السبت، 12 يونيو 2010

رحيق البابايا

الحقيقة أنه لم يكن بمقدوره تجاوز محنته الصحية إلا عبر ارتشاف عصارة أوراق البابايا التي كانت آبا تقطّرها له من فمها، وصلواتها أمام حطب البروسوبس المحترق، ولم تزل صورتها محفورة بعناية على كهف ذاكرته مع بقايا وجوه وتماثيل نصفية لرجال ونساء القرية، ودقات الطبول الأفريقية في طقس وثني شديد الخصوصية، واحتفالات تجّار القوافل العائدين من واحات جغبوب، وصيّادي الفيلة، وعمّال مناجم الذهب البائسين وأصوات ضحكاتهم المتعالية التي كانت تأتيه كصرخات أرواح شريرة حبيسة قوارير سليمان العتيقة.

استيقظ دوتسي وقد تدلت آبا الفاتنة من سقف ذاكرته كتمائم كاهن القرية المسحورة، بسمرتها الزنجية الداكنة، وعينيها الحمراوين، وقرطيها الضخمين كأوراق زهرة الليلك، وشعرها الذي كأغصان شجرة البن. تدلت في رشاقة بنات آوى ووداعة إله الحصاد، نحيلة كأوراق شجرة الطرفاء، وجميلة كثمرة دراق، لتطبع قبلتها الأفريقية الساخنة على جبينه الموشوم، هامسةً في أذنيه بسحر أنثوي يألفه: "سنلتقي قريباً .. أعدك!"

لم يكن في حسبانه أنه سوف يستغرق كل ذلك الوقت ليستوعب ما يجري، وكأنه عرض سينمائي استثنائي لن تتكرر. كان الصوت واضحاً هذه المرة إلى الحد الذي جعله يلتفت وراءه مباشرة، وكان بوسعه أن يتذوق مرارة رحيق البابايا في فمه. لم تكن ككل المرات السابقة، فقد كان يشعر بوجودها في الأرجاء. جال ببصره في أرجاء غرفته سيئة التهوية وهو يُسابق أنفاسه التي كانت تعوي في صدره كأصوات عجلات قطار بخاري قديم.

كان واضحاً بجلاء أنه لم يستطع نسيان نكساته الكبرى كما كان يُخطط، أو ربما أنه تمنى أن يستيقظ ذات يوم ليكتشف أنه قد عاد بلا ذاكرة مزعجة أو تواريخ، وكل صباح عندما يكتشف أنه لم ينس شيئاً من تاريخه يُردد في يأس: "حياة البائس كنوم الكفيف!" ثم يتوجه كآلة تعرف مسارها اليومي إلى مصنع الدونات حيث يعمل كحارس أمن. لم يشأ طوال سنوات اغترابه أن يستشعر انقسامه البيّن، ذلك الذي جعله أشبه بضواري سيرك زاباتا التي نسيت تواريخ غرائزها الفطرية، واكتفت بكونها حيوانات للفرجة وإسعاد الأطفال وإيواء عشيقين متخاصمين.

لاحقته صورة آبا وهي تقطّر في فمه عصارة البابايا كلبوة تلعق جراح ليثها في امتنان. تخيّل كيف يُمكن أن تزدري منظره المُحتقر بملابسه النظيفة وقبعته التي تخفي شعره المجعّد وحذاءه الذي من جلد البافلو واقفاً على مدخل مصنع الدونات الفرنسية مراقباً حركة سيارات البيض الفارهة في وضاعة هامشية كجوكر نوادي الركبي الذي بلا فائدة تذكر؛ وقدّر أنه لم يكن يستحقها.

أخذته عزلته المتناهية بلا هدى وبلا هوادة إلى مستنقعات بصيرته الضحلة، حيث لا يستشعر للحياة طعماً، أو تغزوه رائحة الدونات الفرنسية وتصبغ كل شيء في طريقها بطعم الطحين الفاخر والسكر الصناعي المسحون بعناية، باردة كليالي الكريسماس، ولزجة كأنف كلب بحر، إلا مرارة عصارة البابايا التي تصر أن تظل طازجة على الدوام. غارقاً في متاهته الكبرى بين ذكريات بدأت تخبو مؤخراً، وأحلام تفقد نكهتها كل يوم.

عض أرنبة ندمه كثيراً حتى أدمنها أو كاد، لاسيما حينما يُخاطبه أحد البيض بنبرة متعالية: "كن كمنظرك الموحي بالشراسة، ولا تتعاطف مع المتسللين!" دون أن يتمكن من ذر بصاقه المُر على وجهه. كانت السنوات تلتف حول عنقه كأغصان شجرة لبلاب فتيّة، تفقده بوصلته الخلاسية، وتعبث بجينات دمه الحارة، تبعده أكثر فأكثر عن حقيقته ومستقبله.

ذكريات الهجرة السريّة المعطونة بالمآسي، والآيات السوداء لسبعة وثلاثين شاباً زنجياً، انتشلوا أقدامهم الحافية من الطين ليغرسوها في الإسفلت، محمّلين بالوعود والأحلام التي لها أجنحة البيجاسيوس الأسطورية، لم يتبق منهم سوى أربعة فقط تفرقوا أوان وصولهم، ذكريات ظلت تؤرقه طويلاً قبل أن يتماثل للنسيان تحت وطأة الرأسمال وهيلمان الفاقة والعوز الذي لا يرحم. أضاع فيها حذاءه، وصوره التذكارية، وتميمة الحظ التي كان يُعلقها على ذراعه، وكبرياءه أخيراً.

"سنلتقي قريباً .. أعدك!"
ظلت تلك الكلمات القديمة المحفورة على جدران ذاكرته كرسوم بدائية تومض أمام مسامعه كل ليلة، وكأنه يسمعها للمرة الأولى، كناموس إلهي حميم، أو كنداءات أرواح خيّرة ذوات ضمائر لا تنام. ليلتها فقط قرر أن يعود غير آبهٍ بشيء: أرتال السيارات الفارهة عند مدخل مصنع الدونات الفرنسية، اليونيفورم المنتظر على حبل الغسيل، إيجار غرفته المستحق بعد أيام، رهان اليانصيب المعلق بين شفتي القدر، أعلام الجنس المنتصبة على صدر شقراء ليلية، ولعابه الذي ظل يدخره ليبصقه على وجه أحدهم.

تلصق بصره بتلك الأرض الأسمنتية وهو يبتعد عنها ليتركها تغيب أمام ناظريه بين أمواج الأطلنطي كحوت نهم يبتلع قارب صيد، ولوهلة لا مقياس لها ظن أنه ترك شيئاً ما يخصه هناك. أدهشته هالة الحزن التي خيّمت عليه فجأة، ولم تطمئنه رائحة المدار الاستوائي، وسحنات البحّارة الداكنة والمتعرّقة بفعل الرطوبة.

رمى بجثته المُنهكة على إحدى صواري السفينة المنتصبة كذيول العقارب، وأمسك بمسمار مهمل، ومضى يخط به على الأرضية الخشبية "سنلتقي قريباً .. أعدك!" لم يحتمل تعاقب المشاعر المتضاربة على صدره المثقل برطوبة البحر وسنوات الاغتراب المسفوكة على صفحات تاريخه كدماء قرصانة مجهولي النسب، لم يكترث لنداءات ملاحي السفينة المطالبين بدخول الجميع إلى كبائنهم اتقاء إعصار استوائي غير مأمون الجانب، وظل يُدندن بأهازيج من قصائد صامويل غليوز تلك التي كان يُرددها تجار الخشب العائدين من واحات جغبوب :

قلت: أضيئي لي النجوم
كي أعثر على ما يشبهني في الرؤى والخطوات
يا أيتها المدينة
أيتها الدمعة الحزينة
أبوك الأول ضاع منذ صارت الأرض مثلثة الشكل
ذات زوايا وعتمة
فلا تنتظري أحداً
لأن الذين يذهبون
يصبحون مجرد ذكريات
فلا تنتظري بعد اليوم
من وعدك الشمس ولم يعد

مدّ خطاً طويلاً بلا إرادة وهو ينصت بخوف إلى زعيق زنجي معلق على إحدى الصواري "السفينة تغرق الآن!" وابتسم في عبث وهو يرى الموت يتلبس ملامح البحارة والهاربين خفية على السواء. قذفته الأمواج من ناحية إلى أخرى، ولم يشعر تجاهها بالسخط بل ظل محافظاً على ابتسامته الهادئة وهو يتذكر نبوءة آبا "سنلتقي قريباً" فنظر عميقاً إلى البحر ورأى صورتها مبتسمة كملاك استوائي نادر، عارية كدولفين ودود وابتسم لها في المقابل وتسنى له أن يتذوق مرارة عصارة البابايا للمرة الأخيرة قبل أن تبتلعه آخر الأمواج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق