الأحد، 29 مارس 2009

جاء الموت وكان له عيناها


منذ أن ولدت من رحم "وقت الحلم" في العام 1995م، وهي تملئ سماوات الإبداع. عشقتُ فيها جموحها الشعري النافر، وكأنه مارد يأبى –بل يعاف- البقاء حبيس مصباحه العتيق في انتظار أن يفركه النفعيون والفضوليون. وحتى عندما قدمت لنا جميعاً دعوة على عشاءها السرّي في العام 1998م كانت ما تزال تشعل ثورةً دافئة في صدور المرتقبين ميلاد فجرٍ متعدد الألوان. ولكنها رفضتها جميعاً واصطفت الأبيض، وعندما أشرقت اكتشفنا أننا –جميعاً- كنّا مخدوعين؛ فقد اختارت اللون الأبيض بذكاء لم نفطن له؛ فأدركنا أن الأبيض هو أصل جميع الألوان، وأنها كانت تمثل كل الألوان التي يتمناها الحالمون والثوار والعشاق، وحتى الموظفون من وراء مكاتبهم الرتيبة والموحية بالملل.

"الملل" هو الشبح الذي ظل يلاحق الأدباء والمثقفين والكتّاب في رحلاتهم دون أن يتجاسر أحدهم ويبحث صادقاً عن خلاص أو فكاكٍ منه، فالتهم الكثيرين وأخفاهم داخل غياهبه، سديم الرهبة والوجل الذي اعتادوا عليه من أجله؛ حتى جاءت!

بجسارتها العفوية والجميلة، قدمت لنا الشاعرة اللبنانية جمانة حداد كتابها الأخير "سيجيء الموت وسيكون لها عيناكِ" وهو عبارة عن أنطولوجيا فريدة من نوعها، وغريبة في ذات الوقت؛ إذ تهتم الأنطولوجيا بالشعراء المنتحرين في القرن العشرين ممن استطاعت الحصول على معلومات عنهم وعن إنتاجهم الشعري. وقدمت فيه الشاعرة مائة وخمسين شاعراً منتحراً من كافة البلدان والأصقاع، ونماذج لأشعارهم، وتم تقسيم الأنطولوجيا إلى ثلاث أقسام رئيسة قدمت في كل قسم خمسين شاعراً منتحراً مع نماذج لشعره.

هذا العمل المتميّز في الحقيقة، رغم فرادته المكتسبة من فرادة الموضوع، لو تم تقديمه بغير الطريقة التي تم تقديمه بها، ربما لم يكن ليُثير تلك الضجة التي أثيرت حوله، فالشاعرة جمانة حداد، لم تقم بتجميع معلومات عن الشعراء المنتحرين في القرن العشرين من الجنسين، وطرائق انتحارهم، وتواريخ انتحارهم وبعض صورهم فحسب، بل إنها حاولت أن تقدم لنا نماذج من أشعارهم واجتهدت في ترجمتها اجتهاداً لا يُغفله كل من قرأ الأنطولوجيا وتناوله بالتدقيق.

لقد بذلك الشاعرة جمانة حداد في هذه الأنطولوجيا جهداً يُذكرنا بتلك الأزمنة التي كان يتم فيها تقديس فعل الكتابة والبحث؛ إذ جاءت الأنطولوجيا في (655) صفحة، ولا بد أن تستشعر الإتقان في كل صفحة من هذه الصفحات. ولم تُغفل جمانة حداد وضع بصمتها السحرية المميزة على الأنطولوجيا سواء في التقديم أو في الترجمات المقدمة، مما يُعطينا انطباعاً حسناً عن ذائقتها الشعرية، تلك الذائقة التي جعلتها تنصّب نفسها حكماً وتتدخلّ بحكمة الشاعر الحكيم فتصنّف الشعراء المائة والخمسون وتوزّعهم في أنطولوجيتها على ثلاثة أقسام مرتبين –بموضوعية- في كل قسم بحسب تاريخ الميلاد من الأقدم إلى الأحدث.

لقد أرهقتني جمانة حداد في كتابها الفريد هذا من عدة أوجه: فبين الذاتية المبررة والموضوعية البحثية لا تشعر بالحرج، وبين جمالية الموضوع وجمالية التداول، لا تجعلك تملك القدرة على الممايزة. وتأتي ملكات الترجمة لتضفي على الأنطولوجيا رونقاً خاصاً يجعلك تعتبرها كنزاً لا يُمكن الاستغناء عنه.

منذ زمن طويل لم أستشعر نهم القراءة لأيّ كتاب، فمنذ العام 1994م عندما قرأت رواية الخيميائي للروائي البرازيلي باولو كويلهو لم أجد كتاباً آخر يُشعرني بذات النهم، ويدفعني دفعاً إلى مبادلته اللذة والمتعة. أذكر أنني انتهيت من الرواية في جلسة واحدة ليس لأنها رواية قصيرة، ولكن لأنها كانت ممتعة ومحفزّة إلى أبعد الحدود. ولم استشعر هذا النهم مجدداً إلا مع هذا الكتاب الذي جعلني أعايش تلك اللحظات الحزينة والسعيدة والقلقة مع كل شاعر.

كنتُ قد قرأت في مقدمة جمانة حداد لهذا الكتاب هذه الجملة: "طاردتهم وعشتهم. عشتهم ومتهم. مئة وخمسين مرة عشت، ومئة وخمسين مرة مت." فابتسمت عند قراءتها، لأنني كنتُ أظنها من قبيل الجمل الدعائية التي تُمجّد العمل وتوحي بكبرياء الكتّاب، ولكنني عندما انتهيت من القراءة اكتشفت أنني عشت ومت مائة وخمسين مرة بالفعل؛ ربما لم أعش ولم أمت كما عاشت وماتت جمانة حداد، ولكنني فعلت. هي طاردتهم، ونبشت قبورهم، وجلست إلى أقاربهم وشاهدت صورهم، ودخلت مساكنهم، ورأيت أين كانوا يجلسون وكيف كانوا يجلسون، وأين كانوا يكتبون ومتى كانوا يكتبون، ولكنها حرمتنا –نحن القراء- هذه المتعة، وربما نحن الذين حرمنا أنفسنا ذلك بكسلنا المعتاد.

عندما انتهيت من قراءة آخر سطر في الكتاب، أحسستُ أنني كنت في عزلة موحشة؛ عزلة من نوع غريب، لقد فقدت الإحساس بالزمن ولم أعرف كم لبثت وأنا غارق في القراءة متنقلاً بين قبور هؤلاء المنتحرين. كنتُ أقرأ النبذة التي تجعلها الكاتبة عن كل شاعر فأعيشه، ثم أقرأ النماذج المرفقة فأعود مجدداً للنبذة الخاصة به. دمعتُ كثيراً حتى أنني سحبت صندوق المناديل الورقية ووضعتُه إلى جواري. كنت أحرص على وضع منفضة السجائر جانبي عند قراءة أي كتاب، ولكن مع هذا الكتاب، لم أستطع التدخين، كان التدخين يشغلني عن القراءة، كما أنه كان يخدش هيبته وهيبة الموقف. صحيح أنني لم أستطع إكمال قراءة الكتاب في جلسة واحدة كما فعلت في الخيميائي، ولكنني ارتبطتُ به كما لم أرتبط بكتابٍ آخر من قبل.

أنطولوجيا الشعراء المنتحرين "سيجيء الموت وسيكون له عيناكِ" كتاب للشاعرة اللبنانية جمانة الحداد صادر من داري النهار والدار العربية للعلوم – ناشرون ببيروت، وصمم الغلاف الفنان/ة عبر حامد. إنه كتاب العام بكل جدارة لذا أنصح بقارئته كل الذين يبحثون عن المتعة والقشعريرة اللذيذة. أنصح بأن يقتنوه وأن يظنوا به على غيرهم، لكي يضطروا لشرائه، فمثل هذا الكتاب لا يجب أن تفرّط به، فلا تهديه ولا تهبه ولا تُعيره لأحد؛ هو كتاب من جمانة حداد لي تحديداً، ولك تحديداً ولكل واحدٍ منا بشكل خاص جداً.

هذه الطبعة التي بين أيدينا طبعة أنيقة وفاخرة، ولكنها لم تسلم من بعض الأخطاء المطبعية، التي كانت تُخرجني في كثير من الأحيان عن أجواء القراءة والاستمتاع وسوف أقوم بفرد مساحة أخرى لهذه الأخطاء راجياً أن يتسنى للأستاذة جمانة حداد تدارك هذه الأخطاء في الطبعات القادمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق