الخميس، 10 مايو 2012

قراءة نقدية في رواية (أغنيات لمارغريت)

غلاف الرواية


أصدرت الروائية لبنانية الأصل، والمقيمة في القاهرة (لنا عبد الرحمن)، روايتها الثالثة بعنوان (أغنيات لمارغريت)، الصادرة عن الدار العربية للعلوم والنشر (ناشرون). وهي رواية من القطع المتوسط جاءت في 115 صفحة، بطباعة فاخرة، وجيدة، ولوحة غلاف جميلة ومعبِّرة. قصة الرواية مستوحاة من قصة أواخر حياة الروائية الفرنسية مارغريت درواس (1914 - 1996) مع عشيقها يان أندريا. جاءت الرواية محمولة بلغة شعرية كثيفة، حتى أنها بدت كخاطرة مطولة. الحقيقة أنني أحسستُ عند قراءتها أن (حدوتة) الرواية في نفسها ليست بذات قيمة أو اهتمام عند الكاتبة، فالفكرة الأساسية تمثلت، كما أرى، في تجسيد الأفكار الفلسفية التي حملها النص في متنه، وكذلك إبداء الامتنان لقصة العشق الخرافية، والغريبة من نوعها التي كانت بين مارغريت دوراس ويان أندريا، وكأن الكاتبة حاولت لفت انتباهنا إلى هذه القصة؛ لاسيما في زمن كالذي نعشه.

إن صحت هذه القراءة فإننا سوف نتخذها مبررًا لكثير من ثغرات الرواية السردية، وتلك المتعلقة بالحبكة. هنا، حين نتكلم عن الحبكة، فإننا لا نتكلم عن تسلسل الأحداث في الرواية، وإنما عن الأحداث نفسها، كل على حدة. ومن الجائز، بالنسبة لي، بعد قراءة هذه الرواية، أن أدعي بأن كتابات لنا عبد الرحمن، تندرج، بارتياح شديد، في قائمة روايات الحرب، أو أدب الحرب. ويبدو أن ثيمة الحرب، تأخذ حيزها المعقول لدى الكاتبة، لدرجة تجعل منها خلفية تصويرية، تصور من خلالها، وعبرها أحداث رواياتها، فروايتها (تلامس) تناولت، أيضًا، قضية الحرب، إلا أننا نلحظ في تناول عبد الرحمن لثيمة الحرب معيارًا مختلفًا، فهي إذ تتكلم عن الحرب، لا تنساق وراء تقارير إخبارية عن عدد الضحايا، وبشاعات الموت، وروائح الدم، والإنهيارات، وتلقف الحقائق التاريخية ذات المنحى الوثائقي، وإنما تتناول الإنسان، وحياته داخل هذه الدائرة الملتهبة. فيبدو الأمر وكأنها تحاول نقل الحرب لنا بعيون المنكوبين من هذه الحرب، عبر تقصي أنماط حياتهم خلالها.

الروائية : لنا عبد الرحمن

الحبكة - الحدوتة
تدور أحداث الرواية في منطقة (الصنايع) اللبنانية في ضواحي بيروت، والتي اتخذ المئات من البيروتيين من حدائقها معسكرًا لإيواء اللاجئين. تعيش زينب (بطلة الرواية) مع والدتها وأخويها، في بيت خالها المسافر، هربًا من الحرب. تزدري الأم هذا الوضع، وتتباكى على ماض أرستقراطي قديم، ويرحل الأخ الأكبر في لامبالاة واضحة، فيما تنشغل زينب باستقاء قصة حياتها، ومعناها مما يحدث ويدور حولها في المنطقة، مستفيدة مما قرأته من روايات مارغريت دوراس، وكتاب عشيقها يان أندريا عنها. تبدأ في تخليق جوها الخاص، عبر كتابتها لرسائل لهذه الشخصية التي تأثرت بها، وألهمت بقصته الغرامية الغريبة والمتفردة مع امرأة تكبره بسبع وثلاثين سنة، واستمر في محبتها خمسى عشر عامًا حتى توفيت، وظل وفيًا لحبها حتى بعد ذلك. تعيش حالة من عدم الاتزان العاطفي، عبر قصص حب فاشلة، ربما كان هو دافعها للوقوع في غرام هذه القصة الغرامية والمتفردة بين شاب يضج حيوية، وبين امرأة عجوز تتمنى ألا يكون موتها رحيمًا.

كنت من قبل قد قرأت رواية (تلامس)، وعبرت عن إعجابي بقدرة الكاتبة في تنميط شخصيات روايتها بطريقة متوافقة ومستمرة بين معطياتهم النفسية وردود أفعالهم، وعبرت، كذلك، عن إعجابي الكبير بقدرة الكاتبة على التجسيد، فقلت: "لا أريد أن أنهي استعراضي النقدي هذا عن رواية (تلامس) دون أن أؤكد إعجابي بقدرة الكاتبة على وضع تفاصيل حميمة ودافئة على المكان والأشياء، وقدرتها على رسم شخصيات رواياتها بكل براعة، فكانت الشخصيات شخصيات مرئية بالفعل، وبإمكاننا فعلًا أن نراهم، وأن نتعايش معهم بكل حرية، بل ونتمكن من التكهن بردود أفعالهم"، وأضفت أخيرًا: " وهذه المقدرة في الحقيقة هي مقدرة احترافية من الجيد للكاتبة أن تحافظ عليها، وتحسن استغلالها في أعمالها القادمة."

في هذه الرواية لم ألمس اهتمامًا كبيرًا لدى الكاتبة لا بتنميط شخصيات روايتها، ولا بتجسيدهم، فتركتهم لنا أشبه بأشباح هائمة في فضاء النص، رغم بعض المحاولات غير الجادة في توصيف بعض الشخصيات، ولكنها جاءت في سياق السرد وليس كواجب سردي في الأساس. هذا الأمر أعزوه للفكرة الأساسية من وراء كتابة النص كما تقدم من قبل، ولكن السؤال الذي طرحته على نفسي بعد قراءة الرواية: "هل هذه رواية فعلًا؟"

من الملاحظ في هذه الرواية، تعلق زينب الشديد بجدتها لأبيها، وهو التعلق الذي قد يبرر على أنه، جانب من الافتقاد المعنوي والمادي معًا لوالدها المتوفي، وربما كان الدافع المعنوي لهذه المحبة متمثلًا في الإحساس بالأمان والافتقاد الغزير لهذا الإحساس، فقد كانت تشعر زينب بالأمان في حياة والدها، وبدأت تفقد هذا الإحساس بمجرد وفاته، ولم تكن تستشعر به إلا مع جدتها التي تسمت على اسمها. فنقرأ مثلًا: "... أصوات سمعتها من قبل حين مات والدها، وحين ماتت جدتها زينب التي أحبتها جدًا" (الرواية: ص76)

هذا الشعور المتنامي تجاه الجدة، يبدو مفهومًا من خلال علاقتها بأبيها الذي توفي في وقت لاحق على أحداث الرواية، وبإمكان القارئ العثور على ملامح شخصية هذا الأب عبر قلب صورة الأم، ففي الواقع ثمة عاطفة عكسية تشعر بها زينب تجاه والدها، عيى ضوء العاطفة المفقودة بينها وبين أمها في المقابل، ونقرأ ذلك على لسان البطلة: ".. مثلها أعيش في ألم بسبب أم قاسية." (الرواية: ص63) وكذلك: "بعد موت أبيها، كانت زينب تخاطب الله كثيرًا، بحثًا عن أب." (الرواية: ص109) وكذلك نقرأ: "ها أنا اقترب من عامي الثلاثين وأدرك أني لم أحصل على الحب الذي كنت أرجوه، ولم تتقاطع أحاسيسي بشكل تام مع أي أحد." (الرواية: ص76)

فمن الواضح إذًا، افتقادها لرجل في خياتها، لعاطفة قوية تحل محل هذه المفقودة، لاسيما مع غياب هذه العاطفة من قبل الأم، وربما وجدت زينب في علاقتها مع أبيها (وجدتها كذلك) تعويضًا عن عاطفة الأمومة التي افتقدتها بشدة، وهو مبرر كاف، كذلك لخوضها تجارب عاطفية غير ناضجة بحثًا عن هذه العاطفة، فنجد أنها كانت على علاقة بثلاث شخصيات، بدت باهتة جدًا في الرواية وهي: شخصية حامد (ابن عمها)، وشخصية د.عبدالله، وشخصية مازن. كما أنها شخصية زاخرة بالعاطفة، وهي بحاجة إلى شخص تفرغ فيه عاطفتها الأمومية القوية، ولذا نقرأ: "ما إن مست أجفانه حتى أجهش بالبكاء في صوت مسموع، غمرها حس أمومي نحوه" (الرواية: ص68) وكذلك "سامر يصغرها بعشر سنوات، لكنه يبدو أصغر من عمره الحقيقي، لذا تحس زينب نحوه بأمومة دائمة." (الرواية: ص69) فبحثها عن الحب في حقيقته له دافعان رئيسان: الرغبة في تعويضها عن فقد الأب (الأمان)، وفي الوقت نفسه، تفريغ شحنة العاطفة الأمومية لديها، والتي كانت تفرغها مع أخيها سامر، وكذلك مع الدكتور عبد الله أيضًا. وبين التعويض والتفريغ، تعيش الشخصية قصة صراع محتمدة جدًا.

إذًا في المجمل يمكننا الحكم على شهصية زينب كفتاة شرقية بأنها شخصية مهزوزة، ومفتقدة للعاطفة، وشخصية مثل هذه، عادة، تلجأ إلى خوض تجارب جنسية، عبر بواب الحب للتعريض عن هذا الفقد، وهو ما تمثل بوضوح في علاقتها بالدكتور عبد الله، وكذلك موقفها من قضية الإيمان بالله، رغم ارتدائها للحجاب، ولكنها تعلم تمامًا أن الحجاب لم يكن، في مفهومها الخاص، سوى مسألة إثبات هوية لا أكثر، ولذا نقرأ على لسان الراوي: "لكن منذ أعوام طويلة توقفت عن التخاطب معه (=الله)، ظلت قريبة منه لوقت طويل حتى اكتشفت أها بعيدة جدًا، معزولة في شرنقة من تخيلاتها وأوهامها عنه. عرفت أن عليها البحث من جديد عن طريق حقيقة توصلها إليه. ظلت لسنوات تفكر أن ذهابها إلى الجامع، وحضور دروس الدين، والاستماع لمواعظ الحاجة "منى"، وكل ما تقوم به من استسلام لإرادة أمها، وعجم الجهر بأي رفض هو نوع من الرضى، التماهي مع القدر، ترك دفة القيادة له. لكن هذا كله كان وهمًا كبيرًا. (...) تكسرت الجسور بينها وبين الله، وتوقفت عن مخاطبته كما كانت تفعل في ليال كثيرة. ولم يبق معها من تلك المرحلة سوى حجابها الأبيض الذي صار جزءًا من ذاتها لأنها تحتمي به، كما لو أنه يقيم حاجزًا بينها وبين الآخرين." (الرواية: ص109-110)

شخصية كهذه من الطبيعي أن تلجأ إلى معالج نفساني، لأنها شخصية قلقة ومهزوزة، وهذا ما فعلته زينب بالتحديد عندما قررت اللجوء إلى الدكتور رامي (المعالج النفساني)، إذًا فنحن أمام شخصية غير سوية نفسيًا، ورسم وتعقب شخصيات كهذه، في الرواية، مسؤولية خطيرة ومرهقة للغاية، وقد أحسنت الكاتبة في تتبع هذه الشخصية بنجاح، ولكنها أفلت الخيط في نهاية الرواية التي جاءت مستعجلة على نحو مفاجئ وصادم حسب ما رأيت.

حاولت الكاتبة الانتصار لشخصية زينب المنكسرة، لذا نجد لها بعض حالات التمرد التي تظهرها الشخصية من حين لآخر، كما نقرأ: "في هذا العام توقفت عن التدريس، تمردت على قرارات أمي، قلت لها: "لا، سأبحث عن عمل آخر" للمرة الأولى أجرؤ على الرفض." (الرواية: ص79) وكانت حالات التمرد الطفيفة التي تنتاب شخصية زينب مستمدة من الحرب، ومستلهمة منه بطريقة أو بأخرى، وفي هذا نقرأ: "لكن زينب لن ترد عليها، بل ستحدق في عينيها مباشرة بلا خوف، لأنها تمتلك الآن رأسًا جديدًا ابتدعته الحرب." (الرواية: ص84)، إذًا فزينب استلهمت من الحرب قوة، ربما كانت تبحث عنها، في بحثها عن أبيها،

الروائية الفرنسية: مارغريت درواس
التكنيك
الحقيقة أن الكاتبة اتبعت في رواياتها هذه تكنيكًا غريبًا وجديدًا، على الرواية العربية، حسب قراءاتي المتواضعة، وهذا التكنيك اعتمد كُليًا، على أسلوب تبادل الأدوار بين الأصوات الروائية، فنجد أن ثمة ثلاثة مستويات للأصوات داخل الرواية:
(1) صوت الراوي، فيما يتعلق بزينب عندما تحكي عن نفسها، وواقعها الأسري والجغرافي.
(2) صوت الراوي، فيما يتعلق بزينب عندما تكتب رسائلها ليان أندريا.
(3) صوت الراوي، فيما يتعلق بمارغريت وعلاقتها بيان أندريا

تتكرر هذه المستويات باستمرار على طول الرواية، متنقلة بينها بخفة ورشاقة، لم تبد مخلة على الإطلاق. وهو، على حد علمي، أسلوب تكنيكي جديد، وجيد، من شأنه أن يكسر رتابة السرد المطوّل. ربما احتاجت الكاتبة لتخليق وابتكار هذا التكنيك استنادًا على فكرة النص نفسه، فهو نص يحاول تسليط الضوء على المستويات الثلاث معًا، وهذا، على الأرجح، ما دفعها إلى استخدام هذا التكنيك، وهذا الأسلوب المبتكر والجديد كليًا. حاولت الكاتبة التفريق بين هذه المستويات على النحو التالي:
المستوى (1) خط عادي
المستوى (2) خط مائل
المستوى (3) خط عريض.

وبدا من الجيد أنها لجأت إلى هذا الأسلوب في التفريق، لأنه كان ليحدث إرباكًا لدى القارئ؛ لاسيما غير المعتادين على الانتقال السريع والمفاجئ بين مستويات النص. والحقيقة أنه قد يخطر في ذهن البعض سؤال مشروع: "لماذا تلجأ الكاتبة لهذا التكنيك؟" وهو سؤال يكتسب مشروعيته من حداثة التكنيك نفسه، وعدم ميل الروائيين إلى استخدامه في السرد عادة، ولكن ثمة إجابات كثيرة عل هذا السؤال، فمن الواضح، لدي على الأقل، أن الكاتبة لم تجهز نفسها جيدًا لكتابة هذه الرواية عندما بدأت في كتابتها، وأنها ربما تفاجأت بإلزامات الكتابة واشتراطاتها واستحقاقاتها، فكان هذا الأسلوب نوعًا من الهروب من رتابة السرد المتواتر. لقد شعرت في أحيان كثيرة أن الكاتبة تضطر للجوء إلى رسائلها ليان أندريا أو الكتابة عن مارغريت للتخلص من الخوض في تفاصيل قصة لم تشأ الكتابة عنها أصلًا، فصة زينب وتفاصيل أحداث هذه القصة، في حقيقتها، ليست سوى مدخل إلى العالم الحقيقي ااذي أرادت الكاتبة الكتابة عنه، ولكن ورغم ذلك فإننا نجد بعض الإجابات التي تبرر لكتابتها رسائل إلى ليان أندريا، والكتابة عن مارغريت كذلك، فنقرأ:
"أنت لا ترد على رسائلي، وأنا سأستمر في الكتابة، لأني لا أكتب لك، أكتب عنك، وعن مارغريت، وعني" (الرواية: ص41)
"لكني لم أملك أبدًا قدرة جيدة على الكلام، كانت تنقصني الفصاحة" (الرواية: ص57)

"مثلها أعيش في ألم بسبب أم قاسية، وأخ متسلط، هل أدركت ذلك؟ وكما فعلت أنت وكتبت لها رسائل كثيرة، ها أنا أكتب لك." (الرواية: ص63) في هذا المقتبس مقاربة بين شخصية زينب ومارغريت، ومثل هذه المقاربات يمكن أن نجدها أو نستشعرها في الرواية، كما نقرأ مثلًا: "انهالت عليها الأم بالصفعات والشتائم، والأخ وقف يتابع المشهد مستلذًا بصراخ أخته. هي كانت تعرف أن هذا ما سيحدث لكنها تصر على عدم الرضوخ لرؤى أمها في التعامل مع الحياة" (الرواية: ص73)، فهاهي البطلة متماهية مع بطلتها الشخصية (مارغريت) في علاقتها المتوترة جدًا مع أمها، وكذلك باشتراكهما في اللجوء إلى عشيق سري، كما أن من المقاربات كذلك خوضهما لتجارب الموت والفقد، فكما فقدت زينب والدها، فكذلك فقدت مارغريت أخاها الأصغر، الذي حبته كثيرًا وبكته بكاءً شديدًا. وكذلك نجد تبريرًا آخر لكتابة زينب رسائلها إلى يان، فنقرأ: "سأكتب لك لأحافظ على ذاكرتي من الفقد، من الدمار، من الخيبة (...) لذا سأكتب لك، كي لا يغيب زمني، كلا لا يتلاشى تمامًا." (الرواية: ص70) فهنالك دوافع ذاتية إذًا في كتابة زينب لهذه الرسائل، فهي تريد المحافظة على ذاكرتها من التلاشي والاضمحلال. ثمة مقاربة أخرى نجدها بين زينب ومارغريت، فكلاهما روائيتان، وهواجس الكتابة قد تكون واحدة بينهما، ومن أجل ذلك نقرأ: "ماذا أفعل الآن بكل نصوصي التي كتبتها قبل الحرب؟" (الرواية: ص71) ورغم اشتراكهما في هذه الميزة إلا أن ثمة اختلافًا بينًا بين هاتين الشخصيتين، ففي حين نقرأ على لسان البطلة: "أبطالي لا أعرف ماذا حل بهم؟ هل هم النازحون، أم ماتوا تحت القذائف، أم مازالوا تحت الأنقاض؟ مضى منذ أسبوعان وأنا أنتظر عودتهم" (الرواية: ص71) نجد أن وضع مارغريت مختلف تمامًا مع أبطال رواياتها، فهي لصيقة بهم أكثر زينب، ولهذا نقرأ على لسان مارغريت نفسها: "أود كتابة المزيد من الكتب، ما يزال أبطالي ينادون عليّ ليلًا. يان .. أتدري أن الوقت الذي أمضيه وحيدة هي ساعات نومي القليلة، في صحوي يملأون رأسي بثرثرتهم وضجيجهم." (الرواية: ص51) إضافة إلى أن ثمة نقاط التقاء كثيرة تتقاطع فيها كل من شخصية مارغريت وشخصية زينب، وفيما يلي عرض سريع لهذه النقاط على النحو التالي:
1. الإحساس بالعزلة والغياب:
- "حكت زينب لساندرا عن إحساسها أنها في سجن، ورغبتها في الذهاب للقاء مازن لكنها تخجل من الحب فيما الناس تموت" (الرواية: ص45)
- "وسط الحاضرين، بينما تنظر إلى كارمن في ثوبها الأبيض، أحست زينب أنها غائبة" (الرواية: ص47)
- "وحدي كنت أجهل طقوس الاحتفال بالعيد. وحدي، ولم أكن أعرف أني سأظل وحدي" (الرواية: ص21)
- "منذ سنوات حين تدعو أصدقاءها من باريس إلى أمسية عشاء في منزلها، تظن أنها ستهرب من ثقل العز الكثيفة، لكن حين يحضرون، بعد أن يبدأ الصخب يطفو في المكان، وينتشر الأصدقاء في المطبخ والصالون، متنقلين بين البيت والحديقة،تجد نفسها أكثر عزلة" (الرواية: ص24)

2. لجوئهما إلى الكتابة:
- "لأنها تحس أن جسدها مكبل، وأن ساعات آخر الليل، قرابة الفجر حين تكتب، هي الساعات الوحيدة التي تقدر أن تطفو فيها بعيدًا، نحو الأعلى" (الرواية: ص45)

3- صراعهما مع فكرة الإيمان:
- "... أن يبقيا معًا في زمن أبدي مفتوح، ينهي صراعها مع الإله المجهول" (الرواية: ص58)


ثيمات الرواية
هنالك ثيمات أساسية ولكنها متداخلة ومتقاطعة في هذه الرواية، فنجد، مثلًا، ثيمة الزمن، عنصر أساسي في الرواية (الرواية: ص35)، وكذلك بإمكاننا استشعار جدلية البرودة والحرارة، وهي متكررة في أكثر من مكان في الرواية، ولكنها تطل برأسها بوضوح أكثر في الرسالة التي كتبتها زينب ليان أندريا (الرواية: ص49). ونقرأ في الرواية "مارغريت ماتزال تأتي إلى قبل الفجر بساعتين، غاضبة أحيانًا، ومبتهجة في أحيان أخرى، تطلب مني ألا أتركك وحيدًا، وأن أكتب لك كل يوم عن البحر الذي أحبته." (الرواية: ص64) وهذا المفتبس وإن كان فيه مقاربة جيدة ووثيقة بين شخصية زينب ومارغريت، إلا أنها، في الوقت ذاته، به إشارة إلى نقطة هامة، وهي (قبل الفجر بساعتين) وهي وقت زيارة مارغريت لشخصية زينب، ووقت سماعها لأصوات الموسيقى والعزف على البيانو الذي كانت زينب تسمعه دائمًا في مثل هذا الوقت بالتحديد.

كذلك هنالك ثيمة العزلة والغياب، وربما لن أجد أدل على ذلك مما جاء في صفحة (58-59) من الرواية: ".. أن يبقا معًا في زمن أبدي مفتوح، ينهي صراعها مع الإله المجهول، مع الوحدة، الوقت، العزلة التي تتوق إليها وتهرب منها، ثم كيق تريد العزلة وها هي الآن هنا مع يان أندريا، يمشيان معًا على الشاطئ، ويستمتعان لأزيز الكون؟ كذب، لا توجد عزلة مع الآخر، وجود الآخر ينأى بفكرة العزلة بعيدًا، وفي حال تقبلنا حلول هذا الآخر في حياتنا فهذا يعني أننا تنازلنا عن تلك العزلة المزعومة."



اللغة:
جاءت لغة الرواية زاخرة بالفلسفة، والوجدانيات حتى بدت الرواية وكأنها خاطرة مطولة أو مجموعة خواطر، والحقيقة أن كل الرواية، فيما عدا بعض المقاطع، سارت على ذات الوتيرة تقريبًا، ولكننا نجد نفسًا شعريًا طاغيًا في الكثير من المقاطع السردية. اللغة الفلسفية في الرواية ربما تكون الثيمة تبريرًا لها، فثيمة الرواية فرضت على لغتها أن تنحو منحى فلسفيًا؛ لاسيما في الحديث عن الحرب، والموت، والعزلة. كما أن شخصية قلقة كشخصية زينب لا تنظر إلى الحياة كما ينظر إليها أي شخص عادي، جعل من الواجب استخدام لغة فلسفية تبرر لرؤيتها المغايرة للكون والأشياء. ولكن الحقيقة كانت هنالك بعض التدخلات غير المبررة من الراوي في كثير من المواطن، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:

- "تتلفت الأم في أرجاء المنزل، تتحسر بنقمة على الحياة المرفهة التي ضاعت منها، لأن زوجها نقلها –من وجهة نظرها- إلى مستوى اجتماعي أقل." (الرواية: ص9) الجملة الاعتراضية في هذا المقتبس هو من تدخل الراوي في سيرة الرواية، وهو تداخل غير مقبول، كان من المفروض أن تقول مثلًا: "لأن زوجها نقلها إلى مستوى اجتماعي أقل، هكذا كانت تقول دائمًا" فتعزو الأمر إلى الشخصية، وينأى الراوي عن التدخل. ثم ما علاقة زوجها ووضعه الاجتماعي بمجيئها إلى بيت أخيها؟ لماذا شعرت بهذا الشعور في هذا الوقت بالذات؟ هل هو من اقترح عليها السكن في بيت أخيها مثلًا؟

- "كما لاحظت نقاط نمش قليلة على ظهر اليد تظهر مع التقدم في السن" (الرواية: ص16) عبارة (تظهر مع التقدم في السن) هو تدخل من الراوي للتفسير غير مقبول، كان بإمكان الكاتبة إحالة هذه الإشارة إلى واقع السرد فتقول مثلًا: "كما لاحظت نقاط نمش قليلة على ظهر يدها موحية بتقدم السن" أو شيء من هذا القبيل

- "هذا ما ستدركه في ما بعد" (الرواية: ص21)

- "كان وسام يعتقد دائمًا أنه يستحق حياة أفضل، لكنها طفيلية تستند إلى ما يقدمه الآخرون له، وهو لا يجد في هذا أي خطأ" (الرواية: ص69)

- "سترى في وقت ما أن قصتها مع مازن لها أكثر من باب" (الرواية: ص60)

- "لكنها ستعرف مع الوقت أن (مازن) كان حقيقيًا" (الرواية: ص61)

كما أننا نجد أن الكاتبة لم توفق، في رأيي، في استخدام الحواشي، فلا يُحبذ غالبًا استخدام الحواشي في الروايات والأعمال الأدبية الخيالية، التي يكون الغرض الأساسي منها المتعة القرائية، فالحواشي من ناحية تخرج القارئ من جو الرواية لينتبه ويتتبع حواشيها، ومنا ناحية ثانية تشعر الكثير من القراء بالحرج من مثل هذه الحواشي لأنها تفترض غباءهم وعدم معرفتهم. حتى وإن كان القارئ لا يعرف فعلً، فعليه أن يبحث عوضًا عن إيجاد الإجابات جاهزة، بينما تكون الحواشي، غالبًا، في الأعمال الأكاديمية الصرفة، إضافة إلى أن أغلب الحواشي لم يكن ثمة تبرير لوجودها، فعلى سبيل المثال:

- الحاشية في ص5 الحاشية ليست ضرورية لأنها موضحة في متن الرواية وبالتحديد في ص60

- الحاشية ص13 الحاشية غير صحيحية، فلول فاليري هو الشخصية الروائية لرواية (انخطاف لول ف. شتاين) ولا حاجة للحاشية في هذه الفقرة إذ أنها مفهومة في سياقها العام.

- الحاشية في ص19 غير موفقة لأنها مفهومة من السياق.

- الحاشية في ص23 سبق الإشارة إليها في الحاشية الأولى في الرواية.

- الحاشية في ص43 ليست دقيقة فهيروشيما في السرد المقصود به مدينة هيروشيما الشهيرة، وهي لا تحتاج إلى حاجة للتعريف بها عن طريق حاشية، فهي (=مارغريت) لم تتذكر صور الجثث في روايتها عن هيروشيما وإنما صورة الجثث في حادثة هيروشيما نفسها. ثم غن السرد يحتوي على ذكر كتابة مارغريت عن هذه الحادثة، وإن كان لابد من وجود حاشية فكان يجب أن كون بعد جملة: "كتبت كثيرًا عن تلك الصور(*) التي عذبتها طويلًا."

- الحواشي في ص48 لم أر لها أي داع، كان بالإمكان استخدام الأسماء الحقيقية للأمكان كما هي (بيروت الغربية) و (بيروت الشرقية) و (الضاحية الجنوبية) ولا أدري لم هذا الترميز، هل تستخدم هكذا فعلًا في لبنان؟

ثمة بعض الثغرات الطفيفة في الرواية، وهي التي تحدثنا عنها في بداية هذه القراءة، وهي من التي يمكن أن نجد لها مبررًا، كما تقدم، فمثلًا، نقرأ في الرواية قولها: "وجعلها تظل طوال عمرها من سكان بير العبد في الضاحية الجنوبية" (الرواية: ص9) والحقيقة أنها لم تسكن معه في بير العبد طوال عمرها، ولكن منذ أن تزوجته فقط. كان على الراوي ملاحظة هذا الأمر والاحتياط له، حتى لا تتعارض هذه الجملة مع الجملة التي تليها مباشرة "... في قلب بيروت، حيث تربت وكبرت" ففترة تربيتها وحتى كبرت هي جزء من عمرها الذي لم يحتسبه الراوي.

وكذلك نقرأ: "غرفة مستقلة ليخفي علب البيرة وزجاجات الويسكي عن عيون الآخرين" (الرواية: ص10) فإنه من المحيّر فعلًا أن يتمكن وسام (الأخ الأكبر) من الحصول على البيرة والويسكي في أزمنة الحرب حيث تنعدم السلع الأساسية والضرورية ناهيك عن سلع مثل البيرة والويسكي، ثم نقرأ مثلًا: "لأن وسام حين يضطر للإقامة في المنزل لأيام لا يتورع عن إشعال سيجارة حشيش في غرفته. هو متأكد أن الأم لن تجرؤ على إغضابه، وستغض الطرف لأنه سيهددها بمغادرة البيت نهائيًا" (الرواية: ص15) فهذه الجملة تناقض الجملة السابقة، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يضطر إلى إخفاء علب البيرة وزجاجات الويسكي؟

ونقرأ كذلك "تجرأت زينب على الدخول إلى (غرفة البنت القتيلة)" (الرواية: ص43) في حين أن هنالك إشارة في ص7 إلى أن اسم الغرفة حسب اتفاق العائلة اسمها (غرفة القتيلة) وما جرت عليه العادة، دائمًا، يكون اسمًا علمًا يجب استخدامه كما هو، وإن كان المقصود هو مجرد الوصف، وليس الإشارة إلى اسم علم فالأولى كتابتها دون استخدام الأقواس.

حضور الجسد
الحقيقة أن إحدى ثيمات النص الأساسية هي ثيمة الجسد، ولكنني أحببت أن أفرد له مساحة خاصة، لأن له حضورًا كثيفًا للغاية في هذه الرواية، ولا تكاد تخلو صفحتان متتاليتان من ذكر للجسد، غير أن الجسد كثيمة، لا تعني في غالبها الجنس، وإن كانت كذلك في بعض المواطن، ولكنها تمثل إشارة إلى الوجود المادي المقابل للتلاشي، والغياب واللتان هما، في المقابل، ثيمتان في هذه الرواية، وقد يأتي في بعض الأحيان للإشارة إلى الذات والأنا، وقد حاولت أن أحصي المواطن التي تم فيها ذكر الجسد، فوجود الأمر شاقًا للغاية، فاكتفيت بذكر هذه الشواهد، على أن الفكرة التي رغبت في تثبيتها هنا هي أن فكرة الجسد المشتهى، أو الجسد الجنسي، كان له حضور في مقابل الموت كرغبة متنازع عليها، جلبها الحرب، وجعلها حاضرة بقوة، فكأن الجنس هنا أصبح مقابلًا حتميًا للموت، ومرادفًا للحياة، وربما لهذا لجأت زينب إلى الجنس مع بعض الذين عرفتهم، ولكنها في الحقيقة، إنما فعلت ذلك كنوع من الانتقام من والدتها والتي تم تغييبها نهائيًا في الرواية، وذلك بالإشارة إليها دائمًا بلفظ (الأم) دون ذكر اسمها كما في بقية شخصيات الرواية.

- "كأن يقوموا بالاغتسال في طرف الخيمة مداراة لأجسادهم العارية" (الرواية: ص9)

- "تحديدًا حين تضطر زينب لتبديل ثيابها في وجودها وهذا ما تتجنبه دومًا، فالأم لا تفوت فرصة لانتقاد جسد ابنتها الرفيع من دون تناسق، والشعر الذي يغطي ساقيها وعلى فخذيها" (الرواية: ص9)

- "لكن الآن من الممكن أن أموت، أن يتناثر دمي على الأرض؛ أن أكون رقمًا في سلسلة الضحايا. هل سأتأكد حينها أني كنت مرئية، كنت حية، وكان لي جسد لم أعرف كيف أحبه" (الرواية: ص23)

- "في العلاقة مع يان، كما في العلاقة مع جسدها، لا تنتظر سوى عطاءً آنيًا" (الرواية: ص24)

- "هو أيضًا سيرتكب جسده نحوه خيانات مختلفة" (الرواية: ص25)

- ص25 "لو منحها جسدها بعض الصمود، الوقوف عند حد معين من الخسارة، يمكنها أن تستمر أكثر، وأن تكتب أكثر" الكلام عن مارغريت

- ص27 "كما لم يعد هناك سرير غريب يحتوي جسدها إلى جانب جسد رجل كانت تحس أنها تتلاشى تمامًا في وجوده."

- ص32 "نكتشف أننا من الممكن أن نعيش مع الخراب. مع خراب المدينة، وخراب الجسد"

- ص32 "هل ستحكي لي يومًا عن جسد مارغريت، عن رؤيتك لهرمه، لخرابه!"

- ص34 "اليوغا جعلت جسده مشدودًا، وحين تلامسه تجده لينًا"

- ص35 "في تلك الأثناء يبدو هاجسها الأول التحرر من سيطرة جسدها الذي تحس بثقله، والاستسلام الكامل لحالة من الوعي المفتوح على احتمالات شتى" الكلام عن زينب (الجسد = المادة) – (الوعي=الروح)

- ص38 "عرفت زينب أن هذا الطفل هو الابن المفقود، فقد انتابتها قشعريرة والأم تندفع راكضة نحو الولد تعانقه، وتتحسس جسده"

- ص41 "في الليل، وقفت مارغريت طويلًا أمام المرآة، نظرت إلى نهديها، كانا صلبين ومتماسكين في وقت ما، في زمن بعيد. كانت على ثقة أنها أجمل جزء في جسدها، لكنهما لم يعودا كذلك، هي لم تعد هي، هذه السيقان التي تظهر عروقها النافرة، غريبة عنها، هذا الجلد المتغضن ليس جلدها، متى حدث له كل هذا التحول؟"

- ص42 "وحين يحصل كل هذا تنتبه مارغريت للخيانات اليومية التي يرتكبها جسدها. هل هناك أبشع من خيانة يدك حين تنوي الكتابة، ارتعاشة المفاصل، تمرد الأصابع عن إمساك القلم؟ أنت ضعيف، واهن، لا تملك كلمة آمرة على أعضائك، مع مرور الوقت عرفت (ماغي) –هكذا كان يناديها دانيال- بأنها تهدهد جسدها، وتحايله، تتوسله ألا يصل في خيانته حدًا لا رجوع منه."

- ص45 "كانت السباحة بالنسبة لها استسلامًا كاملًا للجسد، أن تحيا غبطة خاصة من خلاله، غبطة تبعثها الحرية. حرية العومالذي يتماهى مع حالة التحليق التام. لكنها غير قادرة على الحرية الآن، لأنها تحس أن جسدها مكبل."

- ص51 "أحيانًا أكون ضائعة، بلا هوية، أحس أني بلا وجه، جسد فقط .. يتحرك بلا ملامح حادة تميزه"

- ص61 "منذ تلك اللحظة التي تلاصقا فيها على الكنبة، حين شدها إليه وصارت ملاصقة لجسده، وبعد أن طوقها بذراعه اليمنى وربت على ذراعها تربيتات متتالية، أحست بهدوء، بسكينة، بأمان"

- ص61 "كانا يسمعان موسيقى (تشايكوفسكي) وهما في السرير، يلامس جسدها بحنو هائل (...) كل شيء يتناغم مع خط القبلات الصغير الذي يبدأ من سرتها ويرتفع حتى خط الزغب الأسمر بين نهديها. "

- ص66 "كانت تستمع لحكايا صديقتها عن العاشق الذي يغسل لها جسدها في حوض الاستحمام (...)"يداعب أصابع قدميها الصغيرة وهو يحاوب سؤالها إن كانت تعرف أحدًا غيره."

- ص72 "منذ ذلك الصباح حين تركت على كتفي ذرات الماء البارد، واقتربت أنت لتلامسها بأصابعك، مررت بسبابتك على عنقي، قبلتني عند أعلى الكتف وخلف أذني ومضيت."

- ص73 "وحين تلتقي بهذا العشيق السري، لا تتمكن من نسيان لمساته على جسدها الصغير، أحبت مداعباته كثيرًا، كما أحبت احتضانه لها."

- ص81 "حكت له أيضًا عن عاشقها الأول الذي لا تعرف ماذا حل به الآن (...) كان يفرك جسدها بيده، يغسل حلمتيها الصغيرتين، كما كان يمسح الدماء عنها في أوقات عادتها الشهرية، ويكتفي بتقبيل جسدها وملامسته بغرام، وهو يقول لها إن الحياة تتجدد في جسدها الآن."

- ص83 "وقفت زينب تنظر إلى جسدها في مرآة الحمام ...."

هناك 4 تعليقات:

  1. الشركة المتحدة للانترنت ...
    عاملين اية ... ابقوا سلموا على م. مصطفى

    ردحذف