الاثنين، 23 مارس 2009

نسق الصراعات الواعية في "السيّدة الأولى"

ريم بدر الدين البزال
رواية تبدأ بكابوس وتنتهي بتحقيقه؛ هذه هي القدرة الفذة للروائي الشاب هشام آدم الذي يبدو أنه احترف الغوص في عالم الرواية منذ وجوده في عالم الذر، فهذه الملكات الرائعة في اقتناص الحدث ومن ثم صهره في بوتقة من وعي وتأمل، والتكهّن لما بعد الحدث ثم إعادة تشكيلها في قالبٍ جديد يتخيل له أبعاداً أخرى، فينميه ويبتكر له تفاصيل جديدة لم تخطر البتة على بال الأبطال الأصليين للحدث.

رواية هشام آدم (السيدة الأولى)، هي روايته الثانية من حيث تقديمها لدوران آلة الطبع، تناول فيها حياة السيدة الأولى لدولةٍ ما، في فترةٍ حافلةٍ بالانقلابات السياسية، والصراع على السلطة. وفي أتون هذه الحرب الظالمة الطاحنة تأتي شخصية الرواية المحورية (ليلاتيا) السيدة الأولى، زوجة القائد العسكري فيليوباوتش الذي تبوأ مركز السلطة بالقوة العسكرية، وحكم البلاد بالحديد والنار والشعارات الطنانة.

(ليلاتيا) شهدت تطوراتٍ في شخصيتها ابتداءً من ولادتها في المهد الحريري لأسرةٍ أرستقراطية؛ فوالدها هو المُرابي الكبير، وعندما يوشك على إشهار إفلاسه ينتشله فيليوباوتش بطلب يد كريمته فيقبل دون النظر لرغبتها هي. لكن هشام آدم لم يغفل أن يوضح لنا أن ليلاتيا فتاةٌ متمردةٌ على قيم مجتمعها الزائفة، فكلما أرادت الرجوع إلى بدائيتها وفطرتها التجأت إما إلى كوخها الذي عمّرته في أحضان شجرة بلوط، أو إلى أحضان خادمتها ومربيتها الأفريقية تندراسي. أمانها النفسي يكمن في تندراسي، كما يكمن أمانها الإبداعي في كوخها حيث ترسم.

ليلاتيا الفتاة الجميلة أصبحت سيدة البلاد؛ فكانت بحكم منشأها الأرستقراطي سيدةً أولى دون منازع، وعندما أطيح بزوجها في انقلابٍ آخر، ونفيها معه إلى مكانٍ وضيع اكتفت بكل هدوء بعدّ استدارة الأيام بخطوطٍ أفقية ترسمها على باب الغرفة، وابتساماتٍ ساخرةٍ إزاء كل مفارقة تراها.
ليلاتيا لم تتلق ثقافةً فتحصل بها على آداب الأتيكيت؛ لكنها تمعنت وتأملت في معاني الأشياء؛ فأعطى ذلك بُعداً كامناً لشخصيتها. عندما هربت من المنفى لم يكن هدفها العودة لحالة الرفاهية التي عاشتها من قبل، وإنما كانت تريد أن تصنع مستقبلاً للشعب الذي أحبته، وعاشت شيئاً من معاناته، وتعرفت إلى ظروفه التي لم تكن تراها في القصر الرئاسي. قادت ثورةً تريد منها أن تكون بصمتها في الحياة.

عمق شخصية ليلاتيا وتفردها تؤكدان أن قيادة التحولات والتغيرات في التاريخ لم ولن تتم إلاّ بنخبٍ تمتاز بثقافةٍ وبُعد فكري، وكاريزما تمكنها من كسب قلوب المحيطين بها، وكانت ليلاتيا تمتلك كل ذلك؛ إضافةً إلى حسّها الإنساني الغامر وعاطفتها الجارفة تجاه الآخرين مع رومانسيةٍ طاغيةٍ في كل تصرفاتها. ليلاتيا كانت هنا كجان دارك مناضلةً شنقت بيد جلادها، لكنها أيضاً -بتعليقها على حبل المشنقة- سطرّت لنفسها تاريخاً لا يستطيعه إلاّ أصحاب الهمم النادرة.

شخصية ليلاتيا في الرواية عولجت من خلال شخصياتٍ أخرى: تندراسي وكاستيلو مارسيليو والفتاة البكماء وفيليوباوتش. أتقن هشام آدم تقديم هذه الشخصية كما أتقن الإسقاط السياسي البارع بتناوله قضية الأنظمة الديكتاتورية، وأرضيتها غير الثابتة لأنها ترتكز على الاستبداد، وهذا ما يُولد ظلماً اجتماعياً وسياسياً وفقراً ألمح إليه في الرواية بالخفافيش، وحالة البيوت الصدئة المتهالكة في حي الصفيح، وفي المخيم حيث اللاجئين الهاربين من أتون الصراع، وجحيم المحرقة السياسية.

لا تخلو رواية هشام آدم من الملامح الرومانسية في التصوير، وإبراز جمال الطبيعة حتى أثناء كوابيس ليلاتيا المتكررة؛ بحيث اتخذ النص سمةً جماليةً بالإضافة إلى القدرة القصيّة الجميلة فكانت لديه أخيلة مبتكرة.

اللغة جاءت على درجةٍ عاليةٍ من الشفافية والتناغم مع مستوى الشخصيات الفكري ومنبتها الطبقي، وهذا هو الأدب الحق: تقليد للواقع كما قال اريستوتال؛ كما أنّ دراسة العمق النفسي للشخصيات أتى بارعاً؛ بحيث استطعنا فهم تصرفات كل شخصيةٍ، ونوعية ردود فعلها. تمنيت لو كانت الأحداث مبوبةً في فصولٍ معنونةٍ فهذا أكثر جذباً لانتباه القارئ.

هذه أول مرةٍ يُلقى على عاتقي التقديم لرواية؛ لذا أتمنى ألا أكون قد غمطتها حقها من القراءة، وأتمنى ألا أكون قد أفسدت على القارئ متعة الغوص في عوالم الرواية الجميلة وكلي ثقة بأنها ستحظى بقراءاتٍ غنيةٍ جداً نظراً لتميزها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق