الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009

رسالة مفتوحة إلى المسئولين عن صناعة السينما في مصر

فحوى الرسالة وخلاصتها: "توقفوا عن الاستهزاء بالنوبيين والسودانيين"

عندما نتكلم عن مصر فإننا نتكلم عن حضارة عريقة ضاربة في الجذور ودولة لها كيانها ودورها السياسي الفاعل في المنطقة العربية، نتكلم عن بلد العلماء والأدباء والمفكرين والفنانين العظام والأشهر في المنطقة والذين أثروا الساحة العربية بفنونهم وفكرهم لسنوات طويلة ومازالوا. نتكلم عن بلد أخرج عشرات بل مئات العباقرة والمفكرين والمبدعين في كافة مجالات الفنون، إلى الدرجة التي تجعل من الصعب حصر هؤلاء في رسالة كهذه، نتكلم عن بلد أخرج نوابغ تبوءوا مراكز عليا ونالوا أوسمة لم ينلها عالم أو مفكر أو أديب عرب قط، فلا ننسى جائزة نوبل التي تشرفت بها الدول العربية والعرب جميعاً عندما حصدتها مصر مرتين متمثلة في جائزة نوبل للأدب والتي نالها العبقري نجيب محفوظ (1988م)، وجائزة نوبل للكيمياء والتي أحرزها العالم أحمد زويل (1999م) ولا ننسى أنهما كانا العربيان الوحيدان اللذان يحصلا على هذه الجائزة.

ولم تفتأ هذه البلاد تُنجب العباقرة والمبدعين في كافة المجالات، أولئك العِظام الذين تركوا بصمات واضحة وأثروا في وجداننا ووجدان العالم العربي أجمعه فكانوا القدوة وكانوا المنارة الحقيقية للباحثين عن الحرية والحياة الكريمة، ولا ننسى الدور العظيم الذي لعبته مصر بقادتها ومفكريها في إشعال فتيل التنوير في العالم العربي في كافة المجالات فوجدنا في عالم الفن والسينما والتمثيل أساتذة ونوابغ في كافة العصور أمثال: نجيب الريحاني ويوسف وهبي وإسماعيل ياسين وفاتن حمامة وفؤاد المهندس وكمال الشناوي وفردوس عبد الحميد وفريد شوقي وعادل إمام وأحمد زكي ويحيى الفخراني وغيرهم الكثير الكثير، وفي مجال الغناء والتلحين برع جهابذة الفن والموسيقى العربية الأصيلة: فريد الأطرش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة وغيرهم الكثير، وفي مجال الكتابة والأدب نجد أسماء كثيرة لامعة زخرت بهم المكتبات العربية لحقب زمنية طويلة أمثال المنفلوطي وطه حسين ونجيب محفوظ والعقاد وعبد الحميد الكاتب وغيرهم الكثير وكذلك في مجال الإعلام فقد كان للمصريين نصيب الأسد فبرز عدد من أساتذة الإعلام والصحافة ملئوا الآفاق وكذلك الشعراء والمبدعين في كل المجالات الأدبية والفكرية والسياسية.

وأعتبر نفسي وأبناء جيلي من جيل التسعينيات من الذين تأثروا كثيراً بالمبدعين المصريين الذين أثروا الساحة منذ أن تفتقت بذرة وعينا الأولى فتعلقنا بكتاباتهم وإبداعاتهم وفنونهم التي كانت أكثر العلامات البارزة في المنطقة العربية وإحدى دواعي افتخارنا وافتخار العرب جميعاً بما تحققه هذه الدولة عبر أبنائها النُجباء من ثقافة وإبداع وأدب وفكر. أحببنا عبد الناصر (1918-1970م) واعتبرناه قائدنا، وعلّقنا آمالاً كُبرى وعظيمة على خليفة أنور السادات (1918-1981م) وبكينا عند النكسة (1967م) كما فرحنا عند النصر (1973م)، وكُنا ننظر إلى مصر دائماً بعين المتفائل بمستقبل مشرق وزاهر، فلطالما كانت مصر قبلة الباحثين عن المعرفة والثقافة والفكر بكافة أشكاله وصنوفه.

ونحن كنوبيين كان لنا تاريخ وافر مع مصر، فشاركنا في صناعة تاريخها بكل ما أُوتينا من قوة، ساهم معنا المصريون في رد عدوان الدولة المهدية على الأراضي النوبية (1889م)، وساهمنا معه في ثورة عرابي (1881م)، وقام السد العالي (1968-1971م) على أكتاف شبابنا وأضرحة أسلافنا وبقينا أوفياء لهذا العهد والتاريخ الذي لا يُمكن أن يتجزأ أو يتقسّم أبداً، واعتبرنا أنفسنا على الدوام شركاء النجاح وحلفاء النصر كما كُنا من قبل شركاء الهم وحلفاء الحرب والمحنة.

لم نزل حافظين لهذا الود حتى عندما افترقت أراضينا وباتت تُهدد أمن من فيها من بشر ودواب ونبات، وبقينا على الخط الفاصل بين السودان ومصر مُعبّرين بذلك عن صدق ولائنا وعمق محبتنا، رضينا بالانقسام من أجل استقلال مصر تارة ومن أجل وحدة السودان واستقلاله تارة أخرى، وكنا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فلم نشتر صداقة أحد على حساب عداوة الآخر، وظل جيل كامل من النوبيين في مصر كما كانوا منذ أزمنة الاحتلال البريطاني والعثماني وحتى ثورة يوليو 1952م، وتداخلوا في نسيجها الاجتماعي بشكل كامل، جزء كبير من أهلنا النوبيين تعود بهم جذورهم إلى مصر، وأنا خير مثال على ذلك.


بلد بهذا التاريخ وبهذه العراقة لابد وأن تكون في مقام هذا التشريف الذي تستحقه؛ لاسيما في عصر تتفاقم فيه مخاطر العولمة والغزو الثقافي والفكري، فتكون بذلك ملاذاً للمثقفين والمبدعين والمفكرين، لا أن تكون موئلاً للفتن، وشرارة للعنصرية التي تجاوزها العالم والتاريخ بعد شق أنفس عبر كفاح دموي مستميت دام ردحاً من الزمن، لتجعلنا نؤمن بأننا نعيش حالة من الردة الفكرية والحضارية تُرجعنا إلى عهود الظلام والاستغلال المقيتة.

إنني إذ أكتب رسالتي هذه بشكل فردي، فإنني أُخاطب ضمائر أبناء الشعب المصري بكافة طوائفهم وتوجهاتهم الفكرية والعقدية، وأتوجه إلى الحكومة المصرية والجهات المسئولة عن صناعة السينما في مصر مطالباً بوقف المهازل التي تتم باسم الفن، فالفن لم يُوجد إلا ليكون جسراً للتواصل بين الثقافات والحضارات ولم يكن في يوم من الأيام وسيلة للنيل من كرام الشعوب والاحتقار من شأنهم، الفن وسيلة راقية للتعبير عن الحضارات وتوصيل الثقافات لا التهكم إلى شعوب العالم والاستهزاء بهم.

إن ما تحاول السينما المصرية إيصاله وترسيخه للمشاهد المصري بشكل خاص والعرب بشكل عام عبر بعض الأفلام لهو إساءة بالغة للشعب السوداني عامة وللشعب النوبي بشكل خاص، ضاربةً بذلك عرض الحائط كُل القيم الإنسانية النبيلة والتاريخ الثقافي والحضاري لهذا الشعب ولمُنجزاته الكبيرة، ومتجاهلة لاحترام مشاعر هذه الشعوب عبر تشويه صورتها لدى المشاهد العربي وذلك بعدم التزامها بالموضوعية في الطرح الهادف.

هنالك عشرات الأفلام التي تناولت الشخصية السودانية والشخصية النوبية بما يُسيء إلينا كشعب تربطنا مع مصر روابط تاريخية وثقافية لا يُمكن تجاوزها أو تجاهلها على الإطلاق، وكُنا نتواقع من هذا الشعب احتراماً مقابل الاحترام الذي نبذله لها بأن يرفض تلك الإساءات التي تُقدمها السينما وعلى شاشات التلفزيون، وكُنا نتوقع من صُناع السينما في مصر مراعاة هذه النواحي كذلك.

إن شخصية السوداني التي جسّد دورها الممثل سلمان عيد في فيلم (عيال حبيبة) والذي قام ببطولته المطرب حماده هلال والفنان حسن حسني والفنانة الشابة غادة عادل له دور أقل ما يُوصف به إنه دور سمج للغاية وليس متصلاً بحبكة الفيلم الدرامية على الإطلاق، فماذا يُضير الاستغناء عن هذه الشخصية؟ بماذا تخدم هذه الشخصية أحداث الفيلم؟ ولماذا أصر الفيلم على وضع تلميحات ساذجة وسخيفة فيما يتعلق بهذه الشخصية ولون بشرتها؟ ولماذا يُضطر ممثل مثل هاني رمزي إلى طلاء وجهه باللون الأسود ليُجسّد دور الصُفرجي أو الخادم في فيلم (ولا في المية أبقى) الذي شاركه في بطولته الممثل أحمد آدم والفنانة وفاء عامر؟ أنا لا أحاول الإشارة إلى هذين الفيلمين بالتحديد فهنالك العديد من الأفلام التي تناولت الشخصية السودانية والشخصية النوبية وحاولت أن تُنمطهما على الدوام وتُقدمها للمشاهد العربي بصورة غير لائقة؛ فالمُتتبع للشخصية النوبية أو السودانية في السينما المصرية يجدها شخصية هامشية تدعو إلى السخرية والضحك، كتلك الشخصية التي أقحمها المُخرج الشاب خالد يوسف في فيلم (الريس عمر حرب).

إن القضية تتجاوز حدود النُكتة وخفة الدم التي يشتهر بها أخوتنا المصريون، إلى محاولات ترسيخ مفهوم ترغب السينما المصرية في ترسيخه تجاه الشخصية النوبية والسودانية على حدّ سواء، بل وتجاه ذوي البشرة السوداء بشكل عام، وإنه لمن الصعب حصر الأفلام السينمائية التي حاولت إرساء هذه الأفكار العنصرية البغيضة فنجد فيلم (حاحا وتفاحة) الذي قام ببطولته الفنان طلعت زكريا وشاركته البطولة الفنانة المتألقة ياسمين عبد العزيز وإيحاءات الفيلم الذي تناول شخصية الصومالي والطريقة الهزيلة التي تناول بها الفيلم تقديم هذه الشخصية وأبنائها الذين صوّرتهم في أبشع صورة، وكذلك فيلم (اللي بالي بالك) بطولة محمد سعد والفنان حسن حسني وشخصية الخادمة السودانية التي ظنّ محمد سعد ابنتها هي ابنته والتعليقات الساخرة التي ألقى بها في وجه الطفلة، وكذلك شخصية الخادم الذي لم يكن له أيّ دور في طول الفيلم وعرضه إلا لقطة عنصرية أراد بها المخرج أن يستجدي ضحكات المُشاهدين فجملة مثل (إيه الليل الهاجم ده) والموجه إلى الخادم الأسود في مقابل جُملة (إيه الشمش المنوّرة الدنيا) للفتاة البيضاء الحسناء لهو إيحاء رخيص جداً وعنصري.

هنالك العديد من الأفلام والبرامج الكوميدية التي تتناول الشخصية السودانية والنوبية بطريقة ساخرة ومُشينة للغاية، وأنا آمل أن يتم وضع حدّ لهذه المهزلة الحقيقية؛ لاسيما عندما لا تكون الشخصية المقدمة خادمة أصيلة للحبكة الدرامية أو متعلقة بها، وإنما إضافة كوميدية ساخرة القصد من ورائها النيل من هذه الشخصية وتنميطها في أدوار مُحددة مُسبقة وهي شخصية الخادم والصُفرجي والساذج، وأود الإشارة هنا إلى أنّ السينما والدراما المصرية تُمارس الفعل نفسه مع شخصيات أخرى مثل شخصية الصعيدي مثلاً وتُقدمه بطريقة ساخرة، ولكنني هنا أتكلم فيما يتعلق بالشخصية السودانية والشخصية النوبية، رافضاً في المُطلق أسلوب السخرية بالشعوب والأجناس البشري.

نُريد للسينما المصرية أن تُمارس دورها التنويري الكبير المُلقى على عاتقها دون أن تنجرف إلى هاوية العنصرية والسخرية من الشعوب والأجناس الأخرى، فنحن أحوج ما نكون لسينما واعية ومسئولة، حتى على المستوى الكوميدي فإننا نفتقد المنطق الكوميدي والموضوعية في طرح الموضوعات الكوميدية، فالسخرية من السودانيين والنوبيين ليست كوميديا مُضحكة على الإطلاق. إن الساحة السينمائية تشهد بروز أسماء لامعة وموهبة بالفعل ونتوقع لها تقديم سينما ودراما حقيقية تُمارس دورها المنوط بها في التنوير وطرح المشكلات المجتمعية ومُعالجتها بعيداً عن الابتذال والإسفاف؛ فهل تجد رسالتي هذه أذناً واعية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق