الأربعاء، 8 يونيو 2011

التربية الديمقراطية وأدب الاستقالات

دائمًا، وكغيرنا من الفاشلين، نحاول أن نضع العربة أمام الخيل وليس العكس، ولهذا فنحن فاشلون ومتأخرون عن غيرنا من الأمم المتقدمة. وفي كثير من أفكارنا الشفاهية اليومية -التي أسماها "مهدي عامل" بالفكر اليومي في كتابه العبقري "نقد الفكر اليومي"- نتناول عيوبنا المتجذرة فينا دون أن نبدي ولو محاولة بسيطة أو حتى يائسة لتغييرها. في إحدى المراكب العامة تناول أحدهم أخطاء سائقي المركبات العامة، وكيف أنهم لا يبدون أبسط مبادئ الأتكيت والذوق العام في إعطاء الأولوية المرورية للغير أو حتى احترام حقوق المُشاة، وقال في خاتمة تعليقه النقدي بصيغة ساخرة وناقمة: "ولهذا فنحن لن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام" وكثيرًا ما نسمع مثل هذه التعليقات في الشارع السوداني، والسؤال الحقيقي الذي يطفو في مثل هذه المواقف: "هل كان هذا الناقد ليتصرّف كما يُملي عليه ضميره الأخلاقي لو وُضع في ذات الموقف، أم كان ليتنصل من موقفه النقدي ويتشبث بأدبيات الأنامالية المستشرية في ثقافتنا اليومية؟" هذا المثال البسيط قد يكبر حتى يُصبح نموذجًا لواقعنا الحياتي، ومُعبّرًا عنه بكل صدق، فنحن لا نتملك أدوات الوعي السلوكي بالقدر الذي نمتلك معه أدوات الوعي النقدي، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على غياب الوعي الفلسفي في ثقافاتنا السلوكية اليومية، وهو ما يتمظهر، لاحقًا، في شكل سلوكيات خاطئة وقابلة للنقد؛ بل ومستهجنة ومُعبّرًا عن حجم الكارثة التي نعيشها ونتعاطى معها بشكل يومي تقريبًا، ولهذا فإننا شعب ناقد ومُنظّر بالدرجة الأولى، فجميعنا نفهم السياسة ونفتي حولها بذات القدر الذي نفتي فيه حول كرة القدم، وعلوم الطيران، والفيزياء التطبيقية، والطب والصحة العامة، والآداب والفنون، ولكننا، في ذات الوقت، نقع بغباء في ذات الأخطاء التي ننتقدها في الآخرين.

واحدة من أهم مشكلاتنا الأساسية، حسبما أرى، أننا لا نؤمن بما نعتقد به؛ كما أننا لا نحترم ما نؤمن به من قناعات وأفكار، وهذا ما يُوقعنا في تناقضات سلوكية ومبادئية، وهو ما يبدو لنا جليًا في طريقتنا في إدارة صراعاتنا الحياتية الاعتيادية، حتى في أبسط المشكلات التي تواجهنا؛ سواء في البيت أو في الشارع أو حتى على مستوى الممارسة السياسية أو فيما هو أدنى من ذلك أو أكبر؛ فالرجل الذي يُنادي بحقوق المرأة ويُصارع من أجل رفع الظلم والاضطهاد والتمييز المجتمعي عنها، هو أول من يقف وراء قهرها وقمعها في بيته، بشكل يُظهر تسلّطه الذكوري في تعامله مع زوجته أو أخته، مستندًا في ذلك على سُلطة ذكورية منحته السيطرة على أفكارها وسلوكها، وحتى قراراتها إن لزم الأمر، ولهذا فإن مجتمعنا يعج بالتناقضات المبادئية التي ترمي بظلالها، آخر الأمر، على سلوكنا وقناعاتنا وحتى أفكارنا العامة والقيمية، وقد يبدو ذلك جليًا في موقف المرأة السودانية من قضايا المرأة داخل السودان وموقف الرجل منها، فكثيرون هم من يبرزون في المجتمع كنشطاء في حقوقها، ولكنهم داخل بيوتهم لا يُجسّدون إلا الثيمة الاجتماعية التي تجعل منهم أشباه آلهات أمام نسائهم، وسؤال من شاكلة: "هل ترضى أن تفعل أختك كذا وكذا؟" أو "هل ترضى أن يُفعل بزوجتك كذا أو كذا؟" يضعنا في محك حقي أمام قناعاتنا التي ننادي ونتحلى بها ظاهريًا، وتجلعنا أمام سؤال مبادئي لا مفر منه: "هل نحن نؤمن بالقضايا أم نحترمها؟" والفارق بين الاعتقاد والاحترام جوهري وواضح لدرجة مُخجلة لمن لا مبدأ له.

وعلى مستوى حياتنا السياسية؛ فإننا نلمح أثر هذا التناقض جليًا وواضحًا، بحيث أننا لا نعود نملك صلاحية نقده أو ملاحظته؛ لأنه، بكل بساطة، قد أصبح جزءًا من تركيبتنا النفسية والاجتماعية، فنحن قد لا نعيب على الشخص اختلال معاييره الأخلاقية في موقفين متشابهين بدعوى الفارق بين "العام" و "الخاص" وهو ما يتلخص في مدى قربنا أو بعدنا عن المفهوم الفلسفي للخير والشر، أو حتى فهمنا الخاص للأخلاقي واللاأخلاقي، وكلاهما ينبع من ذات المصدر، فمن يدعو إلى حرية المرأة في جسدها ينطلق في ذلك من موقفه العام من المرأة وحرياتها، بينما قد لا يتخذ ذات الموقف المؤيد عندما يتعلّق الأمر به هو شخصيًا، وهو ما يجعل عددًا لا بأس به من النساء يفقدن الثقة في وعي المثقفين، أو فلنقل "أشباه المثقفين"، أو لكي نكون أكثر دقة فلنقل "المثقفين الطارئين"، فهم في حقيقة الأمر ليسوا مثقفين حقيقيين، وإنما هم يتخذون من ثقافتهم سُلمًا يرتقون به نحو أهداف تخصهم، أو في أفضل الحالات، يُلمّعون به أنفسهم أمام زمرة يرغبون في الاختلاف والتمايز عنهم، فالثقافة الحقة هي التي تنسجم بوعي مع مجموعة الأفكار المبادئية وترتبها، لتتمظهر لنا، آخر الأمر، في شكل سلوك متسق ومتناغم مع ما نحمله من أفكار وآراء ومعتقدات.

وحين يُعبر زمرة من القادة السياسيين، السودانيين (بصرف النظر عن توجههم الفكري والأيديولوجي) عن رغبتهم الجادة والعميقة للوصول إلى الديمقراطية كهدف وغاية فإنهم لا يفعلون إلا كما يفعل واضع العربة أمام الخيل؛ لأنهم لا يعلمون أن الممارسة الديمقراطية ليست سوى أثر لوعي ديمقراطي أصيل وراسخ، يبدأ باحترامنا لمفهوم الديمقراطية في جوهرها، ومفهوم الاختلاف قبل كل شيء، وحين يتم تشوييه هذا المفهوم فإن القيمة الأساسية للديمقراطية لابد أن تكون مشوهة بالضرورة، فلا فائدة تُرجى من ديمقراطية لا يتم احترامها وتلقينها لتصبح سلوكًا يوميًا مُعتادًا، قبل أن يتم تطبيقه على مستوى الممارسة السياسية؛ تمامًا كالبسملة قبل الأكل، والتشميت بعد العطس، والتيمّن في كل شيء كما حرص آباؤنا وشيوخنا على تلقيننا ذلك منذ الطفولة، فالديمقراطية وعي اجتماعي قبل أن تكون ممارسة سياسية، وهنا يكمن مربط الفرس، وهو ما لا يُريد قادتنا السياسيون أن يفهموه أو أن يضعوه في اعتبارهم.

واحدة من المطالب الأساسية التي يجب تبنيها من قبل الناشطين السياسيين والحقوقين: استبدال ما يُعرف بمادة "التربية الوطنية" من المناهج الدراسية بمادة "التربية الديمقراطية" فالتربية الوطنية كمادة مدرسية لا تخلق لدى الفرد حساسية إيجابية تجاه وطنه إلا من الناحية الشخصية أو الخاصة، في الوقت الذي يجب فيه على المواطن أن ينظر إلى الوطن من الناحية العامة وليس العكس كما هو الحال الآن، فنحن لا نتعلّم حب الأوطان في المدراس، ولا نتلقن الانتماء إليه أو نكوّن عاطفتنا الوطنية خلف طاولات الدراسة، بل إنه شعور عام وجمعي نكتسبه بالممارسة اليومية والتفاعل الاجتماعي والسياسي المباشر، ولهذا فإننا نرى المسؤولين في دول العالم الأول يُقدمون على تقديم استقالاتهم في حال فشلهم في إدارة أعمالهم ومسؤولياتهم على الوجه الأكمل والسليم، انطلاقًا من مبدأ الوطن العام، وليس الوطن الشخصي، في الوقت الذي لا تحرك فيه الكوارث العِظام أجفان المسؤولين في عالمنا الثالث، لأنهم ببساطة ينظرون إلى الأمر من وجهة النظر الشخصية وليست العامة، فعندما يُصبح الوطن مفهومًا خاصًا، يُصبح العمل السياسي مُجرّد محاولات لحماية المصالح الشخصية، وعندها فقط لا تعود للمسؤولية المباشرة قيمة أخلاقية تذكر؛ فوزير المواصلات الذي لا يستشعر التقصير والمسؤولية عندما تتكرر الحوادث المرورية، نجده يُلقي اللائمة على من هم أقل منه رتبة، لأنه يرى أن منصب "وزير" ما هو إلا منصب تشريفي وليس تكليفي؛ وبالتالي فهو لا يستشعر أي مسؤولية على الإطلاق، ببساطة لأنه، ونحن كذلك، لم يتربْ، منذ البدء، على مبدأ تحمّل المسؤولية أو النظر إلى الأمور في إطارها العام، وليس الخاص فقط، يستوي في ذلك التقدّميون مع الرجعيين على حدّ سواء، لأن البذرة واحدة في الأساس، فالأمر هنا ليس سلوكًا إجرائيًا بقدر ما هو انعكاس لثقافة راسخة ومتجذرة، متناسقة مع مجموعة الأفكار القيمية والمبادئية التي يحملها المرء ويؤمن بها ويحترمها قبل كل شيء.

نحن إذًا أمام معضلة مُركبة؛ فنحن لا نحترم الديمقراطية لأننا لم نفهم أن الديمقراطية عقيدة قبل أن تكون سلوكًا وممارسة، ولم نفهم أنها سلوك وممارسة قبل أن تكون هدفًا سياسيًا استراتيجيًا، وأيّ دعوى للمناداة بالديمقراطية قبل تحقق شروطها واستحقاقاتها، يُصبح ضربًا من الاغتيال؛ إذ أننا بذلك إنما نحاول اغتيال مفهوم الديمقراطية، وتشوييهها قسرًا في أخيلة العامة، وحتى النخب، وهو ما جعل قطاعًا كبيرًا من الناس لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يتشجعون لها، حيث أنهم لم يروا، في الواقع، إلا الصورة المشوّهة منها، وفي ذات الوقت فإننا لا نمتلك أدوات الوعي الكافية التي تجعلنا نفرّق بين ما هو عام وبين ما هو خاص، وهو أمر يرتبط، في المقام الأول، بمدى امتلاكنا للوعي الفلسفي الذي يُتيح لنا، ليس مجرّد التفريق بين العام والخاص فقط، وإنما القدرة على تصنيفهما التصنيف السليم، والالتزام باستحقاقات كل تصنيف على حدة.

الوطن ليس نزعة ذاتية خاضعة للتقييم والتقدير الشخصي والخاص، إنما هو مفهوم عام، يجب أن يتسق فيه الوعي مع السلوك والممارسة، ولا يُمكن أن يتم ذلك إلا من خلال تربية مؤسسة واكتساب مُباشر، لا يتخلله أيّ شائب يحمل عنصر التناقض والمفارقة. لابد أن نستشعر قيمة الديمقراطية كمفهوم عام وشخصي، حتى نتمكن من التفريق بين ما هو عام وبين ما هو شخصي، فلا يكفي أن نحمل أفكارًا ديمقراطية، إذا لم نكن نملك أدوات تطبيقها على أرض الواقع، أو حتى دون أن نملك إيمانًا عميقًا بالفكرة الديمقراطية نفسها، من حيث الجوهر العام وليس المصلحة الشخصية، فالديمقراطية قد تخدم المصالح الشخصية لفرد أو حزب أو جماعة ما أحيانًا. عندها فقط يُمكننا أن نتوقع أن يُقدم مسؤول ما على تقديم استقالته احترمًا للمسؤوليته التي حملها ولم يستطع أن يوفر أسباب نجاحها بكفاءة، دون أن يُلبس ذلك لبوسًا شخصيًا، لأن خدمة الوطن ليست أمرًا شخصيًا خاصًا؛ بل هي واجب لا تُؤخذ إلا في إطارها العام، ولكن دون ذلك فإنه سوف يتعاقب علينا أولئك الذين يرون الوطن جزءًا من فناء دارهم الخلفي، وأن ما يجري في ذلك الفناء أمر عائلي لا يحق لنا أن ننتقده أو أن نقدّم ملاحظاتنا عليه، أو حتى أن نطالب بمحاسبتهم على أمر اقترفوه أو أمر لم يقوموا به على الوجه الأكمل؛ هذا إن قاموا به أصلًا. وهكذا فقط سوف لن تقتصر ملاحظاتنا النقدية لمجريات حياتنا اليومية على مجرّد الكلام الإنشائي المجاني الذي لا يكون الغرض منه التغيير الفعلي للواقع السلبي، بل ستكون تمظهرًا لوعي أصيل، وإيمان راسخ بالجوهر الذي نفتقد إليه في كل ما نقوم به وما نفعله، وعندها سيكون تقديم استقالة المسؤول سلوكًا ثقافيًا وحضاريًا بدهيًا؛ تمامًا كخلع الحذاء قبل الدخول إلى دور العبادة.

المصدر: جريدة أجراس الحرية
الثلاثاء 31 مايو 2011




هناك 3 تعليقات:

  1. السلام عليكم
    جميعا عساكم بخير و أريت يكون حالكم زين و عال العال
    لم اسمع بالرواية لا قبل عام حاولت الوصول لهشام ادم لكن دون فائدة خلاصة الموضوع هذه الرواية مسروقة و هشام ادم ليست مؤالفها ربما يكون ناقلها كاتبها فقط من خط اليد لجهاز الكمبيوتر و غير اسم القرية و بعض الأوصاف و اضاف سطور بسيطه من عنده و حشرها خشرا مما تسبب في عدم تماسك الرواية و ضعفها و حللها.
    متأكد بأن هشام ادم سرق الرواية و يوجد شهود.

    ردحذف
  2. السلام عليكم
    جميعا عساكم بخير و أريت يكون حالكم زين و عال العال
    لم اسمع بالرواية لا قبل عام حاولت الوصول لهشام ادم لكن دون فائدة خلاصة الموضوع هذه الرواية مسروقة و هشام ادم ليست مؤالفها ربما يكون ناقلها كاتبها فقط من خط اليد لجهاز الكمبيوتر و غير اسم القرية و بعض الأوصاف و اضاف سطور بسيطه من عنده و حشرها خشرا مما تسبب في عدم تماسك الرواية و ضعفها و حللها.
    متأكد بأن هشام ادم سرق الرواية و يوجد شهود.

    سواح سوداني
    اوسلو
    سبتمبر ٢٠٢٠

    ردحذف
  3. السلام عليكم
    جميعا عساكم بخير و أريت يكون حالكم زين و عال العال
    لم اسمع بالرواية لا قبل عام حاولت الوصول لهشام ادم لكن دون فائدة خلاصة الموضوع هذه الرواية مسروقة و هشام ادم ليست مؤالفها ربما يكون ناقلها كاتبها فقط من خط اليد لجهاز الكمبيوتر و غير اسم القرية و بعض الأوصاف و اضاف سطور بسيطه من عنده و حشرها خشرا مما تسبب في عدم تماسك الرواية و ضعفها و حللها.
    متأكد بأن هشام ادم سرق الرواية و يوجد شهود.

    سواح سوداني
    اوسلو
    سبتمبر ٢٠٢٠

    over7snow@gmail.com

    ردحذف