الثلاثاء، 19 مايو 2009

ذاكرة على ورق

(لمتين يلازمك في هواك مر الشجن)
ذات الاغنية ترتدي وشاح الأثير لتهبط على أذني وتتكئ على جدار الماضي، طارقة ابواب خِلتُها إنكفاءت على النسيان. لكن الجرح كان اقوي من الذاكرة. والنسيان ما كان إلا سراباً نخبت على شرفه كأسي الظامئ للإنعتاق من ذاكرة أرهقت مضجع العمر، فأنبجس الموت مصفراً ما بين الخلايا، مقيتاً. داعياً لتقيؤ الحياة.. شهق الماضي على زفير مصباح أخير،خلته سيضئ ما تبقي من العمر..لكنه أنطفأ لافظاً أخر نفس مع أول قاسم مشترك بيني وبين ذكريات طفحت على انسجة الدماغ بمجرد الإستماع الي لحن رقص القلب يوماً على إيقاعه النزيف .

***
ذات مساء عذب. تدثرنا فيه بالحب أهديتني ذات اللحن، أخبرتني عن شغفك بلإستماع للراحل عثمان حسين، كما وأخبرتني أن اللحن هو المفضل لديك، يومها لملمت ما تبقي من حطام القلب، زحفت روحي في كل إتجاهات الحقيقة الغائبة بأمر الصمت وعهود النسيان التي عاهدت نُدبي القديمة علىها في عجلة من جراحات خلتها الأخيرة كإشباع وهمي بأمل تثاءب داخل حلم، القيته أنت على كسر الواقع، فدميت أقدامي بشظاياه المتناثرة، يااااه. شكراً حزين لخطوة كانت بحجم شمسٍ صرعت ظلال قمراً سجي في سماءه العمر.

"لكنني كم أنا حقـــاً بكـيت أسي فكـــلُ فجرٍ له في القلب إيلامُ
وكـل بدرٍ فظيــع في نقـــاوته وكـل شمسٍ بها مر و إرغــــامُ
فالحـب في لسعه الحرّيف نفَّخنـي سكــراً فهبت من التخدير انسامُ
ألا لينشـــقَّ حـيزومي برمته! ولـيرمني في نيوب البحر أعدامُ "
(أرثور رامبو)

***
(الاغنية مُرهِقة، إيقاع متناثر في بادئ اللحن..موسيقي مترددة، ثم لهج ينزف. يزف الذاكرة!! ذكريات حزينة تبدأ في الصعود للروح، ببطئ عروس لعثم المجهول خطوتها..فجأة يتحول الإيقاع لأخر بهيج. مفسحاً المجال للذكريات السعيدة، فتبتسم الروح..ليتراقص الأمل شعاعاً من التفاؤل..تندمج الذكريات السعيدة بالاخري الحزينة فيتولد الشجن بشكله السامي.. لذا لم يكن هناك مناص من تسمية الاغنية بشجن)

كان هو تعقيبي وقتها، تعقيب ساذج. لم اكن ادرك أنه سيناريو سيكتب على الإنصهار والتوحد في تفاصيله. سيناريو بائِس سيأخذ من عمري عمراً اضافياً لاتعافي منه، الصدفة. الكلمة التي حذفتها قديماً من قاموسي الداخلي وأيدلوجيتي .. تثأر مني ومن إنكاري لها. تتلذذ بوضع المفارقات المؤلمة في طريقي!! .. لكني أصر على أن الحياة خالية من الصدف، والصدفة ما هي إلا تواطؤ قدري معين، و على ذات نسج النول، لم يكن لقائنا حينها مجرد صدفة، كان ترتيباً قدرياً قُدر له ان يكون..كما كان فراقنا ترتيب اخر.. ترتيب فقدت لإثره دفة توازني مع ذاتي، فانكفأت روحي في داخلي كصدفة كلسها الألم فتراكم الحزن والشجن وصدأ الاحساس.

" ما حيلةُ العبدِ والأقدارُ جاريةُ علىه في كل حالٍ ايها الرائي؟
ألقاهُ في اليم مكتوفاً وقال لـهُ: إيــــاك أياك ان تبتل بالماءِ" !
(الحلاج)

***
وما كان لليل أن يفارقني. محاولات مستميتة لشحذ البصر في ظلام خلفته داخلي. رؤية متعثرة لثراب آمل ظامئ للإنعتاق. بقعة من ضؤ خافت مستلقي في عتمة الحواس، يا ألهيد. متعبة العينين أنا من رؤية هذا العالم المخفي تحت انقاض الكره والنزف والغثيان والدماء المخثرة داخل أوعية الوعي الشخصي. الملتاث بلوثة حب الفرد لأناه الخاصة. متعبة العينين أنا من كل هذا الزيف الدامي. سقراط !! يا صديقي العبقري حقاً ما الحياة سوى مرض عضال. وإمتناناً مأسوفاً لأسليبيوس الذي هداك الموت وحاك الحكمة علىه وكما قال نيتشة. "لعل الحكمة لا تظهر على الارض إلا على هيئة غراب يهيجه عفن جيفة مكتوم"!.


***
اليوم..جلست على حواف الماضي،غريبة كالعادة عن كل ما يحيط بي، أستنطق الجرح السائل عله يلعق ندفات ثلوج ألمٍ توهط طريقي..بودلير،يا سيدي المُرهِق.. أناجيك بعد أن إستنفذ العمر مخزونه الأسوي ورصيده المعد سلفاً للمعاناة، أسكب أحرفك الشبقة بآلامك لأفض عذرية البياض الموحش، أقدم قرابين الإنتماء لوطن العبارة لديك. بعد أن أقحمتُ نفسي بنفسي في شِباك منفي اللغة وفقدان هويتها. ما أقسي أن تفطمك اللغة على صغر، فتتغذي على حليب أُعتصر من أثداء متعطشة، بأيدي كانت المتعة صبوتها، بشفاه كانت الشهوة غايتها، بدلاً عن فم رضيع كان الجوع دافعه، إن لغتي لمنفاي، ووجودي غربتي، ونفسي ضريحُ وُضِعتُ فيه.

ما أقسي كل هذا..
"إن نفسي قبر أطوّف فيه وأقيم منذ الازل بثياب راهب ضال-بودلير".
هي غربتي الذاتية أذاً، هي غربة الانسان الوجودية التي تهبط معه من الرحم.. لتمتد على شساع عمر الفرد، أذكر جيداً حديثنا الأول والذي كان حول الغربة الوجودية والعزلة الاختيارية.. أذكر يومها أني كنت أتحدث عن الغربة الوجودية بإفراط مُنهِك.. وأذكر ايضاً كيفية اندهاشك لسؤالي المفاجئ في بداية حديثنا.. إذا ما كنت انت تعاني من غربة وجودية؟؟ سؤال طرحته يومها في محاولة مني لتعرية تجاعيد حزن سوداء ممتدة على إتساع عينيك، إيجاد تفسير للأسي المضمخ في كل ماله علاقة بك، حركاتك، سكناتك، صمتك، حتى رائحة عطرك لم تسلم من الحزن والأسي والغموض، كل شئ فيك يلهث حزناً..وكعادتي لم انتظر ردك، لأجيب على سؤالي بنفسي :- نعم أنت تعاني من غربة وجودية .. فما كان لإندهاشك حينها إلا وأن تحول لإبتسامة صامتة. دافئة.. نقلت لي عدوي الدهشة بسحرها .. حينها اتفقوا جميعاً!! حاستي السادسة.. بصيرتي الثانية ورؤيتي السابقة.. على أن هذا الجالس أمامي.. سيتوج بأمر الحب.. ملكاً على الروح.

سألتني من بعد عن كيفية إدراكي إذا ما كنت أنت تعاني من غربة وجودية ام لا. أخبرتك أنه احساس بالتواصل بين رفقاء الغربة الوجودية، طلاسم تمكن الفرد الذي يعاني منها بإلتقاط مؤشراتها من الأخر،سألتني أن احدثك أكثر عن تلك الغربة .. غربة الفرد عن النفس..عن الوجود ذاتياً..

فابتسمت أنا بذات الصمت..وما كانت إبتسامتي إلا ثغرة من الزمن لألملم أطراف روحي المسلوبة بحضورك.. قلت لك:- هي حالة متفشية بين البشرية، لكنها متفاوتة..سببها رفض الذات للمثول للسنن التي فُرضت علىها. رغبة الذات في أن تكون أناها من تجاربها المتمخضة عن إحتكاك مالكها بذاته الفطرية وإيجاد إجابة لكل سؤال داخلي يلح على ميلاد معرفة حقيقية بلا رقيب او حسيب، ومن ثم إحتكاكه بالعالم الخارجي لإيجاد ذاته الفردية، نفسه الذاتية، ليست تلك التي فُرضت علىه من المحيط الحولي وتم الباسه لها بعهد مضمخ بالحيرة من الميلاد وحتى الممات..ليكون إمتداد للسابقين‘ ومن هنا تتولد المعاناة ومن هنا تتولد الغربة الوجودية والتي تفضي الي طريقين،اما الأول فهو طرق أبواب البؤس الدامي..حمل الحيرة والمعاناة الشاقة على ظهور إحدودبت من ثقل حملها، فما عادت تقوي على السند،التنقل بين محطات الحياة بالأغترابٍ عنها والهروب الي عالم من الأحلام تسجن فيه الذات نفسها، وتبقي مجرد أمل وهمي لا تمتد اليه جهود إرادية.

اما الثاني فهو السير في طريق التوافق مع الأنا الداخلية بوضوح لا يشوبه شائبة الأنا الجمعية، وضع الذات وجهاً لوجه أمام نفسها .بكشف معدنها غير المصقول لرياء المجتمع والتصرف بحرية كاملة دون خداع.. تعرية أيدولجيتها المُملاة عليها من شفاه الموروثات وموميات الأفكار المحنطة والمعتقدات والأيدولوجية التقليدية على مر العصور.. فتح خزانة قديمة للتخلص من محتويات خاصة جداً..لكنها لم تعد تلزم لا لعلة فيها، بل لأنها لا تشفع للفرد داخل ذاته.. لتحل محلها معتقدات جديدة تولدت عن إحتكاك الأنا المباشر بالعالم.. ..بالطبيعة. بالصواب.. وحتى بالخطأ، فما الخطأ في قواميس الحقيقة إلا باب يفضي إلي الصواب.. حديثي لا يتضمر أن على الفرد التخلي عن كل ما شب عليه وشابوا عليه من قبله ورفضه، لا .. أنا اتحدث عن الموروثات والمعتقدات الخاطئة ومع علمنا أنها خاطئة إلا أن عبودية الفكر ورفض تقبل كل ما لم يكن قديماً يقبع مقرفصاً على التحرر.

إذا نظرنا للغالبية إن لم يكن الأعظمية من المبدعين في التاريخ الكوني.. لوجدناهم عصارة لتجربة الغربة الوجودية الذاتية، غربة الفرد عن الجمع.. ولوجدنا إبداعهم خلاصة لتلك التجارب، عاشوا أناهم الخاصة بعيداً عن سنن المجتمع، بحثوا عن الحقائق لكل معطي يتلبسه الشك.. في عالم بات يتعذر على الفرد فيه أن يميز بين محتواه الداخلي و محتوي الاخر والذي لا يمت له بصلة سوي مشاركته له ذات البيئة او المجتمع.

قاطعتني مستشهداً بنيتشة:- " أتطلّع الي كل ممنوع- تحت هذه العلامة سيكتب النصر لفلسفتي ذات يوم. ذلك ان الحقيقة وحدها هي التي ظلت الي حد اليوم خاضعة جوهرياً للحظر." قلت لك مواصلة:- نعم، .. نيتشة محطم الأصنام كما كان يقول عن نفسه، ذلك المضحي الذي عاني كثيراً داخل غربته النفسية وعندما حاول الافلات منها نجح وأبدع، لكن رفض الجمع ونبذه كان له بالمرصاد..كان المقابل الذي حصده، هو لم يلغ بالاً لكل ذلك وضحي من أجل إبداعه،وجاء زرادشت،وقال من خلاله كل ما كان يلهج به فكره، فقابلوه برفض أشدّ قسوة من الأول.

صمت قليلاً ثم قلت: التضحية هي ضريبة الخروج إلي الإبداع..أن تكون مبدعاً ذلك يعني أن تكون مضحيا ً..أن تقدم نفسك كبش فداء لنبذ المجتمع، أن تعرضها للنفي والرفض بل أحياناً القتل والصلب.. لا لعلة او خطأ إرتكبته بل لرفضك دائرة التناسخ الفكري والتقليدي المتبع.

قلت تأكيداً لك:صحيح، وهم ضحايا البشرية وغصة في حلقها.. إبتداء بالرسل الكرام..وانتهاء بالمفكرين والفلاسفة،الأدباء والشعراء، منهم من لم يعاني من غربة النفس والذات، لكنه عاني من رفض الجمع له ونبذه لأرائه والتي هي مراحل متقدمة من سلسلة الشك والحيرة والقلل الدائم، كم من مبدع مضغته الحياة بأسنان لا ترحم ولفظه المجتمع من بين أفواه لا تنطق إلا الضباب والرياء؟.

نيتشه، برتراند رسل، كافارني، غوتة، لوركا، رامبو، الحلاج، بودلير، البير كامو، سقراط، فيرنادسكي، محمود محمد طه، بن عربي، سبينوزا،التجاني يوسف بشير، بيارلرو، كونفوشيوس، المتنبي، برنارد شو، ديكارت، كوبر يفيتش، شوبنهور، جوتيه، خورخي جيين.. وأخرون كُثر مهما اختلفت الاراء عبر ثُلاثِيات الزمن على ما نضح به ابداعهم وصداه داخل نفس كل منا ذلك لا ينفي مدي معاناتهم وحالة الترحال الدائم داخلياً، حتى بوذا والذي لم يقدم للبشرية سوي الحب والرحمة والحكمة.. مهلاً.. لماذا الذهاب بعيداً، حتى انت لم تسلم من رفض المجتمع ومحاولاته المستميتة لإغتيال أفكارك ووئد بناتها.

انتشلتني من حالة البؤس التي محورتني بنظرة لعثمت حزني وجردت ألمي .. سألتك لماذا صمتك؟ اجبتني :- بوذا.. تلك الروح الشفيفة.. او تعلمين ان مغزي الحياة وفقاً لتصورات بوذا يكمن في الارتقاء والكمال الذاتي،الاخلاقي،النفسي والروحي..والهدف الاساسي للارتقاء الروحي الذاتي هو الوصول لوضعية يتقبل من خلالها الإنسان الآخرين بل كل ما هو حي في العالم كما يتقبل ذاته نفسها ‘ اين نحن من كل ذلك؟.

أجبتك بأسي وبإبتسامة شاحبة:- الإسلام،المسيحية واليهودية بل حتى الديانات غير السماوية كالهندوسية والكونفوشيوسة وجميع العقائد سواء أن كانت تجسيدية او ثالوثية تلهج بذات النهج، الإنسان هو من ضل عن كل ذلك متدحرجاً داخل حبه لأناه الخاصة، قاصياً كل من له حق الحياة من تفكيره، حقاً وكما قِال أيفانوف" أن الانسان كائن في حالة تأزمية " .

ثم استطردت قائلة:- اَو تعلم إن الإطلاع وتملك المعرفة ايضاً تضحية كبيرة،مصنع أخرلإنتاج غربتنا الوجودية،صراع اخر بين الشك والتشكك أو حتى الجنون في أحيان كثيرة. كم من مطلع مدرك حمله إطلاعه على بساط الشك والتشكك إلي مقر الجنون، حالات كثيرة موجودة في العالم بل حتى في نطاقنا المحدد بجغرافية الوطن، أذكر أية في سفر التبشير حملت نفس المعني تقول:
"The more you know, the more it hurts;
The more you understand, the more you suffer".
{Ecclesiastes 1 V 18}

قلت لي مستشهداً بنيتشة مرة اخري " أي قدر من الحقيقة يستطيع عقل ان يتحمل؟؟ وإلي أي حد من الحقيقة يجرؤ عقل على المضي". أجبتك مبتسمة وقال ايضاً" حتى اشجعنا نادراً ما يملك شجاعة تحمل كل ما يعلم". صمتَ قليلاً وواصلت قائلاً :- ولكن اليس الجنون يعني الإفلات من طوق الرهبة والحرج..النطق بكامل المصداقية بما يجوب في الدواخل و يعتليها!؟
قلت لك مداعبة:- مرحي ثم مرحي بالجنون إذاً.

إتسعت قلوبنا بأبتسامة ركضت بنا إلي حميمية الصمت..أُعتقلت الكلمات بيننا،تلاقت أعيننا لتلثم أرواحنا بقبلات إشتهتها شفاهنا وتشعل حواسِنا بجنون أستنكره العقل قبل المجتمع، تدحرج الحب مداعباً لقلوب جفت من الظمأ الوحدة، وروح رهقت الشقاء.. حديث أخفاه اللسان..ولهج به الأحساس.. نفوس تشابهت في محتواها وقلوب تآلفت على وعد من الحب.

سألتك بنية التحرر من عبودية الحواس والتخلص من وطأته :- حدثني عنك. قلت ملتقطاً بصرك من على وجهي :- ماذا أقول..فأنت تعلمين حتى ما أجهله انا عن نفسي.. نظرت الي مطولاً وتابعت :- كيف تملكين كل هذا ؟ بل كيف تتحملين مسؤلية تملك كل هذا؟.
أجبتك بأستفهام آخر:- ماذا تقصد؟

قلت لي من بعد صمت:- أعترف أنني أحاذر أن أبدي إعجابي بالبحر في عينيك وكم النوارس التي تحط على شاطئه لحظة مغامرة فاتنة، الحزن المتمدد في عينيك يخيفني أخاف جداً أن أسبح فيه، أن أمسه وتتشربه مسامي، أنتِ موغلة في الدهشة، جميلة وعميقة جداً، لك من الحضور سحره الطاغي. تتحدثين عني كما لو أن العمر أوجدنا معاً منذ بداياته، مع أن معرفتنا لم يمضي عليها من الأيام سبع،، تتحدثين بخلفية من يمتلك خبرة مدادها العمر، مع أن العمر لم يمكث سوي عقدين من الزمان ونصفه بجوارك.. كيف تتحملين تملك كل هذا؟

اعترتني موجة من مشاعر لم اجد لها اسماً في حواري الداخلي،فقدت من تأثيرها دفة توازني مع المحيط الحولي وجدت صوتي يخرج واهناً، متشرنقاً بحبال مشاعري المضطربة قلت لك: بالتجاهل ! أتحمله بتجاهله،نشأت في عائلة ملكتني المفاهيم بشفافية الحقيقة وليس الخوف منها نشأت بمفهوم بودليري مفاده"ما يهم ما تستطيع أن تكون الحقيقة الموضوعة خارج نفسي أذا هي ساعدتني على أن أعيش و أن أشعر إني موجود ومن أنا"، نشأت في عائلة نعمت أظافري على ترتيب صحيح للجانب الجندري في أجندتي الداخلية، نشأت بمفهوم أن الرجل والمرأة فرق الخالق بينهما في تفاصيل الجسد ووظائفه، ولكن لم يفرق بينهما في قدرات الخير والعاطفة والأنسانية، فرق الله بينهما في مقدرة العطاء والأخذ والتحمل، ولكنه لن يفرق بينهما في الجزاء الأخير والذي يثاب المخلوق بموجبه عن حسناته ويحاسب على سيئاته يوم الحساب الأعظم، للأسف كل شئ في مجتمعاتنا رهين للعادات والتقاليد، حتى الدين مُحور ليخدم المعتقدات والموروثات.

برهة صمتٍ عبرت بيننا،هل كنت تدرك مسبقاً أن الصمت يشعلني، والغموض يوقظ حواسي، والألم يستجدي روحي وأنني ضعيفة جداً في مواجهة النقاء، يا إلهي. يرهقوني أنقياء الروح، يشعلون حواسي قناديل في عوالمهم الخالدة.. ينفطر قلبي عند عبورهم الصامت للحياة، كنت أخشي عليك العبور الصامت، محملاً بهزائم الأرض، وألآم البشرية، لم أكن ادرك حينها أن جرح الأنقياء دامي، موغل في الروح،لا يمكننا تجاوزه بإسدال الستار على الماضي، لم أكن أُدرك أن النقاء مثله مثل الحياة والموت والحب يحمل أكثر من قناع وأكثر من معني، لم أكن أُدرك أن عمق الأنقياء وحل من التناقضات، لم أكن أدرك أن قلبك كان يتربص بالنسيان قبل الحب، اليوم يمكنني إختصار قصتنا بعبارة للويس ثرنودا كإرضاء أخير لذكراك،أنا التي لم يعتريني قلق تجاه إعجابك بكل ما لهج به نهج ثرنودا،قد كنا يوماً الغضب الذي يشيع فيه لون الحب. الحب الذي يشيع فيه لون النسيان.

سألتك مرة أخري:حدثني عنك؟؟
أجبتني مستجيباً بتنهيدة متقطعة بأمر شهوة لم تغادر إلي حيث :-
أنا رجل يعيش على حواف الماء الزلقة ولا يرتوي، يغتسل تحت المطر الاستوائي ولا يحاذر الصواعق، يعب من رحيق الحياة حتى ثمالة الوجع.. الحياة تسير امامي بصمت مستفز وخطوات قصيرة مقتضبة. غربتي النفسية صليب سمرت علىه وإطلاعي ومحاولاتي لتملك الحقيقة لم يرفعاني من على هذا الصليب بل على العكس..مازلت ابحث عن حريتي الكاملة بعيداً عن الاستلاب الفكري الحولي.

قلت لك بسزاجة متعاطفة:- هل الحرية تتجزأ عندك ؟
اجبتي بأبتسامة متزنة.. الحرية لا تتجزأ ولكنها تحكم بقوانين داخلية قوانين تكونت من قناعاتي الخاصة .. ومدي إستيعابي لمفاهيم الخطأ والصواب.. بعيداً عن مفاهيم غيابية و(تابوهات) يعد النظر اليها محرماَ ناهيكِ عن الحديث والخوض فيها.

قلت لك بإصرار:- أنت لم تصمت وقفت صامداً ضد شلل الإرادة المهيمن والخطوط العرجاء،في وقت كان فيه الجميع يلتهم الحياة بشراهة من ينتقم مِن العدم، وينخب كأسها في مدائن الأسف.

رددت بصوت غائب عبارة لوتريامون الشهيرة"مقدسة هي القوة..لزام على الإنسان أن ينقش آثره بعنف على تصاميمه الجريئة، فالقوة هي التي تمسك بمفاتيح الفراديس و تدير أبوابها بقبضتها الفيحاء "

ثم واصلت فارداً ذراعيك على طول الأمل :لكي تظل حراً لا بد من اغتيال القيود،الحرية تنضج وتتكاثر تحت عبأ الظلم وركام الإضطِهاد والذل وتَقَيُؤ الجوع والحرمان.. التفاؤل اللفظي مهما ارتفع جناحه لا يحلق بنا. وأنا اريد التحليق عالياً!

***

إفترقنا يومها بعد أن رفعنا الأرض بالشفقة. وملئنا جوفيّنا بالصبر والسلوان وحسن العزاء. ونخبنا الحياة في كأس الرثاء والحداد، إفترقنا على وعد اللقاء في اليوم التالي. وتوالت اللقاءات، كانت المدينة تحتفي بنا على طريقتها المجنونة..ونهر التيمز يستضيفنا على مقاهي شاطئه الجنوبي، ألتقينا العم بيسا فيرس..عازف الجيتار الأفريقي العجوز.. ونهلنا من عزفه.. ومن حنانه الافريقي وتعطشه لأبوة حال مفهوم حرية الفرد الخاطئ في المجتمعات الغربية بينه وبين ممارستها، كان يستقبل خطوات المارة بأغنيات تخرج من بين شفتيه بمتعة من يقبل أنثي.. حبيبة.. مقابل حفنة من العملات المعدنية يلقونها بجواره، وكان يستقبل خطواتنا المتلهفة بأبتسامة واغنية (One love) لمارلي بعد أن أدرك أنها المفضلة لدي، لتبدأ خطواتك بالرقص على ايقاعي الداخلي. كنت تعشق الرقص،كان يحمل لك أكثر من معني وأكثر من تعبير عن حالة،كنت عاشقاً للشعوب التي تمتهن الرقص كطريقة مبتهجة للتعبير عن أحزانها وأحلامها التي صابها الخمول فما أستطاعت له تحقيقا.

وإستمرت اللقاءات،عبرنا الجسور المعلقة على النهر، حفاه إلا من الجنون وحنين كان قد سبق وخبأته منا السنين. نقلت لك عدوي بريفير، لفرلين، لأوديبرتي، بن جلون، الفارابي، وليم موير، بالمر، أنسي الحاج، كافارني سيد المأساة وأبيها الشرعي، لامارك وداروين، عروة بن الورد، قورمول يوني بينقو وموسيقي الفلامينكوا انابيل سنتياغو وإستريلا مورينتيه وبوكا، نقلت لك عدوي شعراء الفرنكوفونية من خوري غاتا حتى ستيتيه مروراً بسيزير وفرهارين، ونقلت لي عدوي شلير ماخر، ميلان كونديرا، لاروشفوكو، روسلو، كلانسييه، غليسان، ميشيل فوكو، نيكلسون، نيكوس، أغناطيوس وسان ميلا، لرونسار، هيغل، الفيتوري، بن حزم الأندلسي والنفري، وإتفقنا في حب بوذا، مانديلا، غاندي، لوركا، نيرودا، صلاح أحمد ابراهيم، ماك تاجارت، برشت، كروبوتكين، ستروس، زوربا، الفريد دي موسيه ورحلات جالليفر، غوتة وفاوست دراما الانسان العقلي الذي يختنق داخل غرف الوعي الشخصي، ويتمان الذي بحث عن عزلته في نيويورك حتى إرتبط إسمها بموته، بن عربي، محمود درويش والجدارية رحلة الذهاب للموت والعودة للكتابة عنه، الحلاج ولوتريامون،إتفقنا في حب النور الجيلاني ومصطفي سيد احمد، فيروز، مارلي وموسيقي الريقي، موزارت والاوبرا، إتفقنا في عشق أفريقيا وإثيوبيا، تيدي أفرو وتيزيتا وجاه يستاسريال، أستير اويك و(الدنيا ليل غربة ومطر) والجنون و. و. و(من ياتو قاسم مشترك) .

ثروت همّت/كاتبة سودانية

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق