الخميس، 26 مارس 2009

سريالية الحكي عند محمد الطيّب سليم

قصة “نوبة الطلق الأخيرة” لكاتبها محمد الطيّب سليم -من حيث البناء- تندرج تحت جنس أدب القصة القصيرة؛ إلا أنّ شخصية الروائي غلبت على الكاتب؛ فظهرت القصة بنفس روائي واضح. ويعتبر الفضاء الزماني للقصة فضاءً قصير الأمد؛ إذ أنّ أحداث القصة في مجملها تصف لحظات قصيرة جداً من حياة بطلة القصة ألا وهي لحظات الولادة. ومن الجميل جداً أن يُسهب الكاتب في وصف هذه اللحظات السحرية النادرة التي مجّدها الأسلاف كثيراً، وألهوا بسببها الأنثى واعتبروها معجزة الطبيعة وسرّها الأكبر؛ إذ من رحمها تولد الحياة. وركّز وفي إغراقه في وصف هذه اللحظات؛ على رصد مشاعر محددة حصر فيها كل المعاناة التي تمر بها المرأة في مثل هذه المواقف؛ ألا وهي مشاعر الألم. وربما كانت مشاعر الألم هذه مناسبة تماماً لما تحمله بطلة القصة من مواجع قديمة لفقدها شخصاً عزيزاً لديها. كما نجح الكاتب كثيراً في الربط بين جدلية الموت والحياة أيّما نجاح؛ إذ وبطريقة ذكية جداً نجده قد ربط بين الحياة (ولادة الطفلة)، وبين الموت (موت توت) الذي –في رأيي- لم تكن شخصية بذات النضوج المطلوب لاسيما وأنه شخصية محورية في النص. ولكن ربط الموت والحياة بعنصر الطفولة في الحالتين هو ربط ذكي ومتقن جداً وله مدلولاته العميقة والفلسفية.

وبالعودة إلى شخصية (توت) فإننا نشعر بأن الكاتب لم يُعط الشخصية حقها من الإيضاح والوصف؛ فجاءت هلامية. ولو لم يلجأ الكاتب إلى تقنية الاسترجاع والاستذكار
Flashback لسرد أحداث تاريخية متعلقة بسيرة “توت” ومحاولة تفسير سر ارتباط البطلة به؛ لكانت هلامية الشخصية مبررة؛ إذ كانت لتبدو كشبح تماماً كما كانت في مخيلة البطلة.

كما أن الكاتب لم يوفق –في رأيي- في شرح هذه العلاقة وتفسيرها ليبدو تذكر البطلة لهذه الشخصية في لحظات معذبة كلحظات الولادة مبرراً ومنطقياً. فلم نعلم مثلاً ما إذا كان توت: حبيباً أم صديقاً أم مجرّد طفل كانت تلهو وتلعب معه قبل (21) سنة. في الوقت الذي كان فيه ذكر تفاصيل حياة توت غير مبررة كذلك ولم تخدم النص؛ فلم تقدّم لنا كشف سرّ خوفه من العساكر وقصته وقصة أهله معهم أيّة إضافة حقيقية يُمكن ربطها بأحداث القصة، ولكنها ساعدت فقط على تشعّب القصة.

النص خلا تماماً من الأسماء، وفيما خلا ورود اسم “توت” الشبح؛ فإننا لم نعرف اسم البطلة أو اسم زوجها أو اسم والدها الذي كان سبباً في مقتله، وهذا الأمر لا يُعد –بالطبع- نقيصة في النص بقدر ما جعلنا نتساءل عن سرّ عدم تسمية الكاتب للقصة باسم (توت)؛ إذ أنّ تفرّد هذه الشخصية وسطوتها على النص أكثر من الشخصية الرئيسة جعل منها (أي من شخصية توت) ترقى إلى مرتبة الشخصية المحورية بل والأساسية فيها ويجعل من الآخرين مجرّد شخصيات ثانوية مكمّلة
Koumbars

من الأمور التي استرعت انتباهنا –كقراء للنص- إصرار الكاتب على إلحاق نعت “عزيز” على بعض الشخصيات على لسان الراوي وليس على لسان الشخصيات؛ فنجده يقول مثلاً:

- كان زوجها العزيز الصوت الجهوري الذي يخاطب الحشود
- كانت قد أحسّت بالراحة لمجيء زوجها العزيز
- وآخر حدود الدفاع عن المناطق التي يحرسها والدها العزيز.

وللمرة الأولى –ولكنها لم تكن الأخيرة- يتدخل الراوي بطريقة سافرة جداً ليُضيف من لدنه إضافات غير مبررة الأمر الذي خلق تساؤلاً هاماً أو فلنقل إضاءة حول طبيعة العلاقة بين البطلة وبين توت المغدور الذي شعرنا بأنه نال عقاباً أكثر مما يستحق، فوالد البطلة –في اعتقادي- بالغ في إنزال العقوبة بتوت في الوقت الذي كان يجب عليه أن يهتم لأمر ابنته التي كانت غارقة في دمائها، ويزداد هذا الإحساس عندما نعرف أن توت وقتها ما كان إلا مجرّد طفل صغير الأمر الذي يجعل شخصية والد البطلة تصبح شخصية عدوانية ودموية. ورغم ذلك فإن نعت هذه الشخصية بالعزيز قد جاء على لسان الراوي وليس على لسان البطلة وهذا يجعلنا نشكك في حيادية الراوي في سرده لأحداث القصة. فإذا كان الراوي يرى بأن شخصية دموية وظالمة كهذه شخصية عزيزة على البطلة فإنه حتى لا يُعطي الفرصة الكافية للبطلة لتعبّر عن مشاعرها الحقيقية تجاه والدها لاسيما فيما يتعلّق بأمر توت وما فعله معه. فربما كانت البطلة تحمل رأياً مخالفاً لرأي الراوي حول هذه النقطة. هذا الأمر يقودنا للحديث عن مستوى الأصوات في النص الأدبي والسردي بالتحديد وهو ما يُطلق عليه بالـ:
First Person و الـSecond Person والـThird Person وأنا أتمنى من الكاتب أن يُراجع هذه المستويات بشكل أدق ليفهم الفارق بين صوت الراوي Narrator وبين المتحدث باسمه، وما يُسمح وما يُتاح لكل من هذه الأصوات، والأهم من ذلك كيفية استغلال والإفادة من هذه الأصوات في النص القصصي والسردي بشكل عام.

وأخيراً لابد لنا من الحديث عن ارتباط العنوان بالنص وعلاقته به. وبعيداً عن النظريات النقدية وما ذهبت إليه المدارس: البنيوية والتفكيكية والدلالية والواقعية وغيرها حول هذا الأمر؛ فإنني أقول: إن العنوان هو مدخل النص وبوابته الرئيسة ولا يجب أن نفصل بين النص وعنوانه لارتباط كل منهما بالآخر، وعلى ذلك تكون عنونة النص من أخطر المهام التي يقوم بها الكاتب في مجمل ما يكتب. فقد يكون العنوان مقصلة للنص، وقد يكون العكس. يجب أن يكون العنوان بحجم النص ومعبراً عنه. (العنوان) في النصوص الأدبية لا يجب أن يكون بسترة أو ملخصاً للنص. وارتباط العنوان بشخوص النص أو بفضاءاته الزمانية والمكانية له مدلولاته؛ ليس فقط من حيث التكامل والوحدة النصيّة والموضوعية فقط؛ وإنما له دوره في إتمام العملية الكتابية في ربط المثلث: الكاتب – النص – القارئ. فالعنوان في هذه الحالة يجب أن يكون سفير النص لدى القارئ منها يُحدد ما إذا كان سيتقبله أم لا. وأنا أنصح الكاتب بقراءته ما تناوله رولان بارت
Roland Barthes وجاك دريدا Jacques Derrida حول موضوع عنونة النصوص الأدبية فهو مفيد جداً.

في النص العديد من الأخطاء الإملائية والصياغية، وليسمح لي الكاتب بتناولها على عجالة وعرض بعض النماذج:

- “كانت في نوبة الطلق الثالث الأفظع حتى الآن” : إن عبارة (حتى الآن) تخلق نوعاً من التشويش، وتزعزع الفضاء الزماني؛ فنجده بدأ الجملة بـ(كانت) ولـ(كان) دلالات زمانية محددة، وهذا التشويش يجعلني أتساءل عن فضاء الزماني للنص: فهل يسرد لنا الراوي قصة حدثت في الماضي
Past Simple أم أنه ينقل إلينا وقائع تحدث في الوقت الحالي Present Continuous ؟ هل أراد بعبارة (حتى الآن) أن يقول بأن الطلق الثالث الذي عانت منه بطلة القصة كان هو الأفظع الذي مرّ على أيّ امرأة حتى الآن؟ الجملة مربكة جداً وغير مفهومة على الأقل بالنسبة إليّ.
- “لم ينزعج الطاقم الطبي حولها وأزعجها ذلك” : كان من المستحسن أن يقول: “أزعجها عدم انزعاج الطاقم الطبي” أو “أزعجها أن الطاقم الطبي لم يكن منزعجاً” لأن فعل انزعاجها أسبق على فعل عدم انزعاجهم، طالما أن عدم انزعاجهم هو الوضع الطبيعي لديهم كأطباء تمر عليهم مثل هذه الحالات عشرات المرات في اليوم الواحد تقريباً. ويمكننا قياس ذلك بقولنا: أدهشتني برودة الإنكليز!، فبرودة الشعبي الإنكليزي صفة ثابتة ومستقرة، ودهشتي هي الصفة الطارئة؛ لذا فهي أسبق. ولكننا لا نقول: الإنكليز باردون، وأدهشني ذلك!”
- “كانت تلهث وتلهث وتلهث” : هذا التكرار –في رأيي- يضعف المعنى، ويصيب القارئ بالملل والإحباط، وكان الأولى أن يقول مثلاً: “لم تتوقف عن اللهاث” أو “كانت تلهث دون توقف” .. إلخ.
- “رغم جحوظ بصرها” : البصر مجرّد حاسة تعبيرية عن فعل الإبصار الذي تقوم بوظيفته العينان. والجحوظ لفظة وصفية حركية تعبّر مباشرة عن العين وليس عن وظيفته؛ فنقول: “جحظت العينان” ولا نقول: “جحظ بصره”
- “يا إلهي .. يا لكل هذا الزمان الطويل” : هذه الجميلة وردت في النص على لسان الراوي، وفيه تعاطف كبير من الراوي واقتاحم منه لجو النص؛ في حين أن الراوي يجب أن يظل مختفياً وراء سرده لأحداث القصة فلا يُسمح له بالتعبير إلا على لسان شخوصه. اقتحام الراوي للنص بهذه الطريقة كان غير لائق أبداً، ومزعج. ولا يجب أن تظهر شخصية الراوي أو أن يُظهر عواطفه ومشاعره تجاه الأحداث؛ لاسيما إذا كان الراوي ينقل إلينا أحداثاً لا تخصه؛ بمعنى ألا يكون الراوي هو نفسه طرفاً في القصة أو بطلها المحوري.
- “ثم عادت لليسار وهي تنظر إليه خائفة أن لا تجده” : كان الأجدر أن يقول: “مخافة ألا تجده” مثلاً
- “عادت للانتفاض لجهة اليمين ثم عادت لليسار” : من الواضح أن (عادت) الأولى هي للإشارة إلى لمواصلة الانتفاض بعد لحظات الهدوء القصيرة جداً التي عاشتها البطلة، وأن (عادت) الثانية هي لوصف الانتقال من وضعية إلى أخرى، ومن جهة إلى أخرى. ولكن تركيب الجملة ضعيف جداً، ولا يؤدي المعنى المطلوب، وكان من المستحسن أن يقول: “انتفضت مجدداً إلى الجهة اليمنى، ثم إلى اليسرى؛ وقد علّقت بصرها به مخافة ألا تجده” أو “مخافة أن تفقده مرّة أخرى”

النص في مجمله نص إنساني راقٍ جداً ويُسلّط الضوء على تجربة إنسانية نادرة أحسن الكاتب في وصفها وتلمس منزلقاتها ومتعرّجاتها بطريقة تعبيرية رائعة نقل فيها إلينا التجربة وكأننا أحد أطرافها الحقيقيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق