الخميس، 25 مارس 2010

مسامرة أدبية سودانية في بلجيكا

بقلم عبد المنعم شنتوف
حين يسافر الأدب العربي بمختلف أشكاله التعبيرية وتحققاته النصية وانتماءاته الجغرافية إلى الآخر الغربي، فإن ذلك غالبا ما يحدث بالاحتكام إلى قنوات ووسائط نذكر من بينها على وجه التخصيص الاستشراق وأقسام ومراكز الدراسات العربية في الجامعات الغربية ووسيط الترجمة. ولئن كنا نعرف بداهة أن العالم العربي يفتقر بطريقة مثيرة للأسى إلى مؤسسات حقيقية وذات مصداقية علمية تهتم بسؤال الترجمة وتحتفي بقيمة الاستحقاق ومن ثم الترويج للمنجز الإبداعي العربي داخل لغات ومتخيل الآخر ووضع حد لأشكال التردي الفظيع التي تطول صورة الذات العربية في العالم، وإذا أضفنا إلى ذلك أن هاته الحركية على ندرتها المؤسية محكومة بمنطق العلاقات الشخصية والولاءات والإخوانيات ومواكب مسح الجوخ التي تغض الطرف عن الرداءة الأدبية الخالصة، فإن الحديث عن حضور للأدب العربي في الغرب يبقى محكوما بجرعات قوية من التحفظ والاحتراز وأشبه ما يكون بحديث خرافة.

غير أن سماء بلجيكا الخفيضة تجود رغم كل شيء بلحظات استثنائية تحقق في غضون ساعات قليلة ما تعجز عنه مؤسسات بكاملها وسفارات ومراكز ثقافية ' عربية' توجهها قبضات ستالينية كاتمة للاختلاف والتعدد. كانت بروكسيل إذن على موعد يوم الثلاثاء 9 آذار( مارس) 2010 مع مسامرة أدبية احتفت بتنويع من التحققات النصية من الأدب السوداني. حقيق بالإشارة في هذا الصدد أن الفكرة التي تعهدها بالعناية المستعرب البلجيكي وأستاذ اللغة والأدب العربيين في جامعة بروكسيل اكزافيي لوفان بشراكة مع مكتبة باسابورطا الشهيرة التي تعنى بثقافات وآداب العالم كانت منسجمة والترجمة الأنيقة التي أنجزها لنماذج من القصة السودانية إلى اللغة الفرنسية وصدرت عن دار ماجلان بباريس عام 2009. غير أن اللافت للانتباه في هذه المسامرة التي قام بتسييرها اكزافيي لوفان هو حرصها على إشراك الجيل الجديد من طلاب الدراسات العربية البلجيكيين في قراءة بعض التحققات النصية والحضور المكثف التي غصت به قاعة مكتبة باسابورطا والذي كان مشكلا في غالبيته من البلجيكيين.

شارك في هذه المسامرة الأنيقة ستة أدباء سودانيين وهم أحمد الملك المقيم في هولندة الذي شارك بصفة شخصية، ورانيا مأمون وعبد العزيز بركة ساكن وستيلا قايتانو وعبد الغني كرم الله وهشام آدم الذين حضروا بنصوصهم وتكفل بعض طلاب قسم اللغة العربية بجامعة بروكسيل بالقراءة عوضا عنهم. أثار المبدع المتميز أحمد الملك انتباه الجمهور بنصه الجميل الموسوم ' الدبابة' الذي اتسم بالإضافة إلى السرد الأنيق واللغة الرشيقة الخالية من التمحل والتقعير على جرعات قوية من السخرية اللاذعة من خلال استحضار دال لشخصية المواطن البسيط والساذج الذي أقدم على شراء دبابة. ننوه في السياق ذاته بأن النصوص الأخرى أقصد ' أبواب' لرانيا مأمون و ' حليب دافئ لمنتصر' لعبد العزيز بركة ساكن و ' لا نجي' لهشام آدم و' حمار الواعظ' لعبد الغني كرم الله قاربت بحساسيات جمالية متسمة باختلافها وتميزها حالات من الواقع السوداني تأخذ بعين الاعتبار الاختلاف بين الشمال والجنوب ونماذج من الشخوص الهامشية مثل بائعة الكحول التقليدي.

كان التفاعل مع هاته التحققات النصية متسما بالألفة والحميمية والرغبة في الإنصات إلى الإبداع المختلف من حيث لغاته وفضاءاته. وكان كاتب هاته السطور قد طرح سؤالا على المبدع أحمد الملك عن تمثيلات ودلالات الحضور القوي للثقافة والتراث النوبيين في جزء كبير من الأدب السوداني. واعتبر الكاتب في معرض جوابه أن النزوع نحو تحقير وتهميش الإنسان والثقافة النوبيتين كان حاضرا باطراد على امتداد التاريخ الحديث والمعاصر للدولة السودانية وتحديدا منذ بناء السد العالي. وأكد الكاتب في هذا السياق إن الحكومات السودانية المتعاقبة التي كانت في مجملها ذات طابع عروبي وإسلامي كرست هذا التهميش المقصود للمكون النوبي بمختلف سماته من خلال برامج دراسية كانت خاضعة باستمرار لسلطة التوجيه الإيديولوجي.

لئن كانت هاته المسامرة الأدبية الأنيقة قد حققت نجاحا لافتا تمثل في الحضور المكثف والتفاعل الإيجابي، فلأنها استرشدت بدافع الاهتمام بالأدب العربي ذاته وبصرف النظر عن دوافع متعالية أخرى. ونعتقد في هذا المقام أن هذا المبدأ ينبغي أن يوجه أي فعل يروم الاهتمام بالثقافة العربية بمختلف أشكالها التعبيرية في المهجر وذلك في أفق الخلوص إلى حركية ثقافية عربية مهاجرة متسمة بديناميتها ونزاهة مقاصدها. لا يفوتنا على سبيل الختام إلا أن نشيد بالاستثناء الجميل الذي تقدمه جهة الفلاندر البلجيكي. ونمثل لذلك على سبيل الحصر بمدينة أنتويرب التي تنشط فيها جماعة زهرة الصبار التي يشرف عليها الكاتب والمخرج المسرحي العراقي المتميز حازم كمال الدين. لقد تمكنت هذه الجماعة على امتداد سنوات طويلة من الحضور الدائب من أن تخصب الممارسة الثقافة العربية المهاجرة بطرائق اشتغال شفت عن مستوى معقول من الاحترافية واحترام انتظارات المتلقين بصرف النظر عن انتماءاتهم اللغوية والثقافية والجغرافية

المصدر: جريدة القدس العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق