الاثنين، 1 فبراير 2010

رسائل تفتح بمعرفتها فقط (11-12)

الرسالة الحادية عشر:
أنتِ لهذا الورد .. أنتِ ثلاثة أرباعي .. أنتِ التي يومض وجهها في خاطري كل ساعة .. بوصلة النهر .. وزرقة السماء .. ورئتي التي أتنفس بها .. ووجهي .. وجبهتي في السجود.

يقينك بي هي الفرس التي أراهن عليها، والقوة التي تجبرني على النهوض كلما كبوت. هذه الدنيا يا حبيبتي أضيق من حنجرة محتضر عندما تتساقط الأشياء والأسماء. ينهار الجدار الكبير الذي بين الحقيقة والزيف. الوجوه التي ترينها يا حبيبتي مطلية كوجه البلياتشو بعضها وجوه مبتسمة وعلى أنفها كرة حمراء مجوفة، وعندما تهطل اللحظة المحك تسيح البوهية وتظهر الوجوه على حقيقتها.

هنالك الرجال الذين لا يتكلمون إلا همساً، وهنالك من ليس لهم من الرجولة إلا شارب نبتَ على الفطرة . وهنالك الرجال الرجال. هنالك النساء اللواتي لا يحملن في صدورهن إلا الحليب. أتعرفين ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنهن محض مرضعات، الثديات من النساء يتصاغرن حتى لكأنهن نبتة يمتد فرعها إلى أسفل. بعضهن ..لأ !! تحب الحياة لأنها شريكة بأكثر من النصف فيه. والبعض الآخر .... يا حفيظ !!

نحن يا حبيبتي – كلنا – محض أشباح ترتدي معاطف لحمية، أكثرنا حصافة هم الذين يعلمون يقيناً أن هذه المعاطف لا بد أن تخلع بعد انتهاء الحفل؛ لذا فهم أكثر حرصاً على ما داخل المعاطف. بعضهم .. لأ !! تجدينهم يبالغون في شراء البروشات والساعات الذهبية ذوات السلاسل المعلّقة. سفه !!

أحمد الله أنّ جارتك التي تسكن في الطابق العلوي قد غادرت إلى غير رجعة. أتعلمين؟ النساء لا يعجبهن نوعان من الرجال: الذكي والبخيل. ترى أيهما كان زوجها؟

بعد عصر أمس، تلقيت رسالة عليها طابع بريدي سوداني. تعجبت للوهلة الأولى؛ إذ لم أستلم رسالة من السودان منذ أن غادرته في عام 98 . فتحت الرسالة بطريقة أنيقة لأنني أسررت في نفسي الاحتفاظ به كتذكار فيما بعد. ومن أول البسملة عرفت صاحب الرسالة؛ إنه (عاطف خديجة) ابن عمتي .. اعتدنا مناداته باسم أمه، هكذا نحن أهل النوبة. وهذا العاطف خديجة ربما يصغرني بأربعة أعوام، لكنه فلتة. يخبرني في رسالته عن افتتاحه كشكاً للخط في لفة القبة. إنه شاب بسيط جداً ربما أكثر مما تتصورين، لكنه طموح جداً، كما أنه لا يعرف اليأس رغم حظه العاثر. شخص يمد لحافه على قدر رجليه.

يقول في الرسالة أنه يشتاقني .. وهو دائماً يقول ذلك. كما أنه يريد أن يأتي إلى السعودية. مسكين لا يعرف ما الذي ينتظره هنا إن فعل. كل فكرته عن السعودية أنها بلد (الراحات والتفاح) كما يقول. ذات يوم سمعته يقول: "القشطة أكبر وهمة في التاريخ". هذا التصريح الخطير من شخص آمن لأكثر من ربع قرن بأن القشطة هي إحدى علامات الثراء والبذخ والفخفخة يعد تصريحاً غاية في الخطورة. وعندما سألته عن السبب قال لي بكل براءة: "مسييييخة" !!!

سأحاول أن أرد على رسالته في أقرب وقت. ربما بعد أن ننتهي تماماً من الانتقال إلى المكتب الجديد. أعرف أنكِ متلهفة لسماع أحاديث عطبره الطيبة. ولكن سوف أجعلها حجتي القادمة للكتابة لكِ ..فكوني بخير حتى ألتقيكِ في الرسالة القادمة

سلامي إلى أختك الصغرى وإلى أهلك الكرام بدون فرز .. وقبلاتي إلى ما بين عينيك.




الرسالة الثانية عشر:
على أريكة بلا غطاء أجلس الآن، وفي خاطري أن تكوني الأقرب لي الآن .. بدلاً عن هؤلاء المصدّرين للضجيج. بطريقة ما أنا منزوع من الوعي .. حدّ أني بالكاد أسمعهم وهم يصفّرون عندما تمر عارضة الأزياء على شاشة التلفاز. الصورة الحقيقية أمامي باهتة جداً لا تحتوي على تفاصيل مغرية حدّ الانتباه. إنما أجلس كأني على حجركِ الآن، وهواء المكيف العابر فوق شعري أصابع يديكِ المبتلة بالماء.

تذكرتكِ عندما قرأت كلام باشلار عن الشمعة. وأحببتك أكثر عندما انتهيت من القراءة ولمّا يساورني النعاس بعد. عندها أغمضت عيني برفق حتى أحسست بحرارة في بؤرة العين. الظلام الداخلي حالك يا حبيبتي، إنه المجال الأمثل لحضورك الباهر. عندما أتيتِ قبّلتك بقدر ما كنت مشتاقاً إليكِ.

أما بعد ،،،

فعن عطبره التي تملئ ذكرياتها الغرفة الضيقة من الذاكرة. فهي مدينة وادعة، يربض عليه خط السكة الحديدية الشريان الأورطي للمدينة، وكما يتجمع الآخرون حول النهر، فإن العطبراويين يتجمعون حول شريط السكة الحديدية. ذهبت مع بعض الأصدقاء لقضاء عطلة السمستر الأول .. أظنني كنت في السنة الثالثة عندما كان ذلك، ولأنني كنت الأقرب إلى قلب خالد عبد الله فقد أصرّ أن أنزل ضيفاً لديه. فكان ذلك. عطبره المدينة التي تستيقظ في الظهيرة على أصوات المقطورات ورنين الدراجات. وصراخ بنات المدارس هي أجمل المدائن التي رأيتها بعد عينيكِ

عطبره .. حيث عائلة أبو سن وأبو شوك الذين حملوني على رؤوسهم رغم أن الأرض لم تضق بي هناك، ولكنها أريحيتهم التي تجعلك لا تملين الحفاوة. مكثت فترة - أظنها يومين - في ضيافة خالد عبد الله، غير أنها كانت إقامة جبرية، فقد اكتشفت أن خالد عبد الله شخص كسول لا يخرج من غرفته إلا إلى المرحاض وبالعكس. ما زلت أذكر عندما طرقت الباب فتاتان فدخلتا علينا وانهالتا علينا ضرباً .. نعم !! إنهن آمنة عوض أبو سن وماريا السيد. عطبراويتان جسورتان. سبب العلقة أنني لم أذهب لزيارتهما في اليوم الثاني لقدومنا كما وعدتهما، لم يكن الأمر بيدي .. فأنا ضيف وأجهل طرقات المدينة.

تصوري أن يغضب أحدهم منكِ فقط لأنك لم تسجلي زيارة له. كم منا يغضب عندما يطرق بابه أحدهم. ولبيت أبو شوك وتلك العائلة الأكثر من رائعة منزلة خاصة في قلبي. مضيت معهم يومين كاملين، لم أشعر خلالهما بالرغبة في الخروج من باب الدار. ما زلت أتذكر شكل الخالة نفيسة وهي تربط قدميها بكيس نايلون من أثر الرطوبة، وابتسامتها الوقورة وهي تستمع إلى أحاديثنا في المساء. لن تفرقي بين أحدنٍ منهم .. فكلهم واعٍ .. وكلهم مثقف .. وكلهم ناضج .. وكلهم مرح .. وكلهم كريم. يا لها من أسرة .. فليحفظهم الله.

حبيبتي .. أجزم أن ما انقضى في حياتي بدونك هو مضيعة للوقت، وأن ما سوف يأتي بدونك شيء لا يخصني .. وأنا الآن في هذا الشوق أشعر بالعدمية وبشيء يشبه النار يرتديني كالأفرول من قدمي إلى عنقي. أتمنى أن لو أراكِ ولو من بعيد. أن أسمع صوتك ولو همساً. آآآآه كم أشتاق لاسماع صوتك يا حبيبة.

هل تصدقين أنني ما زلت أنسى اسم ابنة أختي؟ عندما وضعت أختي مولدها الأخير، وضعتها أنثى ففرح جميعنا بمن فيهم والدي .. فكلنا كنا نتمنى أن تضع مولداً أنثى. تقول أمي: إنّ خلفة البنات بركة، وقد صدقت. فبيت ليس فيه أنثى يفقد الكثير من الخصوصية، ويفقد الكثير من الدفء؛ لذا تجدينني شديد الارتباط بأخوتي. إحداهن تزوجت - تعرفين ذلك - وهي سعيدة الآن في بيت زوجها، ولكنني أشتاقها من حين لآخر. أشتاقها عزباء لتبقى العلاقة بذات الخصوصية بيني وبينها. تعرفين كم أحب الدهباية، ولكنها سنّة الحياة.

بالأمس .. وأنا أرتب غرفتي وجدت صورة قديمة لي .. أقف فيها إلى جوار شيخ عجوز. لم أتذكره ولكنني تذكرت المكان الذي كنّا فيه. كان ذلك في منزلنا القديم، هو نفس المنزل الذي وطأت فيه بقدمي على زجاج فتهمش داخل إبهام قدمي اليسرى. أذكر أن والدي هرع بي إلى المستشفى، وعلى الفور حقنوني بحقنة تخدير موضوعي. بدأ الطبيب يمارس عنفه علي، وبمشرط حاد بدأ في فتح الجرح، ورغم أنهم كانوا يظنون بأنني مخدر إلا أنني كنت أشعر بما يجري في قدمي. صرخت طالباً منهم أن يتركوني. وصرخت أكثر وأنا اخبرهم بأنني أشعر بالألم. قال الطبيب لوالدي: إنه يخاف من المشرط، وهذا ما يجعله يستشعر الألم. غير أني كنت أتألم فعلاً. لقد كانت بالنسبة لي عملية جراحية بدون تخدير. ولذا فإنني وحتى اللحظة أكره الأطباء وأكره رائحة المستشفى (رائحة الديتول)

منذ يومين لم يمر جاري السكير .. كما أنه ليس في غرفته. أخشى أن يكون قد أصابه مكروه. لقد بدأت أحب هذا الشاب فعلاً. قبل مدة سمعته يقول: لابد أن أقرأ الفاتحة على روح حبيبتي .. فلابد أنه ذهب ليفعل. أفرح كثيراً عندما أجد أشخاصاً يقدّرون الحب مثل هذا الشاب. مثله نادرون في هذا الزمان يا حبيبتي.

قد أحمل لكِ في المرة القادمة أخباراً سارة جداً غير أني لا أريد أن أستبق الأحداث. كوني بخير فأنا لا يهمني في حياتي غير أن تكوني سعيدة. وبلغي تحياتي إلى أسرتك الكريمة.

بالمناسبة:
هل هنالك من أخبارك عن جارتك التي كانت تسكن في الطابق العلوي؟

هناك تعليقان (2):

  1. لديك اسلوب رائع في طرح ما يجول بخاطرك , كم غريبة تلك الصدف التي قادتني الي مدونتك حيث ساقني الحنين الي الماضي وانا اجلس وحدي في غرفة اجتر الذكريات الجميلة التي مرت بحياتي فقادتني الي عطبرة وانا ابحث علي النت عن اسماء اعرفها علي اجد لها صفحة في المواقع الاجتماعية علي اجد شخص ما اعرفه استطيع التواصل معه واعادة بعض اللحظات الجميلة بحثت بكل الاسماء التي وردت في خاطري اخيرا وجدت اسم اعرفه دخلت منتدي فاذا بها قد ماتت بكيت نعم بكيت رغم طول الزمن ,تصدق اني لم ارها منذ ان كنت بالمتوسطة ولكن شئ في داخلي تحرك لم اكن اعلم حتي ان طول المسافات والزمن لا يستطيع ان ان يميت كل هذه العواطف , يقال البعيد عن العين بعيد عن القلب ولكن علمت ان هذه ليست بحقيقة مثبته , فالنعد لموضوعنا قششت دموعي وبحثت مرة اخري باصرار اكبر كتبت في محرك البحث (( ماريا سيد, امنة عوض ابوسن )) هكذا كتبتها ولكي اكون اصدق كتبت رجاء عوضا عن امنة ولما لم يسوقني البحث لشئ كتبت امنة بدلا عنها فقادتني لمدونتك . جبت بين سطورها وانا ابحث عن الفقرة التي بها هاتين الشخصيتين ههههههههه طبعا شمار زي ما بقولو كي اعرف ماذا فعلن , من خلالها عرفت انك مكثت يومين بعطبرة وكنت اتنمي لو انها طالت لعرفت مدي روعة هؤلاء البشر قلوبهم والصافية ومعشرهم الذي لا يمل .
    كم تمنيت ان اعود هنالك مرة اخري لو ان عجلة الزمن ترجع الي الوراء .

    ردحذف
  2. الأخت: سارة
    تحياتي

    أولاً أحسن الله عزاءك في صديقتك الراحلة، وإنه بالفعل لشيء مؤسف أن نتلقى خبر رحيل الأصدقاء .. أما عن ماريا السيّد وآمنة عوض أبو سن فقد كانتا زميلتي دراسة في جامعة الخرطوم وكانت الأيام التي قضيتها في عطبره من أجمل الأيام التي مرّت عليّ في حياتي حتى الآن ... تفرقنا بعد الجامعة ولكن الصدفة وحدها هي التي جمعتنا مجدداً رغم بُعد المسافات وهذه الصدفة جمعتني فقط بآمنة عوض أبو سن ولكنها لم تجمعني بعد بماريا، ولكنني عرفت أنها قد تزوّجت وأنجبت [كوتة] من الأطفال، أما آمنة عوض أبو سن [أم أحمد] فقد تزوّجت هي الأخرى وأنجبت ابنها أحمد وهي تقيم الآن في الخرطوم، وإن أردتِ التواصل معها فبإمكاني أن أزوّدكِ برقم هاتفها عبر الإيميل، فأرجو أن تراسليني على بريدي الإلكتروني [hisham.adam@gmail.com] أما عن رجاء عوض أبو سن فالحقيقة أنني لا أملك عنها معلومات رغم أنه كان باستطاعتي سؤال أختها عنها، ولكن لم أفعل، بالتأكيد سوف تعرفين عنها وعن أخبارها عن طريق آمنة، وسوف أكون سعيداً أن أكون سبباً في تجدد ما انقطع بينكم ولو عن طريق المصادفة المحضة.

    لك مني كل التحية والتقدير

    ردحذف