السبت، 21 مارس 2009

حوار صحفي في جريدة "أخبار الخليج"


مؤكدا أنه وقع بين مطرقة الناشرين وسندان الأسماء اللامعة: الروائي السوداني هشام آدم: الرواية مساحة يطرح فيها الروائي احتمالاته غير المنطقية

القاهرة: لنا عبد الرحمن
ينتمي هشام آدم الي الجيل الجديد من الكتاب السودانيين، فهو من مواليد القاهرة عام 1974 وله اهتمامات في مجال النقد الأدبي والسينمائي، روايته "أرتكاتا" رواية مميزة،تحمل رؤية مغايرة صادرة عن دار شمس في القاهرة،إنها روايته الأولي التي جاءت محملة بالعديد من الأسئلة قارئ هذه الرواية سيلفت انتباهه في المقام الأول اختيار الكاتب إسبانيا لتكون مكانا تجري فيه الأحداث،كما تقوم الرؤية عبر شخصيات إسبانية، تطرح رؤيتها للحياة وللوجود العربي في إسبانيا لكن هذه الحبكة تقوم على لغة سلسة بسيطة،ممتعة عند القراءة،محملة بالتشويق الفني الذي يكشف عن تساؤلات الإنسان ككل، بغض النظر عن انتماءاته الجغرافية أو العرقية. حول تجربة "أرتكاتا"، وحول الأدب السوداني كان هذا الحوار:

- لماذا اخترت أن يكون المكان الروائي في إسبانيا وما المبرر الروائي لهذا الاختيار؟
ليس هنالك أي مبرر روائي لاختيار الفضاء المكاني أنا علاقتي ليست بإسبانيا أو أي قطر آخر بعينه، علاقتي هي مع الإنسان أينما وجد الأماكن غير الموجودة؛ أحاول أن أوجدها وأن أخلق شخوصها كما ينبغي لهم أن يكونوا وكما يقول الروائي العالمي غبريال غارسيا ماركيز: ليست الحياة ما نحياها، بل ما نتذكرها، وكيف نتذكرها لنحكيها؟، المسألة ببساطة أنني أحاول أن أخلق عوالم وحيوات لها وجودها الواقعي، وفي ذات الوقت ليست مرتبطة في حركتها وفي روابطها التصويرية بالواقع، هي مسألة أقرب من الفنتازيا المرتبطة بالواقع بطريقة ما.

إذن من وجهة نظرك يبدو ما يوحد الإنسان هو الذاكرة،أي الذاكرة البشرية التي تشترك في كثير من الأحاسيس والمشاعر؟تمالمشاعر والرغبات الإنسانية موحّدة ومشتركة: الحزن ـ الفرح ـ الحب ـ الرغبة ـ التدين ـ الغضب، ولك ثقافة الإنسان (الفرد)، بالإضافة إلى الثقافة الجماعية أو ثقافة المجتمع هي التي تحدد طريقة التعبير عن هذه الأشياء، وكيفيتها ومستوى نضجها من عدمه لست مهتماً بتبرير اختيار إسبانيا على وجه التحديد لأنني على يقين كامل بأمرين غاية في الأهمية أولهما: أن أي نطاق جغرافي في العمل الروائي، هو نطاق مواز للنطاق الحقيقي، أو مشابه له، ولا يمثله بصورة متطابقة بالضرورة، ولا يجب أن يكون الأمر كذلك على أي حال من الأحوال ثانيهما: أنّ وقائع وأحداث أي نص روائي يتناول سيرة المشاعر والرغبات الإنسانية لا يمكن حصرها في ثقافة محددة، لأنها كما قلتُ سابقاً مشاعر ورغبات إنسانية مشتركة.فضاء للسرد.

- لكن هذا لم يوضح أيضا السبب في اختيار مكان بعينه ليكون فضاء للسرد.
الكتابة عالم؛ والقراءة عالم آخر، رغم أنهما يلتقيان في نقاط أخرى من هنا أرى أنه ليس من الضروري، بل ليس من المعقول، الإفصاح عن أسباب اختياري لثقافة أو واقع ثقافي بعينه حتي وإن كان ذلك بقصد فإنه يظل رهناً بالكاتب وحده علينا كذلك أن نعرف وأن نفهم العلاقة الجدلية الحاصلة بين الكاتب والمتلقي؛ لأن في هذه العلاقة يكمن الكثير جداً من الإجابات، كما أنه يجب علينا أن نعرف إجابة السؤال الأكثر خصوبة لماذا نقرأ؟ لتتكشّف لدينا بعض الحقائق الغائبة عنّا والإجابة عن هذا السؤال أمر ليس بالهين كما يبدو أبداً। تقع أحداث الرواية، وأبطالها في بلدة "أرتكاتا" وفي مناطق إسبانية أخرى،من أين استوحيت المادة الحية لتضفيرها مع عنصر الخيال؟

في الحقيقة احتاج مني الأمر الرجوع إلى بعض المصادر لمعرفة المزيد من التفاصيل عن مناخ إسبانيا وتاريخها وجغرافياها العامة فالكتابة عن مكان لم تره ولم تعش فيه إضافة إلى قدرتها على امتاعي- فهي تشكّل بالنسبة إلى نوعاً من التحدي الذي يمثل لي دافع الكتابة وشغفها الذي يجبرني على المواصلة عندما يكتب كاتب سوداني عن السودان، فإن المتعة الحقيقية هنا، سوف تحصل للقارئ فقط، بينما سوف يفقد الكاتب هذه المتعة إلا فيما عدا متعة التفريغ عما أراد أن يتناوله في كتابته ولكن أن يكتب سوداني عن إسبانيا فإن ذلك قد يساعد على توليد أكثر من متعة: متعة الكاتب في تحديه لملكاته الخاصة، متعة القارئ الذي يتعّرف على عوالم أخرى من شخص أبعد ما يكون عن هذه العوالم، متعة القارئ الإسباني الذي سوف يكون هاجسه الأكبر محاولة معرفة إلى أي مدى نجح هذا الغريب في اقتحام ثقافته والتغلغل فيها।

- لكن ألم تخش أن يوجه إليك انتقاد حول الكتابة عن مكان لم تحي به، ولم تعرف تفاصيله؟
لا، ولا يجدر بالكاتب أن يضع مثل هذه الأمور في حسبانه قبل الكتابة أنا اكتفي بمراقبة ناقدي الذاتي، رغم تأثير هذه المراقبة على عملي بطريقة مباشرة غير أني كنتُ أعرف أن اختياري لهذا التكنيك سوف يطرح أسئلة كثيرة جداً أولها أنني أتهرب من واقع حياتي خاص بي أما عن موضوع تفاصيل البيئة التي أكتب عنها، فأنا على يقين تام بأن ثمة تماثلاً بين جميع ثقافات العالم، لاسيما فيما يتعلق بالنواحي الإنسانية وإن كنا لا نكتب إلا عمّا نعرفه، فإننا سوف لن ننتج شيئاً جديداً يستحق القراءة.

شخصية البطل:
- بطل الرواية "كاسبر" كاتب، وهو الراوي أيضا، إلى أي حد تتقاطع أنت مع شخصية بطلك من حيث الرؤية الموجودة داخل النص؟
إن الكتابة نوع من تحدي الذات في المقام الأول بالنسبة إلى، وعلى هذا فإن شرط تقاطعي مع شخصية البطل ليس وارداً بالقدر المتخيل، فأنا أختلف مع كاسبر في كثير من الآراء التي طرحها، وفي كثير من التفسيرات والتعليلات التي ساقها عبر سرده لمذكراته، كذلك عبر رؤيته وقراءته لواقعه ومن ناحية أخرى، فلا يجب علينا أن نتصوّر كاتباً يختفي وراء شخصيات أبطاله أو العكس ؛ رغم أنّ هنالك الكثير من المقولات النقدية التي تقول إن الكاتب يحاول أن يعرف نفسه عبر الكتابة، وهو ما يؤمن به ناقد مثل: كولون ولسون إذ يقول في كتابه فن الرواية: "إن الرواية مرآة لابد وأن يرى فيها الروائي وجهه وصورته الذاتية، وما وصف الحقيقة وقول الصدق وهما من الأهداف التي سعى إليها عدد كبير من الروائيين في القرن التاسع عشر- إلا هدفين ثانويين؛ أما الهدف الأساس فهو أن يفهم الروائي نفسه وأن يدرك ماهية هدفه بالذات" - وهل تتفق مع كولن ويلسن في رؤيتك للفن الروائي؟

إن فكرتي عن الرواية ليست كالفكرة التي يقول بها ولسون، فأنا أرى أن الرواية مساحة يطرح فيها الروائي احتمالاته غير المنطقية في محاولة لقياس ردود أفعال الآخر باعتبار الآخر سلطة قائمة بحد ذاتها، سواء كان هذا الآخر سلطة خارجية أو حتى سلطة قيم عليا داخلية।

وعلى هذا فليس بالضرورة أن ننقل أفكارنا عبر شخصيات الرواية، وإلا لتداخلت الأفكار، لأن ثمة شخصيات -داخل الرواية- ذات أفكار مغايرة للأفكار التي يؤمن بها كاسبر وإذا كان كاسبر إحدى شخصياتي الروائية، فإن جهاد عوالمة هو أيضاً أحد شخصياتي الروائية، وهما يحملان توجهات فكرية مختلفة تماماً هي إنما فكرة إتاحة الفرصة لجميع الآراء أن تتقابل وتتصارع بطريقة متعادلة ومتكافئة من دون أن أتدخل بنصرة فكرة على الأخرى، إنما أجعل الباب موارباً للقارئ لكي يغير آراءه تجاه أفكار كان لا يعتقد بها، أو أن يرسخ أفكاراً أخرى كانت موجودة أصلاً.

- توحي روايتك للقارئ العربي كما لو أنها نص مترجم، نص متأثر جدا بأدب أمريكا اللاتينية؟
اعترف بأنني متأثر بأدب أمريكا اللاتينية، وبأنني مطبوع بتلك الكتابات والأنماط الكتابية إلى حدّ بعيد ولكن لا ننسي أنّ حديثنا عن لغة الروايات والنصوص الأدبية المترجمة، هو حديث عن اللغة العربية في المقام الأول وعندها يجب علينا أن نفرّق بين المتأثر بالأدب نفسه، والمتأثر بترجمات هذه الآداب أقول إنني متأثر بأدب أمريكا اللاتيني، وأقرأ كل ما أصدافه لماركيز وباولو كويلو وإيزابيل الليندي وخورخي لويس بورخيس وإمبارو دابيللا وغيرهم، ولكن ثمة لغة لها مذاق خاص لا استمتع بالقراءة لهؤلاء إلا عبرها، فتعجبني مثلاً لغة صالح علماني في ترجماته لماركيز والليندي؛ وهكذا فإن هذا التأثر هو في الحقيقة تأثر مزدوج، ففضاءات البيئة في أمريكا اللاتينية موحية لدرجة بعيدة وأنا لا أستطيع إنكار إعجابي بهذه الفضاءات وبمعالجات أدباء أمريكا اللاتينية لها ولكن وعلى الجانب الآخر، فإن خيار الكتابة عن بيئة مغايرة عن البيئة العربية لم يكن مجرّد اتباع لهذا النسق اللغوي وحسب।

اعتقد أن هنالك أسباباً أخرى تجعل من الكتابة عن هذه الفضاءات أمراً ممتعاً بالنسبة إلى؛ فمتعة تحدي الملكة الكتابية لا تعادلها متعة أخرى، كما أنني مقتنع بصورة ما بأن الشخصية العربية ليست شخصية موحية بدرجة ما بقدر ما هي الشخصيات الأخرى، ولذا فإنني أحاول أن أمازج بين هذه الثقافات، لأخرج في النهاية من إطار الجغرافيا السائدة إلى فضاء الكونية الواسع، معترفاً بأسبقية العالم على الإنسان.

- وكما لو أن هناك إلى جانب الاسترجاع التاريخي في "أرتكاتا" نقداً ضمنياً، أو دعنا نقول رؤية أخرى للوجود العربي في إسبانيا، كيف تفسر ذلك؟
صحيح، أنا أطرح في الرواية العديد من الاحتمالات، ومن بينها احتمال أن تكون هنالك شخصية إسبانية ناقمة على العرب باعتبارهم غزاة ومستعمرين قدماء، لا يمكنني الجزم بذلك بالضرورة، ولكن لا أحد ـ بالمقابل- باستطاعته الجزم بعكس ما أقول إنّ واحدة من الأفكار الأساسية لأرتكاتا هي محاولة نقد الذات ومحاسبتها، لا جلدها كما قد يتصوّر البعض علينا أن نعتذر عن تاريخنا الذي أساء إلى مجموعات كبيرة من البشر والعرقيات حول العالم، وأن نمنح لأنفسنا فرصة الاستبصار بذلك، وأقرب طريقة إلى ذلك وأكثرها إنسانية هو أن تستشعر معاناتهم وأن تعبّر عنها، كما هي دون تزييف، ودون تلفيق।

علينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، لماذا برأيك حين تغزو جيوش المسلمين بلاد الآخر نسمي ذلك فتحاً، وعندما يغزونا الآخر نُسميه استعماراً؟ إنها نفس فكرة الإساءة إلى المصطلحات المنتشرة هذه الأيام، والتباين بين "المقاومة" و"الإرهاب" على سبيل المثال ما حدث في تاريخ العصور الإسلامية هو مشروع استعماري توسعي خرج من شبه الجزيرة العربية وامتد شرقاً إلى حدود الصين وغرباً إلى إسبانيا، ولا يختلف ذلك كثيراً عن أطماع الاستعمار الغربي، إلا إذا أردنا أن نلّفق التاريخ وأن نلوي عنق الحقيقة، لأننا إذا فعلنا ذلك فلن نرى في الأندلس إلا دولة مغتصبة، وهي في الحقيقة دولة نالت استقلالها من الغزو الإسلامي العربي، هذه الحقيقة تجعلنا نعرف أيضاً أن تسمية هذا الغزو الإسلامي بالفتوحات هو سبب عدم قناعتنا بوجود شخصيات ساخطة على تلك الحقبة التاريخية، وبالتالي لا تؤمن بحقها في الوجود أو الإفصاح عن عذاباتها الخطيرة ولكن عندما نعترف بأن ما حدث للأندلس ما هو إلا استعمار، فإننا سوف نرى الإسباني شخصية مقهورة لديها الكثير لتقوله لنا وعن تاريخنا.

موضوع معقد:
- بما أنك كاتب سوداني تنتمي لجيل الكتاب الشباب، حدثني قليلا عن إبداعات الكتاب السودانيين الشباب، وما العقبات التي تحول دون وصول هذا الأدب للقارئ العربي؟
هذا موضوع خطير للغاية، وشديد التعقيد في ذات الوقت، وأعتقد أنه يحتاج إلى مساحة خاصة للحديث عنه ولكن وبصورة عامة فإنني أنتمي إلى جيل وقع بين مطرقة الناشرين وسندان هيمنة الأسماء المعروفة كذلك فإن غياب النقد ساعد كثيراً على غمر هذه الإبداعات وبقائها في الظل।

إن النقد قد يعمل - من دون أن يدري- على إحياء بعض الأعمال الأدبية، وعلى قتل بعضها الآخر بالمقابل وإنه لمن المفيد لنا أن نعرف أن رواية الأستاذ الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) لم تنل حظها من الشهرة والانتشار - حتى داخل السودان - إلاّ بعد الكتابة حولها، وتناولها بالنقد من قبل ناقد له اسمه ومكانته، وهو الناقد الراحل: رجاء النقاش وأذكر أن الأستاذ الطيب صالح نفسه، قد أشار - في إحدى اللقاءات الصحفية- إلى أنه ليس بأكثر الكتاب السودانيين حرفية أو إبداعاً، ولكنه أكثرهم حظاً।

ومن وجهة النظر الأخلاقية؛ يبدو أنه من المخجل أن نتكلّم عن الحظ فيما يتعلق بالأدب بشكل خاص، والفن بشكل عام ولكن لا نملك إلاّ أن نعترف بهذه الحقيقة، في أزمنة أصبحت فيه دور النشر وأجهزة الإعلام لا تعي دورها الرسالي على الوجه الأكمل ومن هنا يمكنني القول: إن أحد أسباب عدم انتشار الروايات السودانية -إضافة إلى غياب النقد- طغيان مبادئ الربحية والشخصانية وتصدّرها لأولويات دور النشر والأجهزة الإعلامية।

نحن الآن أمام حقيقة مخزية بالفعل؛ ألا وهي: غياب الوازع الأدبي في كل العناصر التي من شأنها أن تُكسب الأدب قيمته المستحقة أنا لا أعفي دور النشر، كما لا أعفي أجهزة الإعلام التي لا تلتفت إلى إبداع المبدعين، إلاّ بعد استحقاقهم لهذا الاحتفاء العديد من الأدباء السودانيين وجدوا طريقهم إلى الظهور والانتشار في ظل أنظمة تعي تماماً دور الأدب والأدباء، وتعاملوا مع دور نشر كانت تسعى إلى تحقيق الموازنة الصعبة: تحقيق الربح وتقديم النصوص الأدبية ذات الجودة المعقولة।

لا يجب أن نتوقع من الكتّاب أن يروّجوا لكتاباتهم خارج قنوات النشر المتعارف عليها، وإلا لدخلوا في دائرة الابتذال التي يحرص المبدعون خاصة ألا يدخلوها بإرادتهم وفي الحقيقة فإن القارئ هو من يجب عليه أن يسعى للتعرّف على النصوص الأدبية، دون أن ينتظر أن تأتيه على طبق من ذهب وعليه فإنني -أيضاً- لا أعفي القارئ العربي، واتهمه بالإهمال المتعمّد تجاه الرواية السودانية، ولكن القارئ العربي فاقد لحس الاكتشاف المتولّد -أصلاً- من حركة منظومة كاملة تروّج لمبدأ البقاء للأقوى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق