الجمعة، 8 مايو 2009

اللغة العربية وتابو القداسة

الكلام عن اللغة هو كلام عن الثقافة الشعبية لحقبة تاريخية محددة، وتأتي اللغة لتعبّر عن هذه الحقبة التاريخية بشكل ثقافي ولفظي سواء كان ذلك بطريقة منطوقة أو مكتوبة. وإلى هذا الحد، نجد أن هنالك نوعان من اللغة العربية المستخدمة حالياً هما: لغة القواعد، ولغة الخطابة أو اللغة اليومية. هذا التفريق هو في الحقيقة تفريق أكاديمي صرف، إذ أن هذين النوعين في حقيقتهما يُعبران عن قطيعة بين اللغة وبين مستخدميها. حيث أن اللغة المهجورة هي اللغة الفصحى، واللغة المستعلية هي لغة الخطابة أو اللغة اليومية.

في حقبة ما سابقة كانت اللغة الفصحى هي لغة قواعدية ولغة خطابة ولغة كتابة، دون أن يُمكننا الفصل بينهما، ولكن هل يُمكن أن ينطبق ذلك على اللغة المستخدمة اليوم؟ إذا قلنا (لا)، وهذا هو الواضح، فإن هنالك قطعية حاصلة بين اللغة العربية وبين مستخدميها، ويبقى السؤال عن مسببات هذه القطيعة غير مهم على أية حال، لأنه لا يُفضي إلى نتيجة مقنعة، وبالتالي فإنه لا يُساعد على حل المشكلة، هذا إذا اعتبرنا أن هذه القطيعة هي مشكلة في حدّ ذاتها.

إن ظاهرة طغيان اللهجات المحكية أو العامية على اللغة الفصحى في التداول الشعبي اليومي، هو في الحقيقة حتمية تاريخية حدثت بسبب خلل ما في اللغة نفسها من ناحية، وفي مستخدميها من ناحية أخرى. فمستخدمو اللغة واقعون تحت تأثير أزمة اللغة، وواقعون تحت تأثير حداثة التاريخ وحركته من ناحية أخرى. تصبح اللغة في ظل هذه القطيعة منفصلة عن حركة التاريخ، لأن الفصحى ظلت بعيدة عن هذه الحركة؛ بينما اللغة بمفهومها التاريخي الحيوي تمثل في اللهجات المحكية.

إلى هذا الحد يُمكننا أن نقول بأن اللغة انقسمت على نفسها، فأصبحت هنالك لغة مهنية أو أكاديمية، وهنالك لغة شعبية. كذلك يُمكننا القول بأن قداسة اللغة العربية هي ما منعتها من الذوبان والاضمحلال؛ وهذه نقطة بالغة الأهمية لأنها تطرح تساؤلاً مفاده: هل يُمكن أن نعتبر اللهجات العامية جزءاً من اللغة العربية أم لا؟ الإجابة على هذا السؤال ليس ببساطة استخدام اللهجات المحكية أو العامية على الإطلاق، لأن اللغة تتضمن مقاطع وتعبيرات تجعلها متميزة عن غيرها من بقية اللغات، وبالتالي تجعلها صالحة لأن تكون لغة في حدّ ذاتها، وهذا ما نجده في اللهجات المحكية مثلاً.

إن اشتقاق أو نحت بعض المصطلحات أو التعبيرات الثقافية الموجود في كل لهجة محكية على حدا باللغة الفصحى لا يعني بالضرورة ارتباطها بها، لأنه –وفي المقابل- نجد بعض الاشتقاقات أو النحوت القائمة بين لغتين مختلفتين. وعلى هذا فإن المعنى الثقافي لكل من (زول) و (زلمة) و (جدع) مثلاً لا تعبران عن المحتوى الثقافي اللغوي للغة العربية رغم أنها قد تكون مشتقة عنها، ولكنها غير مرتبطة بها بالضرورة؛ إذ أنها مرتبطة بالمحتوي الثقافي والبيئية لمستخدمي هذه اللهجات.

ولذا فإن التحدّث والكتابة باللغة الفصحى هما ضرب من الفزلكة، أو النفاق اللغوي؛ إذ أنه من غير المعقول أن أكتب بلغة قواعدية معيّنة، في حين أنني لا أستخدم هذه اللغة في معاملاتي الإنسانية الأخرى، وإن لم تكن اللغة مكتسبة لطابع الحيوية التعبيرية بما يكفي لاستخدامها في الإطار الزماني والمكاني المحددين، فإن ذلك يُوحي إلينا بأن ثمة خللاً ما: إما فيها أو في مستخدميها.

إن عدم اعترافنا بفناء اللغة العربية نابع في الحقيقة من ارتباط هذه اللغة بشيء مقدس وهو القرآن، ولكي نفهم أبعاد هذه المعضلة اللغوي يجب علينا تفكيك هذا الارتباط، أو بمعنى آخر، يجب علينا حلّ اللغة من قداستها لنفهم ما إذا كانت اللغة بعد ذلك قادرة على الاستمرار أم لا. أقول ذلك وأنا أعلم تمام العلم مدى خطورة هذا القول، ولكن علينا أن نسأل أنفسنا، من خدم الآخر الخطاب القرآني أم اللغة العربية؟ فمن المعلوم أن اللغة أقدم تاريخياً من الخطاب القرآني، وظلّت مكتسبة لهذا الرونق وهذا التميّز حتى قبل القرآن، ونزول القرآن باللغة العربية لا يُعد من قبيل تشريف أيّهما على الآخر على الإطلاق.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ارتباط اللغة العربية بالقرآن –في اعتقادي- ساهم كثيراً في تكبيلها بسلاسل القداسة، ما جعلها غير قادرة على التطوّر وبالتالي مواكبة تغيّرات العصر والتاريخ الذي هو أساس اللغة الحيوية، ولذا فإننا نجد أن إنسان "العصر" قد قاطع اللغة بشكل تلقائي غير متعمّد، لأن القداسة لا تفهم معنى التاريخ وحركته. وهذه القطيعة في الحقيقة كانت في مصلحة الإنسان على حساب اللغة، وهذا ما جعل اللغة تنقسم على نفسها بكل لون حسب الثقافة البيئة المحددة لها، وحسب حركة الإنسان المستخدم لهذه اللغة داخل هذا الإطار الثقافي الاجتماعي.

اللغة العربية فنيت تماماً، وظلّت -بسبب هذا الارتباط القداسي، أو المقدس- قابعة في كتب النحو، وأرشيف المتاحف اللغوية محصورة في استخدامها على فزلكات لا تعبّر إلا عن هذه القطيعة: سواء في كتابتنا أو محادثاتنا النخبوية التي لا تُعبّر عن واقعنا الحياتي. وعندما أقول نخبوية فهذا يعني تمييزاً لا يُحسب للغة ولا لمستخدميها على الإطلاق، وإنما هو خصم على رصيدهما معاً.

إن لغات بائدة مثل السنسكريتية والأكادية والمؤابية والآرامية هي لغات موجودة حتى الآن، ولكنها ليست حيّة، بمعنى أنها غير مستخدمة استخداماً يُمكن على ضوئه أن يُقال عنها أنها (لغة)، وهذا هو ما يحدث مع اللغة العربية؛ فوجود اللغة لا يعني حيويتها على الإطلاق؛ فاللغة يجب أن تُعبّر الوقائع الحياتية وإلا فهي ميتة، وما يحدث مع اللغة العربية الآن أنها ترقد بسلام في غرفة الإنعاش ونحاول أن نُكسبها الخلود الذي لا تستحقه. وليست هنالك لغة على ظهر هذا الكوكب تستحق الخلود، لأن الخلود في بعض جوانبه يعني الجمود ويُناقض سُنّة الحياة القائمة على التغيّر والتطوّر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق