الاثنين، 8 فبراير 2010

رسائل تفتح بمعرفتها فقط (13-14)

الرسالة الثالثة عشر:
حبيبتي .. بدأت الدنيا تضيق عليّ كما تضيق ملابس أحدنا عليه عندما يكبر. أصبحت لا أرى لهذه الدنيا بريقاً كما في السابق. بدأت الألوان تبهت في نظري بدونك. أتمنى أن لو كنتِ أمامي الآن .. إذن لوضعت رأسي على صدرك، ثم لغفوت برهة حتى أحس أنني لم أعد خائفاً كما أنا الآن. آهٍ كم أشتاق لمرور أظافرك الطويلة على صدري، ولرائحة أنفاسكِ وهي تداعب وجهي المتعرّق.

لم أستطع الانتظار حتى أتسلّم خطابك القادم، ولو تعلمين كم أشعر وأنا أكتب إليكِ، أحسّ وكأنني - بطريقةٍ ما - منعزلٌ من المكان الذي أنا فيه، سابحاً على ظهر غيمة مانعة للانزلاق، وتختفي جميع الألوان ويبقى اللون الأبيض؛ لون قلبك.

اليوم .. وأنا في طريقي إلى منزل أحد الأصدقاء، قرأت لافتة إعلانية على إحدى أرصفة الشوارع، كانت فتاة الإعلان تشبهكِ إلى حدٍ بعيد، وقفت أنظر إليها وهي مبتسمة، وكأنها تبتسم لي فقط، وفجأة وجدت رجل المرور يطرق زجاج النافذة طالباً مني التحرّك، وعندها أدركت أنني أربكت السير. رفعت يدي معتذراً وحرّكت عصا ناقل السرعة، ومضيت.

لقد تخلّصت تماماً من الإدمان على القهوة التركية. ما كنت لأعلم سرّ هذا الإدمان رغم أني لا أتعاطى المنبهات - ما عدا التبغ - . قال لي أحدهم: "عليك بالعلك للتخلّص من التبغ" ولكنني لا أشعر برغبة في الإقلاع عن التدخين. أعلم أنّك قلقة على صحتي، ولكن أرجوك لا تمنعيني من التدخين، سوف تضعينني في محك إذا فعلتِ. كان والدي دائم الخوف عليّ من السقوط في براثن التدخين، وهاأنذا heavy smoker !!

ذهبت إلى إحدى المكتبات لأشتري بعض الكتب، لم أجد ما يغريني بشرائه، كنت أبحث عن كتب لغاستون بشلار أو برهان غليون أو محمود أمين العالم أو هادي العلوي أو حتى رواية ماركيز التي أضعتها (عشت لأروي) ولكني لم أجد شيئاً مما كنت أبحث عنه، فعدت أدراجي ولكنني فضّلت أن أشتري لأمي (كنافة نابلسية) أعرف أنها تحبها جداً. وهي في ذلك عكس أبي الذي امتنع عن الحلويات بأمر الطبيب. تجد أمي في ذلك فرصة جيدة لتعيّره بكبر سنه رغم أنه ما زال (يقاوح) ويكابر. كم أتمنى أن لو يستريح. أعرف أنه قد تحمّل طيلة هذه السنوات الكثير والكثير من أجل أن يربينا ويعلمنا ويفرح بنا، ولكنه لا يريد أن يقتنع بأنه تقدّم في السن. وبأنه بحاجة إلى الراحة.

بعد أن التهمت أمي آخر قطعة من الكنافة النابلسية، قالت - وهي تلعق أصابعها -: "ربنا يخليك لينا يا ابن بطني، ونفرح بيك" ابتسمت وأنا أؤمّن سراً على دعائها فإذا بأبي يقول وهو يربت على كرشه :"مش لمن أعرّس أنا الأول!!" يا لهما من عجوزين لا يكفان عن المناغشة!!

هنالك الكثير من الكلام الذي أريد أن أقوله لك ، ولكني فقط لم أستطع أن أنتظر حتى أستلم خطابك القادم. أتمنى أن يصلك هذا الخطاب ليجدك بخير. سوف أرسل لك برسالة أخرى بعد أن أستلم منك رداً على الخطاب الثاني عشر. وحتى ذلك الحين حبيبتي .. بلّغي تحياتي إلى الجميع.

وكوني بخير



الرسالة الرابعة عشر:
يجد الكثيرون صعوبة بالغة في كتابة الرسائل؛ البعض يفضّل التسجيل الصوتي على الكتابة، والبعض الآخر يفضّل المكالمات الهاتفية عن هذه وتلك، غير أني لا أدع وسيلة قد تجعلني على صلة بك إلا وفعلتها. أعلم يا حبيبتي أن ثمة آخرين يحسدوننا على هذه العلاقة. فقط علّقي على صدرك سلسلة من النوع الذي ينتهي بآية الكرسي أو لفظ الجلالة.

حبيبتي .. بالأمس ، بعد أن انتهيت من قراءة كتاب (الراقصون على الجمر) مددت يدي وتلقفت جهاز التحكم عن بعد Remote-Control وأدرت التسجيل. تعلمين أن الشريط الافتراضي لي دائماً هو شريط مصطفى سيد أحمد. لا أدري ولكن ثمة تناغم غريب بين ما كان يغنيه مصطفى وما كنت أفكر فيه. فمصطفى سيد أحمد كان يقول: "يا خوفا عليّ عقل وثبات .. ماها الولوالة" وأنا كنت أفكر في قلقك عليّ .. عندها يا حبيبتي شعرت بالطمأنينة تسري في دمي، وببرودة محببة تطرق باب أوصالي، عندها .. وعندها فقط .. نزلت مني دمعة نقية لم أشأ حتى أن أمسحها.

تعلمين أنني شرِه في القراءة والتدخين، غير أني في الآونة الأخيرة لم أعد أقرأ كثيراً .. منشغل بموضوع البحث عن المراجع المطلوبة. لم أكن أعلم أن الأمر بالغ الصعوبة إلى هذا الحد. ربما أرسل في طلب بعض المراجع من دولة أخرى.

على فكرة .. جاري السكير ، وصل بالأمس قادماً من العاصمة. كما خمّنت فقد ذهب لزيارة قبر حبيبته. أحسست به وكأنه بدأ يسترد عافيته. عرفت ذلك من نظراته التي ابتدرني بها وهو يسألني عمّا حدث في غيابه، وكأنه يحاول أن يدفعني لسؤاله عمّا كان منه. فسألته مباشرة: "كيف كانت زيارتك لقبر حبيبتك؟" عندها استدار واستلقى على السرير وهو يقول: "آآآه يا هشام لأول مرة أحس بالصدق وأنا معها!!" غير أنه لم يكمل رغم رجاءاتي الكثيرة له. كلّ ما فعله هو ابتسامة هادئة وهو يخرج قارورة الخمر ولوّح بها في وجهي وهو يقول: "اليوم خمر وغداً أمر"

في طرقي إلى العمل، أمر على مدرسة ابتدائية لتحفيظ القرآن. ذلك اليوم، كانت ثمة عائلة تمر بسيارتها من أمامي، وفجأة توقفت السيارة ليُفتح الزجاج الخلفي لها، وإذا بي أمام فاتنة - أظنّها سعودية - لم تكن تخفي وجهها بعباءتها كما هي عادة السعوديات هنا. وجدتها تسألني عن أقرب ماكينة صرافة آلية ATM .. بلاهتي فقط هي ما جعلتني أنسى خارطة الحي الذي أعيش فيه منذ ما يقارب السنتين، ولأنها شعرت بذلك فقد ابتسمت قبل أن تعيد نفس السؤال على مسامعي. عندها خجلت من نفسي، وبدأت في محاولة استعادة ذاكرتي، تلفت قليلاً ثمّ أرشدتها إلى أقرب مكان يوجد به ماكينة صرافة.

بعد أن غادرت السيدة .. سألت نفسي: "ترى لماذا تسمّرت أمامها هكذا؟ ألأنها جميلة؟" ربما... "أم لأنها المرة الأولى التي أرى فيها سيدة حاسرة الرأس في هذه البلد الظالم أهلها؟" .. ربما. أيّاً كانت الأسباب فإنني وجدتني أبتسم - بل وأضحك - على نفسي وأمضي في هدوء. هذه البلاد يا حبيبتي تغيّر فينا أشياء كثيرة، حتى تلك الأبجديات التي نعرفها تصبح عسيرة الفهم هنا. أشياء تنقلب فجأة من العادات إلى المحظورات، وبالعكس. أتعجّب كثيراً عندما أرى سودانياً يصرّ على شراء منزلٍ ببابين (نسائي ورجالي)!!! أليس هذا غريباً .. لم نعرف مثل هذه الأمور من قبل!! وعن السيدة السعودية فأنا أعلم أنّك تثقين في كما يثق أحدنا بنفسه. أعلم أنّك لستِ من نوع النساء الذي يعمي قلبه الغيرة؛ لذا فإنني أخبرك بما يجري دون خوف.

ما زلت عند وعدي .. فهنالك أخبار سارة سوف أبلغك بها، ولكنني فقط بانتظار أن تتأكد هذه الأخبار. إنه أمر سوف يقلب حياتنا رأساً على عقب يا حبيبتي .. سوف نتغير جذرياً .. ومن يدري .. فقد يساعدنا على إنجاز أمور كثيرة كنّا قد أرجئناها. ادعي لي بالتوفيق يا حبيبتي .. فأنا أحوج ما أكون لدعوة صادقة منك. أعرف أنّك تواظبين على الصلاة أكثر مني، لذا أدعي لي في سجودك بأن يوفقني الله، بل يوفقنا نحن معاً.

إلى رسالة أخرى يا حبيبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق