الروائي؟

إن فكرتي عن الرواية ليست كالفكرة التي يقول بها ولسون، فأنا أرى أن الرواية مساحة يطرح فيها الروائي احتمالاته غير المنطقية في محاولة لقياس ردود أفعال الآخر باعتبار الآخر سلطة قائمة بحد ذاتها، سواء كان هذا الآخر سلطة خارجية أو حتى سلطة قيم عليا داخلية।

وعلى هذا فليس بالضرورة أن ننقل أفكارنا عبر شخصيات الرواية، وإلا لتداخلت الأفكار، لأن ثمة شخصيات -داخل الرواية- ذات أفكار مغايرة للأفكار التي يؤمن بها كاسبر وإذا كان كاسبر إحدى شخصياتي الروائية، فإن جهاد عوالمة هو أيضاً أحد شخصياتي الروائية، وهما يحملان توجهات فكرية مختلفة تماماً هي إنما فكرة إتاحة الفرصة لجميع الآراء أن تتقابل وتتصارع بطريقة متعادلة ومتكافئة من دون أن أتدخل بنصرة فكرة على الأخرى، إنما أجعل الباب موارباً للقارئ لكي يغير آراءه تجاه أفكار كان لا يعتقد بها، أو أن يرسخ أفكاراً أخرى كانت موجودة أصلاً.

- توحي روايتك للقارئ العربي كما لو أنها نص مترجم، نص متأثر جدا بأدب أمريكا اللاتينية؟
اعترف بأنني متأثر بأدب أمريكا اللاتينية، وبأنني مطبوع بتلك الكتابات والأنماط الكتابية إلى حدّ بعيد ولكن لا ننسي أنّ حديثنا عن لغة الروايات والنصوص الأدبية المترجمة، هو حديث عن اللغة العربية في المقام الأول وعندها يجب علينا أن نفرّق بين المتأثر بالأدب نفسه، والمتأثر بترجمات هذه الآداب أقول إنني متأثر بأدب أمريكا اللاتيني، وأقرأ كل ما أصدافه لماركيز وباولو كويلو وإيزابيل الليندي وخورخي لويس بورخيس وإمبارو دابيللا وغيرهم، ولكن ثمة لغة لها مذاق خاص لا استمتع بالقراءة لهؤلاء إلا عبرها، فتعجبني مثلاً لغة صالح علماني في ترجماته لماركيز والليندي؛ وهكذا فإن هذا التأثر هو في الحقيقة تأثر مزدوج، ففضاءات البيئة في أمريكا اللاتينية موحية لدرجة بعيدة وأنا لا أستطيع إنكار إعجابي بهذه الفضاءات وبمعالجات أدباء أمريكا اللاتينية لها ولكن وعلى الجانب الآخر، فإن خيار الكتابة عن بيئة مغايرة عن البيئة العربية لم يكن مجرّد اتباع لهذا النسق اللغوي وحسب।

اعتقد أن هنالك أسباباً أخرى تجعل من الكتابة عن هذه الفضاءات أمراً ممتعاً بالنسبة إلى؛ فمتعة تحدي الملكة الكتابية لا تعادلها متعة أخرى، كما أنني مقتنع بصورة ما بأن الشخصية العربية ليست شخصية موحية بدرجة ما بقدر ما هي الشخصيات الأخرى، ولذا فإنني أحاول أن أمازج بين هذه الثقافات، لأخرج في النهاية من إطار الجغرافيا السائدة إلى فضاء الكونية الواسع، معترفاً بأسبقية العالم على الإنسان.

- وكما لو أن هناك إلى جانب الاسترجاع التاريخي في "أرتكاتا" نقداً ضمنياً، أو دعنا نقول رؤية أخرى للوجود العربي في إسبانيا، كيف تفسر ذلك؟
صحيح، أنا أطرح في الرواية العديد من الاحتمالات، ومن بينها احتمال أن تكون هنالك شخصية إسبانية ناقمة على العرب باعتبارهم غزاة ومستعمرين قدماء، لا يمكنني الجزم بذلك بالضرورة، ولكن لا أحد ـ بالمقابل- باستطاعته الجزم بعكس ما أقول إنّ واحدة من الأفكار الأساسية لأرتكاتا هي محاولة نقد الذات ومحاسبتها، لا جلدها كما قد يتصوّر البعض علينا أن نعتذر عن تاريخنا الذي أساء إلى مجموعات كبيرة من البشر والعرقيات حول العالم، وأن نمنح لأنفسنا فرصة الاستبصار بذلك، وأقرب طريقة إلى ذلك وأكثرها إنسانية هو أن تستشعر معاناتهم وأن تعبّر عنها، كما هي دون تزييف، ودون تلفيق।

علينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، لماذا برأيك حين تغزو جيوش المسلمين بلاد الآخر نسمي ذلك فتحاً، وعندما يغزونا الآخر نُسميه استعماراً؟ إنها نفس فكرة الإساءة إلى المصطلحات المنتشرة هذه الأيام، والتباين بين "المقاومة" و"الإرهاب" على سبيل المثال ما حدث في تاريخ العصور الإسلامية هو مشروع استعماري توسعي خرج من شبه الجزيرة العربية وامتد شرقاً إلى حدود الصين وغرباً إلى إسبانيا، ولا يختلف ذلك كثيراً عن أطماع الاستعمار الغربي، إلا إذا أردنا أن نلّفق التاريخ وأن نلوي عنق الحقيقة، لأننا إذا فعلنا ذلك فلن نرى في الأندلس إلا دولة مغتصبة، وهي في الحقيقة دولة نالت استقلالها من الغزو الإسلامي العربي، هذه الحقيقة تجعلنا نعرف أيضاً أن تسمية هذا الغزو الإسلامي بالفتوحات هو سبب عدم قناعتنا بوجود شخصيات ساخطة على تلك الحقبة التاريخية، وبالتالي لا تؤمن بحقها في الوجود أو الإفصاح عن عذاباتها الخطيرة ولكن عندما نعترف بأن ما حدث للأندلس ما هو إلا استعمار، فإننا سوف نرى الإسباني شخصية مقهورة لديها الكثير لتقوله لنا وعن تاريخنا.

موضوع معقد:
- بما أنك كاتب سوداني تنتمي لجيل الكتاب الشباب، حدثني قليلا عن إبداعات الكتاب السودانيين الشباب، وما العقبات التي تحول دون وصول هذا الأدب للقارئ العربي؟
هذا موضوع خطير للغاية، وشديد التعقيد في ذات الوقت، وأعتقد أنه يحتاج إلى مساحة خاصة للحديث عنه ولكن وبصورة عامة فإنني أنتمي إلى جيل وقع بين مطرقة الناشرين وسندان هيمنة الأسماء المعروفة كذلك فإن غياب النقد ساعد كثيراً على غمر هذه الإبداعات وبقائها في الظل।

إن النقد قد يعمل - من دون أن يدري- على إحياء بعض الأعمال الأدبية، وعلى قتل بعضها الآخر بالمقابل وإنه لمن المفيد لنا أن نعرف أن رواية الأستاذ الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) لم تنل حظها من الشهرة والانتشار - حتى داخل السودان - إلاّ بعد الكتابة حولها، وتناولها بالنقد من قبل ناقد له اسمه ومكانته، وهو الناقد الراحل: رجاء النقاش وأذكر أن الأستاذ الطيب صالح نفسه، قد أشار - في إحدى اللقاءات الصحفية- إلى أنه ليس بأكثر الكتاب السودانيين حرفية أو إبداعاً، ولكنه أكثرهم حظاً।

ومن وجهة النظر الأخلاقية؛ يبدو أنه من المخجل أن نتكلّم عن الحظ فيما يتعلق بالأدب بشكل خاص، والفن بشكل عام ولكن لا نملك إلاّ أن نعترف بهذه الحقيقة، في أزمنة أصبحت فيه دور النشر وأجهزة الإعلام لا تعي دورها الرسالي على الوجه الأكمل ومن هنا يمكنني القول: إن أحد أسباب عدم انتشار الروايات السودانية -إضافة إلى غياب النقد- طغيان مبادئ الربحية والشخصانية وتصدّرها لأولويات دور النشر والأجهزة الإعلامية।

نحن الآن أمام حقيقة مخزية بالفعل؛ ألا وهي: غياب الوازع الأدبي في كل العناصر التي من شأنها أن تُكسب الأدب قيمته المستحقة أنا لا أعفي دور النشر، كما لا أعفي أجهزة الإعلام التي لا تلتفت إلى إبداع المبدعين، إلاّ بعد استحقاقهم لهذا الاحتفاء العديد من الأدباء السودانيين وجدوا طريقهم إلى الظهور والانتشار في ظل أنظمة تعي تماماً دور الأدب والأدباء، وتعاملوا مع دور نشر كانت تسعى إلى تحقيق الموازنة الصعبة: تحقيق الربح وتقديم النصوص الأدبية ذات الجودة المعقولة।

لا يجب أن نتوقع من الكتّاب أن يروّجوا لكتاباتهم خارج قنوات النشر المتعارف عليها، وإلا لدخلوا في دائرة الابتذال التي يحرص المبدعون خاصة ألا يدخلوها بإرادتهم وفي الحقيقة فإن القارئ هو من يجب عليه أن يسعى للتعرّف على النصوص الأدبية، دون أن ينتظر أن تأتيه على طبق من ذهب وعليه فإنني -أيضاً- لا أعفي القارئ العربي، واتهمه بالإهمال المتعمّد تجاه الرواية السودانية، ولكن القارئ العربي فاقد لحس الاكتشاف المتولّد -أصلاً- من حركة منظومة كاملة تروّج لمبدأ البقاء للأقوى.

قراءة نقدية في "الالتفاف حول عنق اللعنة"

قديماً قالوا: "أخطأت الأرض فاستدارت، وأخطأت اللغة فاستعارت"
اللغة رهن إخمص العقل، والثورة الكامن في سيسيولوجيا الإناسة في عقت اللغة من كنف الزمكان الذي يلفه كسيجار كوبي أصبح الآن أكثر فساحة ورحابة للأشياء التي تقبع في الذاكرة. النص معزّز بالدراما المعتمدة على الحركة والنص المكتوب يُحاكي الإلقاء، وكأنني أرى صاحبة النص تتلو النص بالطريقة التي تريدها تماماً ثمة خطان مستقيمان جداً في هذا النص، لا ينفصلان ولا يلتقيان ولكن النص يحتاج إلى قراءات أخرى حتى تستبين الرؤية، والتكنيك المستخدم رائع ومُنهك، في آنٍ متفرقة. والشرك منصوب في كل بيت. هي إنما قصيدة ملغومة بالكامل

عنوان النص الأصلي هو "التفاف حول عنق اللعنة" وثمة ديباجة جانبية هي عبارة عن بطاقة تعريفية "لعنات خاصة أصبها في قالب من نص" وبين هاتين اللافتتين يقف الحوار بين العام والخاص في روح النص، وليس جسده بالطبع، وبين السرالية الواضحة في النص ابتداءً من اختيار العنوان، مروراً بالتكنيك المستخدم في "صبّ" النص أو قولبته وحتى الخاتمة النهائية. الكاتبة هنا تستخدم تكنيكاً يُمكن أن نسميه بالـ"محاكاة الأتيديودية" وهو أسلوب غالب ودارج لدى الشعراء المحدثين – نسبة إلى الحداثة – وهو يقوم مقام التصوير اللغوي للنصوص. وهذا التكنيك يخلق نوعاً من الإلفة القرائية بين النص وبين القارئ، ولكنه قد يفقد هذه الخاصة عند القراء أي عند قراءة النص للمتلقي مباشرة. وهذا هو النقد الوحيد الذي يواجه هذا الأسلوب التقني الحديث إذ يفترض في النص بقائه نصاً مقروءاً وليس مسموعاً.

هذه الأتيديودية تتجلى في أسلوب الكاتبة في التعبير عن "الالتفاف" بالتفاف عياني للنص حيث تبدأ بالديباجة كنقطة انطلاق لأفعى الأتيديودية الملتفة حول "اللعنة" ثم تبدأ الأفعى بالانحراف يميناً حيث الإهداء، ثم اليسار حيث المدخل ثم تعود لليمين حيث اللعنة الأولى … وهكذا. وإذا أردنا أن نصّور هذا الالتفاف الأتيديودي فإنه يتجلى لنا بهذه الصورة:

وبين العنوان والديباجية يمكن إثارة سؤال حول "اللعنة" حين يعني الالتفاف معنى حميمياً أو التفاف أفعى شرسة! وإشارة "خاصة" كصفة متلازمة لدى الكاتبة للعنات، فهذا يوحي لنا بأن هذه اللعنات لعنات حميمية بصورةٍ ما. فثمة قراءتين لمدلول هذه اللعنة، بعيداً عن المعنى المعجمي للفظة نفسها، حيث أن اللفظة معجمياً لا يدل على حميمية إطلاقاً، فبين أن يكون اللعن إقصاءً وطرداً وإبعاداً عن الرحمة والمغفرة والحب وكل ما هو إيجابي شعورياً، يظل معنى الالتفاف هذا يعوق دون استساغة هذا المعنى. فإن قلنا بأن اللعنة لعنة حميمية مناقضة بذلك المعنى المعجمي للكلمة – وهذا وارد جداً لدى شعراء الحداثة وأنبياء الاتجاه الرمزي – فهذا يقتضي أن نحمّل كل ما له علاقة باللعنة على محمل أقل ضراوة وأكثر وداً. فيكون عندها الالتفاف التفاف التصاق ودود ويكون "الخاصة" الواردة في الديباجة، معنى إيجابياً يكرس لهذا المعنى الحميمي. وإذا قلنا بأن هذه اللعنة موافقة في معناها لما هي عليه في المعجم، عندها لا يكون الالتفاف سواء انقضاضاً قاتلاً، وتكون خاص هذه إشارة إلى خصوصية الحالة. ولكن يظل معنى الالتفاف – الذي بمعنى التصاق سواء الحميمي أو الانقضاضي - مناقضاً بطريقةٍ أخرى لمعنى اللعنة، التي هي الطرد والإقصاء. وقد تكون القراءة عرجاء ومنفردة بحيث يكون الالتفاف بمعناه الالتصاقي كصفة حالية قائمة بذاتها ضداً للعنة سواء كانت حميمية أو موافقة للمعجم كصفة حالية قائمة بذاتها.

ولماذا نسهب في هذه التفصيل؟ لأن الكاتبة لا تريدنا أن نقرأ، بل أن نستشعر روح النص، وليس النص نفسه. وهذا المعنى لا يتأتى عندها إلا بمزيد من "الالتفاف" داخل النص نفسه. وبالانتقال إلى أول حركة أفعوانية داخل النص بعد الديباجة، نجد "الإهداء" الذي حمل طابعاً توددياً إلى شخص ترى الكاتبة أنه كان صاحب الفضل في امتلاكها ناصية اللغة التي ساعدتها على "صبّ" هذا القالب. تماماً كما نشكر بائع أسلحة القنص بامتنان لأنه كان كريماً في تعامله التجاري معنا. هذا الإهداء، حمل نوعاً من اللوم الغريب جداً لصاحب الإهداء نفسه، لأنه كان المتسبب الأول في الشكل الحزائني لنصوص الكاتبة بشكل عام، ولا يُفهم من هذا الإهداء إلا في سياق أنه إهداء، بأن الكاتبة تشكره على هذه اللفتة الحزائنية أو المسحة التراجيدية في نصوصها. لأن "الآه" تعبير عن حزن أو ألم أو معناة، فكيف لي أن أشكر أحداً أهداني عذاباته؟ ولكن هل تراه فعلاً أهداها عذاباته أم أنه أهداها عذابتها هي؟ ربما يكون هذا هو المفصل الذي يجعلنا نفهم لماذا تشكر الكاتبة هذا الشخص وعلى ماذا تشكره. ثمة قراءة ماورائية للإهداء، إذ من الممكن أن يكون الإهداء لصاحب اللعنات نفسه. كيف يهبنا الآخرون - القادمين من عميق ذكرياتنا المؤلمة – نعمة الاعتدال، فقد ندفع أثماناً باهظة مقابل أن نتعلّم فقط. فيكون بذلك الإهداء باقة سخرية زرقاء لهذا الذي تنوي أن تلتف حوله. وعلى كل حال فإن فهم اللعنة وفهم الالتفاف هما ما يحددان قراءتنا لكل تفاصيل النص القادمة بعد ذلك.

على شرفة الشباك المرحلي "المولج" توضح الكاتبة سبب سردها لهذا النص، وهنا انتقلت الكاتبة من توجيه الخطاب إلى القارئ مباشرة دون إيحاء منها. وفي هذه الشرفة إشارة جديدة لما أرهقنا فهمه في الإهداء عندما تتكلم عن "الذكرى" وهي لفظة من نسل "ذكريات" فتربطنا اللفظة بالمعنى الذي ذهبنا إليه من أنها تعاني من عذابات قديمة، معلّقة على سقف ذاكرتها. ولا شك أن هذا المُلتف حوله له علاقة وثيقة بهذه الذكريات المؤلمة. تجلس الآن الكاتبة على منصة المستمعين إلى شريط ذكرياتها، تاركة مهمة السرد لهذه الأنا.. وثمة صراع تحاول أن تخفيه الكاتبة بين كلاسيكيات الأنا وبين الواقع بكل مكتسباته. عملية انسلاخ متفردة، تخرج فيه الكاتبة من دور "الراوي" إلى دور "الرائي" هي إنما محاولة استسقاء لغوي غاية في الشفافية، ومحاولة للبوح.

وعلى بوابة اللعنة الأولى نصطدم بأول حقيقة معجمية حول جدلية اللعنة بين الطرد وبين الالتفاف، فنجد أن اللغة المعجمية تنتصر بوضوح تام. وهذا المقطع الأولي، يُشابه كثيراً انطلاقة السهم الأولى من تعريجة القوس. وكأن ثمة مارد تصنّع الوداعة لزوم الشيء وضده، ثم عندما حانت اللحظة انفجر. تبدأ "الراوية" بتوجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى شخصٍ ما حاولتُ الربط بينه وبين صاحب الإهداء، ولكن يبدو أنهما مختلفين تماماً. وهذا يحل عقدة واحدة من مجموع العُقد الموجودة في النص. هنالك صراع أيديولوجي واضح في هذا المقطع، بين كلاسيكيات الحب، وبين ليبراليات الرؤى الرومانسية المعاصرة. بن مسألة الثقة والغيرة والشك هذه الأبجديات الخلافية بين الجنسين دائماً وهو صراع كلاسيكي في طابع أيضاً، تحاول فيه الراوية أن تعرّي الزيف والخداع الذي يتدثر به ذلك الشخص. هي محاولة لتقشير البيضة، ونزع لحائها الخارجي لمعرفة ما يوجد بالداخل. الداخل دائماً أصدق بلا شك. و "أصدق" هذه لا تحمل دائماً المعنى الإيجابي، فقد يعترف السارق بالسرقة، فيكون صادقاً ولكنه يظل سارقاً أيضاً. وهنا تعلن "اللعنة" بمعناها المعجمي نظير هذا التظاهر. الراوية تتحدث عن الخيانة الأدبية والعاطفية، وهذا يوحي لنا بالمقابل وبشكل واضح الخطوط العريضة للتفكير العاطفي أو الفهم العاطفي لديها. هي تشترط الصدق المطلق، الذي يشترط الوضوح المطلق، الذي يُفضي إلى الثقة المطلقة.

في حين أن المقطع الثاني "اللعنة الثانية" تحتوي على دلالات مغايرة تماماً، هذه مرحلة انتقالية جديدة كلياً تناقش فيه مسألة وجودية صرفة .. الهروب من الكل إلى الجزء، وحدانية الشيء في ضده وليس في نفسه، ومحاولة الالتصاق بالشيء منحازاً إلى نفسه وليس إلى سواه. الخروج من النور "الكل" إلى الطيف "الجزء" مع افتراض العادة أو السُنّة الإسرائيلية "استبدال الطيب بالخبيث" كعادة تشير إلى التوهان ربما، أو التمرّد ربما، أو النمردة التي هي الجحود كما في قصة بني إسرائيل تماماً. مع إشارة إلى الميثيولوجيا الدينية المشهور "الضلع الأعوج" وهنا ثورة مخفية في ستار لغوي غاية في الدقة والإجادة، حيث لا يستقيم الضلع الأعوج إلا به هو !! وعندها يمكننا أن نسمع تنهيدة متهكمة " ها " ليأتي التصريح "عليك اللعنة يا أنا" هنا التفاف آخر للعنة حول الأنا هذه المرة، وكأن اللعنة شجرة لباب، تطول وتطول لتلتف حول القريب والبعيد، حول الداخل والخارج. وربما ثمة سؤال قد نستنبطه من "لا يستقيم إلا بك" مقرونة باللعنة الختامية: "هل لآدم أضلع غير عوجاء؟ أم أن أضلاعه كلها كذلك؟" ولأن التقرير هنا نوع من العبث، تصبح الإجابة قريبة من محاكمة إبليس بالنار رغم أنه مخلوق منها. واللعنة هنا ، ليست طرداً هذه المرة بقدر ما هي التصاق بكامل التفاصيل. فهي من نوع اللعنات التي تعني "كف عن ذلك، وتعال" أو "إذا كنت، فلا تكون"

وإلى اللعنة الأكثر نضجاً أو كما يُقال "التالتة ثابتة" وهنا تأخذ اللعنة شكل السيولة في "تدفق" التي جاءت في شكل متقاطر مكرّس أيضاً لمنهجية التصوير العياني للنص عند الكاتبة. وفي هذا التصوير إذ كان لزاماً عليها أن تدّفق الكلمة عرضياً وليس طولياً .. فالتدفق بمعنى السيلان يكون على مستوى عرضي أفقي وليس بمستوى عامودي رأسي، لأن الانسكاب بهذا المستوى إنما هو للتقاطر. إذاً نحن بين مدلولات التقاطر والانسكاب. نجد أن الحلّ اللغوي والميكانيكية كان في "لتصب في سويداء قلبك" ليكون المعنى الصحيح هو التدفق بمعنى التقاطر من الأعلى إلى أسفل. وبهذا يكون النص الحركي متوافق أتيديودياً مع الفعل النص اللغوي. وربما لم تشأ الراوية هذه الأتيديودية بحيث تكون هي الأعلى ويكون هو الأسفل دورقاً لاستقبال الدم المتقطّر. وهنا إشارة جليلة لخاصية العطاء، والمنح. تماماً كما ولو أنها كانت عملية نقل دم تتم وبهذا يختفي الفارق بين "الأعلى" و "الأسفل" لتصل إلى مستوى المنح الذي هو دائماً الصفة الاحتكارية للأنثى.

ثم يتجدد هذا التقطّر، ولكن على مستوىً آخر هذه المرة في "تعال" في إشارة إلى أن هذا التقاطر إنما هو معنى جمالي أكثر مما هو معنى ميكانيكي بالهيئة الرسومية للنص. مخبئةً المعنى الخفي للعنة وهو المعنى التوددي في شكل أكثر حميمية عندما يكون الجلوس على مستوى طفولي، كالجلوس على تل وتدلية الأرجل. هذا الشكل الحميمي يخرقه "لنكون قاب قوسين أو أدنى من الهاوية" هكذا نجد أن الكاتبة غير ملتزمة بالمعاني المعجمية للألفاظ التي تسوقها في نصها، وهذا النوع من التمرّد على اللغة يمارسه المنتمون إلى مدرسة الحداثة بكثرة، وهي جميلة عندما تكون مُدهشة، وليس عندما تكون مزعجة. وهذه الدهشة نجدها عندما نعرف أن السقوط إلى الهاوية سيكون اكتمالاً لا انحداراً، لأن القمة هي جنون، وبالتالي فإن السقوط من الجنون سيكون في معكوسه. وهذا شيء إيجابي أيضاً.

ثم تنعزل الراوية، دون اكتراث بالجمهور الذين دعتهم للاستماع، تماماً كما المشاهد الميلودرامية، لتعانق المحبوب في ملء الحضور، الكثيف وكأنه توقيع على القصة من أولها إلى آخرها لتعلن "حبها" لتقول للذين توهموا أن اللعنة هي لعنة معجمية "مخطئون تماماً، إنما هي لعنة متنافرة تماماً" إنها لعنة ضد الطرد، ثم تبدأ بممارسة اليوغا على طريقتها "زفير .. شهيق" بتقاطرية رسومية جميلة، ولكن هذه المرة تقاطرية أفقية.

هذا نقرأ هذه القصيدة على أنها حياة نيجاتيفية للأشياء والمشاعر وحتى اللغة، ويبقى الهم الوحيد للقارئ أن يحمّض هذه الصور النيجاتيف ليستطيع أن يرى الصورة الحقيقية بكامل ألوانها وجمالياتها التي تختفي في الأبيض والأسود، وفي جدلية المعجم والحِس الجمالي.

الخميس، 19 مارس 2009

رسالة مفتوحة إلى مستشار رئيس الجمهورية


منذ أن قامت الزمرة الحاكمة بانقلاب عسكري على الحكم في الخرطوم في الثلاثين من يونيو/حزيران عام 1989م بقيادة المدعو عمر حسن البشير وهي لا تكف عن التنكيل بالشعب السوداني والتضييق عليه بكافة الأساليب، وتنهال عليه بصنوف التعذيب والإهانة الموجّهة لكرامته وإنسانيته في المعتقلات السريّة منها والعلنية، وتغتال كل يوم حقوقه الأصيلة والمشروعة كإنسان ومواطن له حقوق في هذا الوطن. منذ عشرين عاماً وهذا الشعب يُعاني الهوان والمذلّة والفقر داخل وطنه، لما سببته هذه الحكومة من قطع للأرزاق وتضييق للمعائش مما دفع بالملايين من هذا الشعب للاغتراب واختيار هذه المحنة بطواعية تبعث على الشفقة.

جاءت هذه الزمرة العسكرية متخفية تحت شعارات عديدة أولها كان شعار "ثورة الإنقاذ" وربما تفاءل الكثيرون بهذا الشعار لتخليصهم من المعاناة التي كانوا يعيشونها على يد الحكومات السابقة. واتخذ البعض مقولة "هذا أفضل السيئين" ليُبرر لنسق الرضوخ الذي اكتنف الشارع السوداني منذ قيام الثورة وحتى إبان المحاولات الوطنية للإطاحة بهذه الحكومة.

إن تاريخ السودان الحديث منذ استقلاله في الأول من يناير/كانون الثاني 1956م لم يشهد غير المحن المتعاقبة، والمحاولات المتكررة لإهانة الشعب السوداني واغتصاب حقوقه وسرقة موارده الطبيعية التي لم يذق من خيرها على مدار هذه السنوات الطويلة، بل كان دائماً قابعاً تحت وطأة التهميش والاستغلال على إبان الحكم الديمقراطي في جميع مراحله.

لقد جرّب الشعب السوداني كافة الأطياف السياسية التي لم تفتأ –منذ الاستقلال- تمارس عمليات السرقة والنهب المؤسس لخيرات البلاد، وتمارس أبشع الجرائم الإنسانية ضد هذا الشعب الذي هتف لكل حكومة جاءت آملاً في كل مرّة أن يتغيّر الوضع، وأن تكون كل حكومة خيراً من سابقتها؛ ولكن لم يحدث شيء من ذلك.

مازال السودانيون يتذكرون جيداً النكبات الاقتصادية الكبرى التي حلّت بالسودان، ودفع ثمنها من مواطنته وكرامته الإنسانية وسيادته على أرضه ووطنه، ومن رفاهيته المشروعة وحقوقه الدستورية. كما يتذكرون سلسلة الاغتيالات والتصفيات الجسدية التي كانت تمارس ضد هذا الشعب بشكل مؤسس وواعٍ إما بطرق مباشرة متمثلة في الإعدامات والمحاكمات غير الشرعية وحملات الإبادة الجماعية أو غير مباشرة متمثلة في احتكار المواد التموينية الأساسية وتفشي الفساد الإداري والتهميش الذي طال قطاعات واسعة من فئات الشعب.

ومازال الشعب السوداني يتذكر تلك المآسي الدموية المحفورة بمداد من الدم على صفحات التاريخ السوداني، ومازالت صرخات أرواح الشهداء في الجزيرة أبا وود نوباوي والعيلفون وحلفا وكجبار والمناصير وكلما ودارفور والشرق تدوّي في الآذان حتى اليوم. مازال الشعب السوداني يتذكر المعتقلات التي أشرف عليها جهاز أمن نميري والتعذيب الذي عانوه على يد أولئك السفاحين من انتهاك لكرامتهم وإنسانيتهم وآدميتهم وشرفهم.

هذا التاريخ الطويل من الإساءات والإهانات الموجّهة للشعب السوداني توحي بأمر واحد فقط، وهو أنّ التنظيمات السياسية الحالية ما هي إلاّ مجرّد عصابات سياسية لا تتورّع عن القيام بأيّ شيء في سبيل مكاسبها الشخصية؛ حتى وإن كان ذلك على جثث المواطنين أو على حساب كرامتهم وحقوقهم ورفاهيتهم.

وإن كان مستشار –لا أقول رئيس- ولكن سفاح جمهورية السودان مصطفى عثمان قد صرّح -دون حياء- بأننا كنا كالشحاذين قبل مجيء ما يُسمى بحكومة الإنقاذ فتلك حقيقة تاريخية لا يعيبها غير استخدامه لصيغة الماضي، فالشعب السوداني تم تشحذيه بمعرفة الحكومات المتتالية، ولم تكن حكومة الإنقاذ بأفضل حالاً من سابقاتها، فإن كان الشعب السودان مارس الشحاذة في أزمنة الديمقراطيات الثلاث، أو الحكومات العسكرية من قبل، فإنهم الآن انقلبوا من شحاذين إلى أضحيات تُساق مرغمة إلى حتفها من أجل أن تظل هذه الحكومة متربعة على عرش الحكم.

نعم كان الشعب السودان شحاذاً حضرة المستشار، ولكن ألم تسأل نفسك: لماذا اضطر الشعب للشحاذة؟ وهل كفّ عنها الآن؟ أولستم أنتم من قاموا ببيع أراضي السودان بمن فيها من مواطنين ومزارع وبهائم لصالح الاستثمارات الأجنبية؟ ألم تقوموا ببيع الأراضي النوبية للحكومة المصرية إبان أزمة الرغيف؟ ألم تقوموا ببيع جزيرة توتي للاستثمارات العربية؟ ألم تبيعوا الأرض التي سيقام عليها مدينة دريم بارك؟

أولستم أنتم من قاموا بمجابهة المواطنين العُزّل في كلما "بالسواطير" دون أن تراعوا حُرمة الإنسان قبل المواطن؟ ألم تُجابهوا مواطني كجبار بالذخيرة الحيّة فقط لأنهم يتمسكون بأراضيهم وحاولوا كشف زيف ادعاءاتكم ومخططاتكم الشرهة في نهب ثروات هذه البلاد بالكذب والتلفيق تحت مسميات "المشاريع التنموية"؟

لا يا سيادة المستشار، نحن لم نكن شحاذين، بل مازلنا كذلك حتى اللحظة. وإن كانت الحكومات السابقة قد علمت على تجويع هذا الشعب وإفقاره ونهبه كل حقوقه، فإن حكومة الإنقاذ –التي أنت مستشار لقائدها- قد مارست ضد هذا الشعب أبشع من ذلك بكثير. فقط حضرة المستشار تذكر قبل أن تقودك العفوية إلى موارد الزلل في خطاباتك القادمة أنّ حكومتكم متهمة بأبشع الجرائم التي يُمكن أن تُرتكب في هذا العالم، وتذكر أن المشاريع التنموية التي تمنون بها على الشعب ليل نهار ما هي إلاّ جزء من حقوقنا، وهي كل واجباتهم التي يتوجب عليكم القيام بها. إنه من العار –حضرة المستشار- أن تمّنوا على مواطني "ألبان جديد" بالكهرباء ونحن في أعتاب القرن الحادي والعشرين!

فقط إن أردت أن تتأكد إن كنا شحاذين أم ما نزال؛ فما عليك إلاّ أن تسأل رئيس جهاز المغتربين عن عدد السودانيين العاملين والمقيمين بالخارج، وتقارن نسبة الاغتراب في الأعوام ما بين (1956-1989) و (1989-2009م) لتعرف الحقيقة التي تحاول تزويرها وإيهام الرأي العام العالمي بها.

الأربعاء، 18 مارس 2009

كلام الناس

قصة قصيرة

قالت أمي: “الجدران لها آذان صاغية، والناس يقفون دائماً وراء الجدران ليلتقطوا أيّة كلمة.” كنتُ في العاشرة من العمر، وأمي لم تدرس البلاغة من قبل؛ لذا فإنني وحتى التاسعة عشر كنت أخاف من الجدران، وبرودتها. كنت أشعر بألف عين تتجسس عليّ من بين ثقوبها غير المرئية، وألف أذن تتصنّت على ما أقول. قلت: “ربما كانت الحياة أجمل، والأسرار أكثر كتماناً بلا جدران!” عندما تزوّجت أختي الكبرى، أرادت أن تتعلّم رقصة السلو، لترقصها مع زوجها في حفل الزفاف، وسمعتُ أمي توبخها وهي تقول: “عيب! ماذا سيقول الناس عنّا؟” عندها التفتُ من حولي لألمح أحدهم واقفاً وهو يتصنّت، ولكن لم يكن هنالك أحد. قلت: “أمي لا تكذب أبداً” وخيّل إليّ أنني رأيت الجدران تخرج لي ألسنتها في سخريّة، فازداد خوفي منها .

بعد عام واحد، جاءت أختي إلى البيت وهي تحمل حقيبتها الثقيلة، وسمعتها تقول لأمي: “لا أريد الاستمرار مع هذا الرجل.” فالتفت إلى الجدران، وشاهدت أعينها المتوثبة، وآذانها المتصنّتة، وسمعت أمي تقول: “عيب! ماذا سيقول الناس عنا؟” شعرت عندها بالكراهية لأختي التي لا تكف عن رغباتها المجنونة في فضحنا على الدوام، ولا تراعي أن للجدران آذاناً وأعين. قلتُ: “لا بأس؛ فالنساء ناقصات عقل!” وأحسستُ أنني أكثر الأبناء انتباهاً، وأكثرهم يقظة.

ظل رماد “كلام الناس” يكبر داخلنا أنا وأختي رغم أنها لم تكن في انتباهي ويقظتي، ولكنها كانت تخشى كلام الناس الواقفين وراء الجدران على الدوام، وحنثت بقسمها الغليظ وعادت مرّة أخرى إلى بيت زوجها. قالت: “ذلك أفضل بكثير من سياط كلام الناس الذي سوف ينزل بالتأكيد على ظهر أمي.” لكنني لم أسأل نفسي هل كنّا نخشى كلام الناس على أنفسنا أم على ظهر أمي؟!

عندما كبرت، تعرّفت على إنسانة جميلة ورقيقة، مطلّقة ولها طفلان رائعان كفلقة زهرة البابونج أوان الربيع، ولكن أكثر ما شدّني إليها، أنها لم تكن تخشى كلام الناس. قلت لنفسي: إنها ربما لم تسمع بتلك الأعين المتلصصة، والآذان المتصنّتة، ولكنها كانت قد سمعت بـ”كلام الناس” وقالت: “الناس يخافون من كلام الناس!” لم أشأ –عندها- أن أسمع المزيد من هذه الهرطقة، وتذكّرت ظهر أمي العزيزة، لاسيما وأنها لم تعد في سن يسمح لها بتحمّل أيّ سوط.

عندما صارحت أمي برغبتي في الزواج، أكدّت لي أنها لا تجد فيها ما يعيب، غير أنها كانت تخشى “كلام الناس” عندها فقط شعرت بالكراهية لهؤلاء الناس، ولتلك الأعين التي لم أرها يوماً، ولتلك الآذان التي لم تزل ملتصقة بجدران منزلنا الباردة. قالت لي أختي: “نحن نبتة مثمرة يزرعها آباؤنا، ويحصدها الناس!” ولم أفهم ما ترمي إليه، غير أني خالفتها الرأي. قلتُ: “نحن الناس!” ورغم كل ذلك فإنني لم أتزوّجها ليس خوفاً من كلام الناس، ولكن رفقاً بظهر أمي.

الاثنين، 16 مارس 2009

نقد التجربة الإلكترونية




مما لا شك فيه أنّ ثقافة المدونات الشخصية -سواء محددة المواضيع والاتجاهات أو غير المحددة- هي ثقافة لا أقول دخيلة، ولكنها جديدة على المتلقي والمستهلك العربي على حدٍ سواء. ومما ساعد على انتشار مثل هذه المدونات هو أسقف الحريات المرتفعة التي توفرها سياسيات النشر الإلكتروني غير محددة الأطر والخارجة عن الملاحقات القانونية والرقابية. ولا ننسى أيضاً أنّ شغف –بل تعطّش- الشخصية العربية للحرية أعطى دافعاً أقوى لاستهلاك مثل هذه الوسائل التي توفر له نوعاً من الرضا النفسي كمسألة تعويضية عما يفتقده من الحريات في ظل سياسات القهر والكبت التي يعاني منها الجميع لاسيما المثقف العربي على وجه الخصوص.

بشكل مبدئي، فإنه لا يمكننا الحكم على هذه التجربة –أي تجربة المدونات- في الوقت الحالي، لأنه لا يمكننا اعتبارها تجربة ناضجة كفاية لتناولها بالنقد. ربما نحتاج لبضع سنوات قبل أن نتمكن من ذلك. وعلى صعيد آخر فإن هنالك بعض التجارب لاقت رواجاً ونجاحاً منقطع النظير، لأن المدونات بطريقة أو بأخرى ساعدت على توفير الأجواء المناسبة والصحية لصناعة الوجوه غير المألوفة في عالم الكتابة والنشر، لأن الحكمة الأساسية من الكتابة الإلكترونية بشكل عام والمدونات بشكل أخص هي كانت ضد احتكارية الأسماء المعروفة في عالم النشر الورقي، وتخلص هؤلاء الكتّاب من قرصنة دور النشر الورقي التي تمارسها باستعلائية متناهية ضد الأسماء المجهولة في عالم الكتابة، وبذلك برز على التو اتجاه جديد في عالم النشر الورقي يتبنى النشر الموجه –إذا صحّ التعبير- هذا الاتجاه ساعد على بروز أسماء جديدة في عالم الكتابة الورقية خرجت أساساً من عالم السايبر.

لا أظن أنه ينبغي علينا تجاهل الدور الذي تلعبه المدونات الشخصية والمنتديات الأدبية في عالم يعيش أصلاً في ظل منجزات الثورة الرقمية، حيث يفترض بنا الإيمان بضرورة التدوين الإلكتروني حتى للأسماء التي لم تشهد هذه الثورة فعلياً، فنجد التدوين الإلكتروني لشعراء وكتاب وأدباء وحتى فنانين قدماء. وهذه العملية –أي عملية التوثيق الإلكتروني- أعتبرها عملية بدهية وضرورية بناءً على معطيات الحاضر الذي نعيشه، إذ لا بد من المواكبة. ففي فترة ما كان الأدب يتم تناقله بالتدوين الأخيلات اعتماداً على الذاكرة الفردية والجماعية لما يتم إنتاجه من أدب وفن، ثم تطوّر الأمر ليعيش التدوين مرحلة أكثر نضجاً يتمثل في التدوين الورقي، وربما ساد هذا التوجه لحقب طويلة حتى جاءت مرحلة التدوين الإلكتروني وهو الأمر الأكثر طبيعية في سلسلة التطور الإنتاج البشري بصورة عامة.

ومن وجهة نظر شخصية، فإنني أعتقد أنّ المدونات سوف تنحصر يوماً ما على عدد محصور من المبدعين في كل المجالات المتعلقة بالجنس الفني سواء التشكيلي (الرسم) أو الأدب (الكتابة) وذلك بعد تخطيها لمرحلة الفورة إن جاز لي التعبير، بيد أنّ هذا الانحصار سوف لن يتم عن طريق فرض رقابات من نوع ما على هذه المدونات، بل سيتم عن طريق عمليات فرز تلقائية لما يتم استهلاكه من منتجات تفرزها هذه المدونات على المدى الطويل. لأن صاحب الإبداع الأصيل هو من سيظل حليفاً لما سوف تتولّد عنه مخاضات هذه التجربة الإلكترونية، بينما أعتقد أو –أتمنى- أنّ الأدعياء أو ما أسميهم بـ(الكائنات الطفيلية) سوف لن تستطيع الاستمرار في مرحلة ما من المراحل، وبذلك فإنني أرى أنّ مستقبل الكتابة الإلكترونية بشكل عام، والمدونات الشخصية بشكل خاص سوف يكون أفضل وأكثر عافية لاسيما مع تطوّر وسائل الحماية الفكرية الإلكترونية، إن وضعنا في الاعتبار الاتجاهات الموجودة الآن لخلق جسد نقابي إلكتروني يتمثل في (اتحاد الكتاب الإلكترونيين) هذه التوجهات من شأنها –على المدى الطويل- أن تسهم في تشذيب المسألة التي نراها الآن أكثر فوضوية؛ ولذا فإنني متفائل بمستقبل الكتابة الإلكترونية وأرى أن مستقبل المدونات سوف يكون أكثر نضجاً وإفادة منه الآن.