الأحد، 31 يناير 2010

رسائل تفتح بمعرفتها فقط (9-10)

الرسالة التاسعة:
تغشاك التحيات التي أنتِ أهل لها، والعافية المستدامة التي أتمناها لكِ من كل قلبي، وبحبوحة العيش التي تستحقين. حبيبتي .. والأشياء تأخذ لونها الطبيعي في حضورك، تفقد معانيها المزيفة، تلبس معانيها التي يجهلها الآخرون – غيرنا - يبقى الشوق بدون تعريف في قاموس الحالة الثابتة؛ استوائية العشق الذي لا يكف نشيده عن الهطول.

ساعة العشق بساعتين، وساعة الشوق بساعتين فيما عداه، واللحظة التي تحمل عبق الذكريات لا تزول إلا بمفارقة الروح لهذا الجس،. وكثرة اللوم تنبت الطحالب على حواف العلاقة، والبكاء صفاء روحي بمساندة مادية، الدموع انعكاس مادي لسريان الألم واللذة على المستوى الروحي، أو فوق المادي. الحزن لحظة انعدام الجاذبية وفقدان التوازن لفترة مؤقتة Pause ، والفرح اعتباطية أو سخرية من اللحظة الخطأ، والحنين برزخ يفصل بين الشوق والاحتياج. الخوف ترمومتر الافتراضية والكينونة، وأنت الخط الأفقي الفاصل بين الصيرورة والديمومة؛ لذا أحبكِ ..

صباح هذا اليوم ذهبت إلى البنك، استقبلني موظف الاستقبال Front Desk بشيء من التجاهل. كان يتحدث في هاتفه الخلوي، ممسكاً بقلمه الباركر مركزاً بصره على شاشة الكمبيوتر أمامه. علّق على جيبه بطاقة كتبت بياناته عليها. لم أركز فيها كثيراً، غير أني جلست منتظراً أن ينتهي من مكالمته. كان كرسيه هو الوحيد الشاغر. كان الوقت مناسباً لإلقاء نظرة على المكان. كنت متوتراً حين وقعت عيني على مكتب يجلس فيه شخص تبدو عليه أعراض الوظيفية، إذ كان رسمياً في ملبسه وجلسته، وللمصادفة فقد كان الكرسي الذي بجواره شاغراً، نهضت بهدوء تاركاً موظف الاستقبال الثرثار في ثرثرته، ولم يكلف نفسه أن يستشعر مدى إهماله للعملاء فتركني أنصرف. وبكل لباقة تعلمتها في صغري، استأذنت وجلست إلى الموظف الآخر، شرحت له المعضلة؛ فمدّ لي استمارة قمت بتعبئتها، وما هي إلا دقائق حتى كان إيصال استلام المبلغ في جيبي. غادرت وفي صدري شعور بالإنجازية.

المكاتب الحكومية رتيبة رتابة العمل الروتيني، ألوان طلاء الجدران، أصوات رنات الهواتف الثابتة، بعض الكلمات المكررة، البوسترات الدعائية وحتى الأشخاص النمطيون. الشيء الوحيد الذي يتغير بشكل موسمي هو: صورة الملوك والأمراء في الجدار النصفي الأنيق للبهو.

موسم الرطوبة قد حلّ .. للرطوبة رائحة غريبة، ولكنها حميمة. عندما تتذوق الماء في كل شيء تلمسه: في زجاج النوافذ، في أوراق الأشجار، في المركبات الواقفة، في بكاء أجهزة التكييف، في حويصلات الهواء الساكن .. في كل شيء. ولكن الجميل في الأمر أنني أقضي طيلة النهار في مكتبي المصاب بالزكام، حيث لا أشعر بالرطوبة إلا عندما أغادر المكتب إلى البيت.

جاري السكير .. بخير، غير أنه لم يعد يغني كسابق عهده. بالأمس أحضر عوده، وسألني: هل تجيد الغناء؟ قلت له في حزن: لا .. تجهم قليلاً ثم قال: لا بأس فلا أحد يسمعنا .. دعنا نغني سوياً. بدأ هو فعزف أغنية "الدنيا ليل غربة ومطر" لمصطفى سيد أحمد. وفي منتصف الأغنية، وجدتني أغني معه بكل نشوة. عندما انتهينا، وجدته يرمقني بنظرة. اكتشفت أنني كنت أغني لوحيدي. قال لي: بالتمرين المتواصل سوف تحسن مستوى غنائك. قال إنه يعوزني الإحساس بالزمن. ما علينا .. إنما كانت هضربة سكران !!

أختي التي تصغرني بعامين تعاني من الاكتئاب هذه الأيام، تقول إن شبح العنوسة بدأ يساورها ويمد لسانه لها سخريةً. هي لا تحب الرجال، ولكنها تكره العنوسة. ذكرتني قصتها بإحداهن كانت تبحث عن رجل كمن يبحث عن تحفة ليكمل به ديكور منزله، بعضهن لا يشأن أن يشاع عنهن أن الرجال يزهدونهن (ظل راجل ولا ظل حيطة)، وبعضهن يرين في الرجال مجرد وسيلة في تحقيق حلم الأمومة، والبعض الآخر لا يطقن رائحة الرجال؛ على كلٍ .. فسوف تعتاد على هذه الحال حتى يأتيها رزقها أو أجلها.

حبيبتي .. ربما أتوجه إلى العاصمة في إجازة نهاية الأسبوع؛ لذا لا تقلقي إذا تأخرت عليك في الخطابات. أوكي؟

تحياتي لأهلك الكرام وللجميع بطرفك.



الرسالة العاشرة:
التحايا التي لا تنضب بل تتجدد .. والعشق الذي لا يبلى؛ حكمةَ أن يكون العشق حرفة الروح لا القلب .. والشوق الذي – كالنهر – يجري دون أن يتحرك قيد أنملة .. والقبلات التي تعني واقعيتنا !!

أيتها الحبيبة التي بحجم ما أريد .. وأكثر. أيتها الحبيبة التي بحجم التوقع .. وأكثر. أيتها الحبيبة التي بحجم الاشتهاء .. وأكثر. أبعث إليك بالرسالة العاشرة، ولست أدري هل وصلك شريط كاسيت مارسيل خليفة أم لا. إن كان قد وصل، فأرجو أن تستمتعي بالاستماع إليه فموسيقى مارسيل خليفة لها مذاق الفراولة بالحليب.

حبيبتي .. بالأمس بينما أنا أتصفح الإنترنت فوجئت بفتاة من عصر النكهة الأولى، لم ألتقيها منذ أيام جامعة الخرطوم. ساورني الشك في البداية، ولكن حين تجاسرت وسألتها تأكدت أنها هي. قد لا تعرفين مقدار الأشياء التي تدفقت أمام عيني عندها. شعرت بالحزن فجأة، والفرح، والشوق، والحنين، والـ... لا أعرف. صدقيني يا حبيبتي لا أعرف كيف أوصف لكِ ذلك.

عندما يعود أناس من تواتبيت الذاكرة الرطبة، ليمثلوا أمامك بذات الطعم الخرافي القديم، وذات الرونقP ياله من شعور لا يضاهى! فتاة كالسلسلة معقودة بأشخاص آخرين، أحدهم يحفّز الآخر للخروج من قمقم النسيان، غبار السنوات الثمان الماضيات. تذكرت على الفور الأماكن والروائح التي كنت قد اعتدت عليها في حقبة ما.

جلسة الأصدقاء في كافتيريا قانون، والجالسين على امتداد شارع الجامعة Main Road ، وصدى الضحكات المتعالية في الـUnder-Lab ، وهتافات الـCalling في الأرجاء، وجلسات الحب على نجيلة آداب، ولقاءات الشقاوة على حجز الـDismiss تذكرت الأضواء المسائية الناعمة في سماءات منتدى الفلاسفة، وصوت وقع الأقدام وخشخشة الحشائش اليابسة بالقرب من السُدس، وضحكات البنات الحاملات لعصير الليمون الطازج في Business ، وحنكشة أخريات في كلية علوم، والجلالات المجلجلة من (الميدان الشرقي) عندما يتبارى منتخب آداب وهندسة: (مساطر بس وما أكتر ... وقاشرين بيها في السنتر)

يا إلهي .. كم أنّ هذا القلب عامر بالشخوص والأمكنة! نكأت هذه (الفتاة السلسلة) جرحاً ظننته قد تخثر منذ سنوات، لكنه سرعان ما اندلق! هي الآن سيدة مجتمع ناجحة، وزوجة، وأم لابنة رائعة. هل تصدقين ذلك؟ يا لكروية الأرض!

على مستواي الشخصي حبيبتي، لا شيء جديد على الإطلاق، كل ما هنالك أننا مشغولون بأمر الانتقال إلى المكتب الجديد، ربما سأحمل معي صورة مصارع الثيران الإسباني إلى مكتبي الجديد وصورة نصفية لي قبل أن تداهمني السمنة مؤخراً. حزني على جاري السكّير جعلني أسجل له زيارة على غير العادة، حيث من المعتاد أن يأتيني هو.

دخلت غرفته فوجدتها شبه فارغة من الأثاث فقط ثلاجة صغير 8 قدم ، وهيتر – أظنه لزوم الشاي - ، ولحاف على الأرض بإهمال. في إحدى الأركان حقيبة كبيرة بنية اللون. عوده قائم على إحدى زوايا الغرفة بينما جلس هو على اللحاف مرتدياً (برمودا) زرقاء وفنلّة داخلية. جلست إليه وتحدثنا طويلاً حول كل شيء تقريباً. كان به حنين إلى الوطن، وعرفت منه أنه من أبناء عطبره، تلك المدينة النارية (مدينة الحديد والنار) كما يطلق عليها أهلها.

دار بيننا حديث طويل عن تلك المدينة، ربما أحدثك عما دار بيننا في الرسالة القادمة؛ فقط أحببت أن أقول لكِ بأنني شعرت بأنك على ما لا يرام. لا أدري .. ولكن انتابني هذا الشعور بينما كنت أتأمل في صورتك التي أعلّقها أعلى سريري. وكأنك كنت تتأوهين لأمر ما، لم أستطع أن أعرفه. هل أنت بخير يا حبيبة؟ هل الجميع بخير؟ أرجو أن تطمئنيني عليك بخطاب ولو من سطر واحد فقط.

في انتظار خطابك بفروغ الصبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق