الأحد، 6 ديسمبر 2009

حكايات لا يسمعها أحد


ولمّا لم يطق عليها صبراً، غافل هدوءها المستديم وقبّلها بشراهة فوضوية، لا تخلو من مسحة عبثية على الإطلاق، اعتمد على خيوط الإضاءة الخافتة التي كانت تعبر برشاقة عبر تقاطعات فولاذ البوابة الخارجية خلال جثة العتمة المسجاة على المكان الفاره، مرّر سبّابته بين عينيها وهو يتأملهما حتى كان يشعر بصرير حراشف بصمته على جلدها المليء بالبصمات، احتضنها بدفء مُوحش، وراح يُراقصها على أنغام موسيقى مُتخيّلة، ثم بكى طويلاً عندما شعر بقشعريرة تسري في جلده الذي كاللبّاد المبلول ثم فرد جريدة يومية كان يتأبطها، وفرشها على الأرض إلى جوارها تماماً وهو يلوّح لها برغيفين بائسين وكريات الطعميّة الباردة والقاسية.


حكا لها عن نكساته الكبرى التي مرّت به، أو مرّ بها في طريق حياته التي سار فيها بلا هدى وبلا هوادة غير مبالٍ بالنهايات والمصائر الحتمية، متكئاً على عصا الأقدار والمشيئية المطلقة، وحكا لها عن أزماته العاصفة التي رمته كدمية طفل مغرور ومدلل في الجانب القصي والمظلم من خزانة اللعُب والدمى القديمة المستهلكة، وهي تستمتع إليه بنهمٍ صامت جداً. هي أكثر النساء إنصاتاً له حين يتكلّم، وأكثر النساء تقديراً لتطرفه العاطفي حين يجهش فجأة بالبكاء وينهار أمامها وهو يحكي عن والديه اللذان عانيا كثيراً من أمراضه وما بذلاه من أجل ذلك مما يملكان، وموتهما قبل أن يتمكنا من رؤيته متعافياً أخيراً، هو لا يكاد يوقن أنه قد تعافى، ولكن التقارير الطبية تؤكد ذلك دون شك.


لا تحرمه من شيء على الإطلاق، حتى نزواته الفجائية مستساغة ومُبررة، عندما توخزه نسمة شتائية باردة فيُقرر أن يعبث بساقيها وأردافها، لا تغضب ولا تثور، بإمكانه أن يفعل أيّ شيء دون أن يستأذن، فقط يكفيه الشعور بالفضول ليفعل كل ما يُريد، ويُنهي الأمر وقتما يشاء حتى دون أن يُخالجه حياء المراهقين الأخير المنسكب من قنديل البصيرة والوازع الديني.


يُكلمها عن أحلام الحطّابين في أوشنمتو، ومعانات المزراعين في أراصير، وتهافت أبناء كربين على فضلات النخيل الزائف ليُقطّروا بنواتها خمراً تجعلهم يبتسمون بصعوبة بالغة متناسبة لمساحة الذاكرة الشعبية المليئة بالبراغيث والأشباح المتحدثة بالعربية. حكا لها عن رحلة نزوحه إلى الخرطوم، والطريق التي فقد فيها صلاح تبيدا، وعبد الجليل شاويش، وأكواخ الأمنيات الحُرّة التي أحرقها وراءه بين نهدي فانا أوشاري، تلك التي كانت الوحيدة التي داعبت خيالاته أول مرّة، ثم اختطفها حلم الاغتراب وأُرسلت زوجةً إلى رجلٍ آخر، وبلاد أخرى تفصله عنها بحرٌ أحمر!


كانت تستمع إليه جيّداً وهو يحتسي كأسه المُعتقة محدثاً إياها -بنبرة غرائمية- عن صناعة الخمر الشمالي وما تفعله بعقول الرجال، وكيف أن مُعاقرة الخمر رياضة روحية من نوع شديد الخصوصية، عبر ما لقيته من اهتمام على مرّ العصور:


"هذه الخمر مادة سرّية لم يعرف سرّها الحقيقي إلا الأنبياء؛ لذا حرّموها، هي تهب الصفاء الذهني كما يجب، وتجعلك أقرب ما تكون إلى نفسك، وهكذا كلما كنت قريباً من نفسك صرتَ قريباً من الله. الخمر ترفعك من حالة الوعي المخيف إلى حالة اللاوعي المطمئن، نحن لا نهرب من واقعنا، على العكس تماماً، هو الواقع الذي فرض علينا قسراً وكان يجب ألا يكون. الخمر يجعلنا متوازنين نفسياً رغم ما يبدو من ترنحنا الجسدي. لا يكذب السكران إذ يشرب، ولا يُنافق، ولا يخون. الخمر يهب السعادة لطالبها، ويهب الإنسانية. أنتِ صديقتي الوحيدة، ولهذا أخبرك بكل ذلك، فلا تخبري أحداً، فلا أحد يفهمني كما تفعلين."


كانت تستمع إليه وهو يهذي بتلك الكلمات كل يوم، وتسمح له أن ينام تحت أقدامها تاركاً إياها واقفة، حتى دون أن يسمح لها بأن تخفض يدها الممدودة دائماً كأغصان شجرة الهجليج الصلدة. وفي الصباح وقبل أن تستيقظ العصافير؛ يغمر نفسه بالماء ويستحم جيّداً ويتوضأ، ثم يُصلي الفجر في مكانه، ويتوجه إليها فيضمّها إليه ضمّة أخيرة قبل بزوغ الضجيج، ينزع عنها ملابسها قطعة قطعة، ويُلبسها ملابس أخرى جديدة، ويمسح بصمات يديه وقبلاته عن شفاهها ووجناتها المتورّدة، ثم يحملها إلى حيث يجب أن تكون خلف زجاج العرض قبل أن يبدأ زوّار المحل ويقفوا ببلاهة أمام المليكان المعروض، فلا تبوح لهم بحكايا الأمس.

هناك 4 تعليقات:

  1. الفاضل هشام
    كل عام وانت بالف الف مليون خير
    دعنى اقول لك انى لاول مرة امر بتفحص على صورتك الشخصية الجديدة التى صورت من الامام مباشرة وانت تنظر الى المصور بدلا من تلك القديمة التى تبدو فيها منهمكا متفكرا ...
    ولكن هذه المره وجدت انك تبتسم تبسم خفيف عندما وصلت الى النهاية ان التعابير التى تتميز بها صورتك الحالية لهى موافقة محببة لنهاية تلك القصة ..الرائعة ..اعجبنى النص حتى النخاع ان اللوعة والاشتياق والحنو الحميمى منذ البداية اعطانى جوا دافئا وحميميا مقبولا بل انسيابيامحبباجعلنى اندمج برضاواتفاعل مع المشاعر الانسانية الرقيقة..اعجبتنى كلمات ((لمل م يطق صبرا -غافل -شراهة فوضوية -ومسحة عبثية لهى ابلغ عبارات اشارات الى كمية التناغم والانسجام العاطفى الروحى والحميمى الجسدى معا

    هشام ساتوقف هنا واعود للتكلملة
    اعزرنى للطارئى
    لك ودى

    ردحذف
  2. الأستاذة الفاضلة: لمى هلول
    (ضيفة المدونة المستديمة)

    أنا رجل غير محظوظ على الإطلاق في صوري ولهذا فإن معظم صوري لا تعكس شخصيتي الحقيقية على الدوام ولكن لهذه الصورة الحالية حميمية خاصة لأنها أُخذت في مناسبة خاصة جداً .. أما بالنسبة للنص فهو نص فكرته قديمة جداً ولم أجد الوقت المناسب لإعادة صياغته وتقديمه في شكل قصة وربما جاءت هذه القصة متأخرة إذ أنها كانت متخمرة كفكرة في دماغي منذ أكثر من ثمانية أشهر أو يزيد تقريباً .. على العموم أنا سعيد بأن هذا النص قد نال قسطاً من إعجابك وأتمنى أن تتاح لك الفرصة لإعادة قراءتها مرّة أخرى

    كل عام وأنت بألف خير

    ردحذف
  3. الفاضل هشام لقد عدت ..ولكن السبب طارئى قد ضيع بقية ما كتببت ولم اعمل كوبى وضاع بقية الحديث واحزننى ذلك كثيرا .ولكن كانت العودة مرة اخرى
    من غير المعقول ان اترك ه1ا النص على بعض من الاحرف الغير مكتملة مع هذا الالق بصراحة الهمتنى ووجدتها اقصوصة كالجيز كيك الخفيف مع بناية نصية شديدة النقاءكما تتميز به كل اعمالك ..لقد لاحظت ان النص قد رمز للنهاية ولكن بطريقة مدسوسة اعجبتنى حيث لم تكن كافية لتقول الحقيقة بل بدت وكانها من ادوات النص الفخمة مثل هذا المقطع (يشعر بصرير حراشف بصمته على جلدها المليء بالبصمات، ))فى اشارة الى كون ان هذه انثى غير حقيقية ولكنى لا اعرف اعتبرته وصف مجازى الا ان لم يريحنى تماما حيث ان التلامس مع الانثى بهكذا قوة حسية جمعت الرقة مع الفوضوية غالبا لا تبعث على الصرير فى الانثى الحقيقية ولكنها ربما تضغط جلدها الذى غالبا ما يكون ناعما فترسم صبغة دموية خفيفة ولكن اربكتنى كلمة صرير مع جسدها الملىء بالبصمات حيث استغربت ايضا ان وصف انثى حقيقية ببصمات حيث البصمات تظهر جليا فى الشىء الصلب الناعم اكثر من المجعد الخشن ..وهللت لهذا الاكتشاف فى النص وفى مرة اخرى اندهشت لتلك الانثى وهنا كان التصفيق حارا من جانبى ووقفت للنص ورفعت قبعتى حين قرات ((وتسمح له أن ينام تحت أقدامها تاركاً إياها واقفة، حتى دون أن يسمح لها بأن تخفض يدها الممدودة دائماً كأغصان شجرة الهجليج الصلدة))اذ فكرت ماهذه الانثى التى تحرص بهكذا درجة...ونسبتها الى اقتناعى بان هنالك فعلا نساء محبات عاشقات الى درجة الايثار هذه النوعية نادرة لكنها غير منعدمة ((واعتبرته ذكاءوابداع كاتب ..
    ثم انتقلت الى جلوسه للاكل مع رغيف وطعمية حيث اعجبتنى بساطة الشخصية التى تجد نفسها فى راحة تامة وكاناها وحدها بدون ان تشعر معها بالغرابة او الشذوذ الجنسى رغم الممارسة الغريبة للحميمية الكاملة برضا واحساس متناغم لم يدل على اى انفصام نفسى بل توافق واقتناع مع الواقع بهكذا شكل ...من ناحية اخرى عبرت نصوص الرقص والانتقال للاكل ثم البكاء ثم الفضفضة ان صح لى تسميتها ثم النوم ثم بدت لى عقلانية الشخصية مما نفت عندى اتهاماه بالشذوذ ايا كان نفسى ام جنسى حين زكرت معاناة لوعة الفقد للابويين وارى الشخصية غنية بالحس الوطنى ايضا حيث تزكر الحطابين والمزارعيين والطريق الذى فقد فيه شاويش وتبيدا الملىء بالزكريات ولوعة الحب الاول والضياع الاول للامنيات والشعور الاول للفقد ((فى شخص فانا اوشارى ))ورحلة النزوح تلك هى البداية التى تفسر الفطام كل سلوكيات بطل النص وتعطيه بعض العزر

    ردحذف
  4. والحديث عن الخمر هو اشتياق لا يفارق البطل لانها من بيئته ومن ادواته ...والاشارة الى ان الانبياء يعرفون سرها تحمل البطل ان يكون ذو ديانة اسلامية او عاش فى بيئة فيها ديانتيين ..وما دام قد صلى الفجر فهاهو يعود الى الايمان الذى هو ينقص ويزداد ولكنه لا يزول ..
    هنالك شىء جميل اخر فى النص ...العلاقة الازلية التى تعشعش وتسكن فى مخيلة اى رجل عن المراة لعل الكثيرون لا يتحدثون عنها ولكن نصك اشار اليها بكل تلقائية فكل رجل يحب ان يجد انثى خارج الزمان والمكان انثى تقدر اى تطرف عاطفى بدون الولج فى الواقعية كالمنكال ففى اشد الخيالات جنوحا للرجال يتمنون انثى كهذه المنكال تشابهه فى القوام والقوام المنحوت بعناية جمالية رقيقة تعطى انطباع الصبايا واليافعات من الاناث وان تكون ايضا امراة صامته ليست الصمت الخرسى كما فى المنكال ولكن امراة لا تغضب تحتوى ولا تصرح باى شاردة او اشارة تعبيرية تحجم الرجل فيما يريد ان يفعله معها ..انثى تحرك الشعور والاطمئنانا تتحدث ولكن لا تفتح فمها تغرى وتشجع ولكن لا تصتنع التحرك امراة روحية متمكنة الانوثة وقد صاغ النص هذا باقتدار ((بإمكانه أن يفعل أيّ شيء دون أن يستأذن، فقط يكفيه الشعور بالفضول العاطفى الفوضوى ليفعل كل ما يُريد، ويُنهي الأمر وقتما يشاء حتى دون أن يُخالجه حياء المراهقين الأخير المنسكب من قنديل البصيرة والوازع الديني.
    واختم كلماتى بان اكثر العلاقات نجاحا والقا وانسجاما هى تلك التى تتوافر فيها هذا الالتقاء الفطرى بنفس المستوى والتوازى الروحى والجسدى ..

    كما اود الاشارة الى فخامة النص حيث انك حينما تزكر تلك المناطق السودانية مثل ((اوشنمتو –اراصير –كربين ))فانك تلقى بها فى النص من قبيل الفخامة العالمية وليس المحلية السودانية الفقيرة مما تعطى ههذ المناطق حقها الجغرافى المتغافل عن جماله كل العالم

    مع محبتى واعتزر للاطالة

    ولكنى وضعت لك ما جعلنى استمتع بقراءتى وليست هى مجرد مرورا سريعا
    ساظل اذكر تلك القصة مع نصوصها ..
    ولازلت اتبسم وانا اراه يعيد النكال حيث كان ..ولا احد يعرف القصة الا المنكال ..

    لد ودى مجددا ايها الكاتب

    ردحذف