السبت، 14 مارس 2009

الجدل الواعي في نصوص هند جودة

منذ البدء يُظهر نص "دائماً يرحل أحد" جدلية رائعة، وهي جدلية من النوع الذاتي شديد الخصوصية। البصمة اللوركية واضحة على القصيدة، إذ أن القارئ للقصيدة يشتم فيها عبق أسبانيا فيما يختزله لوركا من حنينها ومرارتها في قصائده। "دائماً يرحل أحد" سحبتني تدريجياً إلى قصيدة لوركا "أغنية ماء البحر" التي يقول فيها:
البحر من بعيد يبتسم
أسنانه زبد
والشفاه من سماء

وأنت يا فتاة كدرة المزاج
نهداك صوب الريح
ما بضاعتك ؟
سيدي :
أني أبيع ماء البحر

وأنت أيها الأسمر الفتى
ما الذي لديك بالدماء يمتزج ؟
سيدي
ذاك ماء البحر

وأنت يا أماه
من أين تأتي دموع الملح ؟
سيدي
أنما أبكي بماء البحر
ويا قلب وانت،ثم هذا القبر
من أين ينبع الأسى ؟
أجاج ماء البحر

البحر من بعيد يبتسم
أسنانه زبد
والشفاه من سماء

وفيما تعبق نصوص لوركا بالحوارات الداخلية لشخوص النص، يختفي ذلك تماماً في نصوص شاعرتنا هند جودة؛ إذ تتحوّل هذه الحوارات إلى
Definitions أو تعريفات مقتضبة وعميقة في وصف الحالات الشعورية. اللغة البصرية في هذه النصوص طاغية إلى حد بعيد، كما نجدها في قولها :
"دعني أضيء ببعض نار"
وفي قولها:
"تفتح ستائر رموشها في عقر غدي .. تعمي!"
وفي قولها:
"أنت تعادل وجهك في مرآة"

ويكاد النص أن يكون درساً كاملاً للهندسة البصرية، فلا يوجد بيت من القصيدة إلا ويحتفي بقدرٍ عالٍ من اللغة البصرية؛ إلا فيما عدا بيتٍ واحد يختلف عن هذه القاعدة وذلك في قولها: " تعتنقني خرافة الأشياء دون إذن ٍ
أصيخ ُ لها بأذُن"

وما بين السماعي والبصري في نص "دائماً يرحل أحد" نجد إلهامات جميلة، تحيلنا قسراً إلى قواعد اللغة العربية، لندرك حالات النكرة. فالنص عبارة عن نكرة كبيرة، والتنكير في نص شاعرتنا هند جودة ليس من قبيل التنكير الاستهجاني بقدر ما هو تنكير فلسفي، يفتح أمامنا بوابات من التساؤلات الفلسفية شديدة العمق، وذلك ابتداءً من العنوان "دائماً يرحل أحد" ونلاحظ أنها لم تقول "أحدٌ ما" ورغم أن اللغة العمياء تجد ألا فرق يُذكر بينهما، إلا أنّ "ما" في فلسفة القواعد النحوية قد تُعطي دلالة تعريفية بطريقة تحايلية لا تريدها الشاعرة، وهذا ما يجعلنا نطرح السؤال الكبير جداً: "لماذا تختفي هند جودة خلف نصوصها؟" والسؤال بطريقةٍ أخرى: "ماذا تريد هند جودة من وراء هذه النكرات؟" الإجابة على السؤال ليس بالأمر السهل أبداً، وتبقى مجرد التكهنات بالدلالات السايكولوجية لهذا الفعل الاحترازي ضرباً من العبث المُفضي إلى لا شيء.

إذن فنحن لا نقرأ نصاً لغوياً؛ إنما هو سبر لحياة نفسية عامرة بالغموض، يشبه إلى حد بعيد انعكاس صورتنا على مرآة مقعّرة في الظلام؛ فبقدر ما تكون الصورة المعكوسة كبيرة، بقدر ما لا تكون واضحة ومرئية؛ إذن، علينا أن نحترس ونحن نلج بطن هذه القصيدة، لأننا إنما نلج في غياهب قلب امرأة، وأن نضع على بعد كل خطوة حبة قمحٍ صغيرة، حتى نعرف طريق العودة.

وإذا أعدنا النظر في العنوان "دائماً يرحل أحد" نجد هنا عامل الإرادة الفعلية الغالب على عامل المشيئية القدرية، فهي لم تقل "دائماً يرتحل أحد" وهذا يعني أن من يرحل إنما يرحل بقراره، وإذا آمنا بأن الرحيل إنما هو رحيل طوعي، فهذا أدعى للتصديق بأن هذا الرحيل هو إنما عملية انتحار جماعية! وعلينا قبل أن نطلق الأحكام الشمولية على هذه القراءة السطحية، أن نعرف قبلاً قليلاً عن سايكولوجيا الانتحار، أو سايكولوجيا الخلاص.

الانتحار العضوي ليس هو المقصود، أو قد يكون هو الشَرَك الذي تنصبه لنا الشاعرة حتى تعمي الأبصار عن معانٍ أعمق بكثير من التي قد تساورنا للوهلة الأولى، وهي تجيد نصب مثل هذه الشراك كما سيظهر في قراءتنا للمتبقي للنص. أو لما وراء النص.

الانتحار السايكولوجي قد يكون خياراً بعدم التصالح مع النفس، أو قد يكون خياراً للحلول السلبية، أو قد يكون انحيازاً لخيار الاغتراب الداخلي، أو رضوخاً لسلطة الأقوى، وهذا الأقوى قد يكون الأنا الأعلى، وقد يكون السلطة المجتمعية، وقد يكون الحبيب، وقد يكون سلطة الماضي والذوبان أو الاستغراق فيه. كل هذه الخيارات التي تؤدي إلى إقصاء الذات العليا وشغلها عن التفكير والصراع من أجل البقاء، قد تكون خيارات جيّدة تقتبسها الشاعرة لتسحب عليها خيارات الانتحار العضوي لكل دلالاته النفسية. وقد يكون للانتحار جوانب أخلاقية أعمق مما نراه نحن، فهو خيار تفضيلي للبعض، على اعتبار تقديم موته على حياة أشخاص أو شخص أو قيمة معنوية سامية لديه، وقد يكون الانتحار وسيلة للرفض وتعبيراً عن السخط أو الاستياء أو التمرّد حتى على الجسد بجميع قيوده، والانطلاق إلى ما هو أبعد من فضاءات الجسد المحدودة.

إذن علينا أن نحمل معنا جميع هذه المعاني ونحن نناقش فهمنا الواعي لمدلولات الانتحار أو الموت الطوعي؛ وهذا الموت وهذه الحياة لا يجب فينا أن نفترض سطحيتها بحيث قد يكون للموت دلالات حياتية وحيوية جداً، والعكس صحيح؛ فالموت قد يكون حياة في شكل آخر أقل أو أكثر زخماً. ودون أن نمتلك هذه النظرة لا يمكننا تخيّل المعاني المتناثرة في النص الشعري.

وقبل أن ندخل إلى القصيدة، لا بد لنا أولاً أن نتكلم وبشكل سريع عن البناء أو التركيب اللغوي للقصيدة التي أخذت طابعاً سردياً أو نثرياً أكثر من كونه نصاً شعرياً، وذلك لاختفاء الوزن والإيقاع الشعري بالكامل، وغياب هذا العامل الإيقاع حتى من موسيقى الجنائز، فإننا نجد التكريس لدلالات الانتحار، في هذا المنحى الذي اختارته الشاعرة لهذا النص الفلسفي السايكولوجي.

هذا النص من نوع النصوص الشعرية المُبالغة في الحرية. هذا النوع الذي يروق للعديد من شعراء الحداثة المتمرّدين على كل قوانين الشعر الكلاسيكي وحتى الحديث غير المنفصل كليةً عن الكلاسيكية. وإذا تكلمنا عن سلوك التمرّد على النصوص الكلاسيكية فهذا يجعلنا نتكلم عن نوعية هذه النصوص. فالشعراء الحداثة إذ حاولوا التخلّص من العُرف التقليدي في التناول الإيقاعي أو الموسيقي للشعر، إنما كانوا يحاولون في ذات الوقت التمرّد على مسلك الشعر من حيث هو. فالبكاء على الأطلال، وذكر الحبيب أو الحبيبة، وتناول المعاني "السوقية" التي يجيدها حتى أحدث الشعراء ليست هي القضايا التي تثير بال شعراء الحداثة، إذ يشمل التجديد لديهم في البناء النصي وفي تراكيب المعاني كذلك.

هذا النوع من الشعر، يحتاج إلى سكرتير جيّد، يعرف كيف تُدار أجندة هؤلاء الشعراء، ويعرف كيف يعيد ترتيب ملفات اللغة واستخراجها ليس من بطون الكتب، وإنما من بطون الوقائع والحياة الدلالية. وعندما أقول حياة دلالية فإنني أقصد تلك الكوامن الشعورية التي تؤثر سلباً وإيجاباً على المسلك الحياتي، وهي ما لم يُلق لها الشعراء الكلاسيكيون بالاً. والاتجاه الرمزي جاء مصاحباً لهذا التيار التجديدي، واختزالاً للكلام المطوّل فإن نص شاعرتنا هند جودة هو نموذج جيّد لهذا النوع من النصوص التي تحتفي بالفعل وليس بردة الفعل. فهي تغوص عميقاً إلى حيث مكامن الشعور غير المعترف به، فتخرجه في قالب غاية في الشفافية حتى لأننا نقول "كيف لم نكتشف ذلك من قبل!" فهي إذاً من مدرسة لزوم ما لا يلزم معنى وبناءً. ومدرسة لزوم ما لا يلزم في كثير من حالاته يثير في الشاعر دوافع لتحريف اللغة، وليّها ربما أكثر من اللازم، لذا فإننا نجد أنفسنا في كثير من الأحيان نقف عاجزين عن قراءة عبارةٍ ما، وكأننا نحاول أن نحل شيفرة ماسونية غاية في التعقيد، ولكننا فور قدرتنا على فكها، فإننا نصرخ فرحين بالاكتشاف الذي نحرزه، فهدايا هند جودة مخبأة للقارئ وراء هذه الشيفرات.

وبالعودة إلى مسألة النكرة ودواعيها الفلسفية في النص نورد بعض الأمثلة الظاهرة لعشق الشاعرة على موارب باب الخيال، والتخيّل والتفسير باستخدامها تكنيك النكرة ليراها كل قارئ حسبما يشتهي، فتقول:
"أرنو إلى تنفس"
وتقول:
"دعني أضيء ببعض نار"
وتقول:
"تصفّق كفٌ .. بفرح"
وتقول:
"خمسة أصابع أخرى، تخون سعادتي"
وتقول:
"طلع حلمٌ على صهوة جمري"
وتقول:
"أنت تعادل وجهك في مرآة"
وتقول:
"أصيخ لها بأذن"
وتقول:
"لبلاب غيابٍ لا زال يتسلّق على عمري"
وتقول:
"تجبرني على انسدالٍ دائم"

وتقول:
" ما بيني وبيني
مساحة حلم ٍ
تكفي لأنا أخرى!"

وفي الواقع فإن مجمل النص الشعري عبارة عن دوائر متداخلة من النكرات التي تغذي التساؤلات الكبيرة. وهي بهذا تترّفع عن إيذاء مشاعرنا بالتفسير والتفصيل، فتؤمن بحرية أن يرى الجميع ما يريدون أن يروا من أشياء وحركة وحياة وموت وعشق وخيالات وألوان وفصول. ليس من المهم أن نسعى إلى تعريف هذه النكرات، بقدر ما يهم أن نعرف ماذا تريد منا الشاعرة أن نفهم أو أن نرى من خلال هذه النكرات المتناثرة في أنحاء النص كأنها رِقاع ملونة في ثوب درويش! هل هو فقر، أم زهد أم عادة أم ستايل حياتي أم انتحار نفسي!

النص – إضافة إلى احتفاءه بالنكرات – فإنه يحتفي أيضاً بالجدليات الجميلة جداً، والموحية إلى حد الشغف. شغف التناقض والتضاد الموّلد للحركة وللحياة التي تكونان معاً جدلية أخرى ضد الانتحار أو الموت بجميع أشكاله. فالنص ميت حي .. وحيّ ميت، وكأنها تريد أن تقول "اختاروا ما تشاءون، بيد أني اخترت وانتهيت!"

الحياة والموت لدى الشاعرة في هذا النص أشبه بلعبة خفيفة الظل، فتارة تراها تطارد الموت، وتارة تطارد الحياة. وتارة تراها مطاردة من الموت وتارة تطاردها الحياة. فهي تطارد الحياة عندما تقول: " أرنو إلى تنفس " وتجعل الباب موارباً في وجوهنا لنفهم أيّ نوع من التنفس "الحياة" تلك التي ترنو إليها، بعد أن نؤمّن على أنها عاشقة للحياة، ولكن أية حياة؟! وهي مطاردة من الموت عندما تقول: "فيواصلني الغرق" واستخدام الشاعرة أو اختيارها للألفاظ يجعلنا نتساءل، هل تراها تعي ما تقول؟ لماذا اختارت "يواصلني" في حين كان يإمكانها استخدام لفظة تدل على معنى المطاردة؟ المواصلة أو التواصل فيه نوع من العلاقة والحميمية حتى ولو من طرف آخر. وثمة قراءة أخرى تجعلنا نتخيّل أن المسألة بالنسبة إليها هي ليست لعبة مطاردة بقدر ما هي محاولة ولادة وخروج من رحم الموت إلى الحياة، وتشبث كل طرف من أطراف هذه العلاقة بالآخر، فهذه العلاقات القائمة بينها وبين الحياة وبين الموت، هي علاقات وطيدة، تدل عليها هذه التفاعلية في التعاطي اللامنتهي. وقد تنحاز في بعض لحظاتها إلى طرفٍ ما دون الآخر، ولكن هل كان هذا الانحياز طوعياً "انتحار" أم أنها قدرية ومشيئية فوقية مفروضة عليها؟
وعندما نقرأ الجملة بشكل تجريدي "مريح" نقرأه: أهرب إلى الحياة، فأجد الموت" فهل هذا خيار يقيني أم هي محاولات للخلاص من الموت الداخلي الذي يحتوي في عنصره الحيوي فقه التضاد والجدلية، والصراع الذي من أجل البقاء؟ جدلية الموت والحياة، والعشق واللاعشق، وحتى وصولاً إلى جدلية اللغة متجلية في قولها: "مشكاتك لا تكّف عن زيتي" وهذه الجملة تحديداً هي من النوع الذي تقف عنده لتفك شيفرته، فتعجز أول الأمر، ثم تصرخ كالأطفال عندما تكتشف اللعبة المخبأة في صندوق محكم الإغلاق.

تبدو الجملة كمعادلة مستحيلة الحل في "ص" ولكن بقليلٍ من الصبر، والتحليّ بروح دافنشي العبقرية، نجد أن حلّ المعادلة قد يكمن في قلب أطراف المعادلة لنقرأها "زيتك لا يكف عن مشكاتي" وعندها يمكننا أن نقرأ المعادلة على أنها علاقة تبادلية بين الزيت والمشكاة، وعدم الكف تعني المواصلة التي تدلت عليه اللفظة السابقة "فيواصلني الغرق" وهنا نجد أنفسنا أمام معضلة رياضية أخرى: فإذا كان الزيت هو المحرّض العضوي للمشكاة، فما معنى أن يستمر التواصل "المميت" ؟ وإذا كان هذا التواصل هو سبيل للحياة وليس للموت، فلماذا كان الاستئذان في قولها "دعني أضيء ببعض النار" ؟ ولماذا بالبعض، وليس الكل؟ غير أن القراءة الكفيفة لهذا المقطع هو" أنت زيت "حياتي" أو مشكاتي." ونلاحظ محاولات إثبات الاستقلالية المتحيّزة للجندر أيضاً بشكل رائع، فهو مجرّد زيت، ورغم أهمية الزيت فإن هذا الزيت، سيظل عنصراً "مكمّلاً" لعملية الإضاءة "الذاتية" وهذا يعني أنني "مضيئة" ولكن هذه الإضاءة يعززها زيتك، وبالتالي فإننا نجد حلاً لشيفرة "ببعض النار" إذ أنها معتزة جداً بذاتيتها، ولا تريد أن يظهر الأمر على أنه اعتماد كلي، بل هو جزء تكميلي في عملية الإضاءة أو "الحياة" ، وما تنكير "النار" إلا تكريس لهذا المفهوم الاستقلالي. ومن أغراض التنكير كما هو معروف هو "التحقير أو التصغير" فتصغير مقدار النار المعادل للإضاءة يعني بالضرورة قابلية المشكاة للاشتعال السريع، وهذا يعني بالتالي مدحاً للذات، وكأنها تريد أن تقول "أن قليلاً من زيتك كافٍ لكي يجعلني أضيء" وقد نقرأها بالعكس تماماً، فإن قليلاً من زيتك يعني أنّك لن تحتاج إلى بذل جهد أقصى من الجهد الذي يكفي لإشعال مشكاة. والجملة تحتمل القراءتين معاً. فهي إما تريد أن تلمّحه أو أن تلمّح مشكاتها "حياتها". إذاً فما زلنا ندور حتى اللحظة في فلك جدلية الموت والحياة، والتي تجيد الشاعرة التلاعب بها لمصلحتها تماماً.

ويستمر غموض التنكير، وتستمر الشاعرة في استعراض مقدراتها على تسخير التنكير في الحصول على معانٍ أعمق مما قد يتراءى للقارئ. فعندما تقول "عينانِ من أمنية" فهي تجعلك تتساءل: إلى من تعود هاتان العينان؟ هل إليها؟ أم إلى "زيت مشكلتها" أي المحبوب أم إلى عينين بعيدتين في الذاكرة. هذا التصوير السينمائي المتحيّز للقراءة البصرية يجعلنا نستشعر بوجود عناصر أخرى قد تكون غير بشرية، فقد تكون العينان عينا "الأنا" أو عينا "الذكرى" أو عينا "ألمٍ ما" أو عينا "حلم قديم" والدلالة المعطاة في النص "من أمنية" لا تدل على هوية العينين، بقدر ما تدل على انتمائية هاتين العينين إلى هذه الأمنية، وكأنها تريد أن تقول أن ثمة أمنيات لها كانت مدفونة منذ قديم، وهذا القدم يُساوي لديها نوماً عميقاً، وفي هذا البيت تحديداً تتجلى قدرة الشاعرة على التصوير البصري، والإسقاط، فهي تملك قدرة بارعة على إسقاط الأشياء على نظائرها. فهذا المقطع به نوع من التشبيه البلاغي الراقي جداً، إذ تشبه رموش الأعين بالستائر. ومجرد فتح الستائر يسمح لكمية مقدّرة من الضوء بالنفاد، ما يجعلنا نشعر بالعمى اللحظي. ولنقف قليلاً عند هذه الحقيقة الفيزيائية قليلاً ففيها صورة جميلة وعميقة. هذه الصورة تدل على أن هذه الأحلام والأمنيات المدفونة في مستودع الذاكرة، كلما سعت هي إلى تحقيقها، باءت محاولاتها بالفشل، تماماً كما يسعى النائم إلى فتح عينيه في الاستيقاظ فيعميه الضوء.

واعتماد الشاعرة على هذه الحقيقة الفيزياء بجملة مفتوحة الأطراف بهذا الشكل يجعلنا نؤمن بأن كامل النظرية الفيزيائية هو كامل المعنى الذي تريده، فالنظرية الفيزيائية تقول أن العين تحتاج لفترة زمنية محددة حتى تستطيع التعوّد على الضوء، وتصبح بعدها قادرة على أن تجابهها بعينين مفتوحتين، وهذا الأمر بإسقاط بسيط هو ما سوف تحصل عليه الشاعرة فيما بعد، إذ أنها تريد أن تقول "ويوماً ما سوف يتحقق الحلم" ولذلك نجدها تقول "في عقر غدي" واستخدامها للفظة "عقر" هو شغف الشاعرة باستخدام ألفاظ وثيقة الصلة الواقع المكاني أكثر منه في الزماني. إذ أنها لا تحتفي بالزمكان وهذا يؤكد عليه أنها شاعرة تجيد اللغة البصرية التي تعتمد على المكان أكثر من الزمان في كل تشبيهاتها وصورها البلاغية. وهي شغوف إلى حد بعيد بأساليب التحايل البصري للقارئ، لأن القارئ اعتاد على رؤية بعض الكلمات مقتربة بكلمات أخرى: "عقر الدار" و "حشرجة الروح" و "بحة الصوت" وهكذا، فلا نستبعد منها أن تفاجئنا بعبارة من قبيل "حشرجة الأمنيات" أو "بحة اللون".

وهذه الصورة من أروع ما قرأت مؤخراً، لأنها تحتوي على تكنيك استخدام الأدوات البعيدة والناقصة، في حين أنها تجسّد وقائع حياتية ملموسة وممارسة بشكل يومي. وحتى هذه اللحظة يمر علينا تكنيك آخر، وهو إسقاط معنى غائب حاضر في البيت على البيت الذي يليه، وجعله حجر أساس له، فعندما قرأنا البيت الأول "أرنو إلى تنفس .. فيواصلني الغرق" خرجنا بقيمة هي الموت والحياة، واستخدمت الشاعرة قيمة "الحياة" متمثلة في الإضاءة في البيت الذي يليه "مشكاتك لا تكف عن زيتي … دعني أضيء ببعض نار" وخرجنا من هذا البيت بقيمة هي جدلية الضوء والظل، واستخدمت قيمة "الضوء" في البيت الذي يليه "عنان من أمنية، تفتح ستائر رموشها في عقر غدي، تعمى" وخرجنا من هذا البيت بقيمة "الذكريات" وهي القيمة التي سوف تستخدمها في البيت التالي مباشرة "تلملمني مسافة ذاكرة، في حارة بعيدة" وهذا تستمر المتوالية بشكل جميلة جداً يجعلنا نؤمن بأن المقاطع - التي تتراءى لنا أنها غير مترابط – مترابطة بطريقة وثيقة جداً.

ويستمر مسلسل التنكير، أو الحفلة التنكرية للشاعرة في البيت التالي، معتمدةً على تشبيه الذكريات بأنها "حارة بعيدة" والحارة تعطينا الإحساس بالحميمية كما هي الذكريات التي تكتسب خصوصيتها وحميميتها من كونها تخصنا، وبعيدة لأنها في الماضي، وهذا تشبيه مجيد جداً تنفرد به الشاعرة التي دائماً ما تبحث عن المعاني والتشبيهات من هذا النوع البعيد القريب، فهي لا تحب حِرفة الدجاج، في التقاط الحبوب الساقطة على الأرض، سهلة المنال. هي تريد أن تحفّز أدواتنا للقراءة العميقة، تريدنا أن نشم لا أن نقرأ، أن نرى لا أن نقرأ. وهذه اللملمة تعتبرها إنجازاً يستحق التصفيق، ولذا فإن ثمة يداً تصفق في مكانٍ ما، وهذا التكريس للمكان هو استمرار في احتفائها بالبُعد البصري في النص، أولم نقل أنها لا تعاني من عقدة الزمان أو الزمكان، بقدر ما يستهويها المكان في حد ذاته في معزل عن الزمان! وقبل أن نغادر هذه الصورة، تضع لنا الشاعرة عقدة أخرى في منشار خيالنا، وذلك عندما تقول "تصفّق كف" وتُجيد التخفي وراء "بفرح" غير أن العقدة لا تنفك تُطالبنا بالإجابة: "كيف لكفٍ واحدة أن تصفّق!" وقد قالوا في الأمثال "أن اليد الواحدة لا تصفّق! وفي الحقيقة فإن مفهوم اليد والكف والأصابع لدى الشاعرة هو مفهوم مغايرة لما نعرفه نحن، فهي كالفنانة التجريدة التي تحاول أن تشير إلينا دائماً بألا نقف عند حدود الأشياء السخيفة، وهذه ثورة أخرى من ثورات المحدثين. فكما أنها تحاول بالتنكير أن تقول لنا "ليس المهم تعريف الاسم، المهم هو ما وراء ذلك" فكذلك تحاول أن تقول "ليس المهم أن تصفق الكف الواحدة أو الكفين المهم هو ما وراء ذلك" لأنها تجريدة محترفة، تُعنى كثيراً بإيجاد رمز يقوم مقام الجنس المراد. وهي بذلك لا تفترض في القارئ السذاجة. ولذا فهي تُمعن في صفعنا بهذا التجريد، فنراها تقول مرّة "كف" ومرّة أخرى "خمسة أصابع" وهي الكف في النهاية. ولكن تختلف عندها هي مسألة الكم والكيف هذه في إطار المكان واللغة البصرية. وإن قرأنا هذا البيت نجدها تريد أن تقول "أنها كلما اقتربت من حلمها المدفون في الذاكرة، صفّق لها أحدهم لهذا الإنجاز الوشيك، وهو وشيك لأنه لم يتم إنجازه، بدلالة "خمسة أصابع أخرى تخون سعادتي" أي بمعنى أنها تدفعها لفشل الإنجاز. هذه أيضاً معضلة أخرى، إذ أنها تقع بين محاولات الانتصار، وبين حقائق الانكسار. بين النصر والهزيمة، بين الأمنية والحلم .. وهي بهذا تضع لنا جدلية أخرى في صندوق مفاجأتها. وعندما تقول "تتركني قيد الوعي" فهي تعي تماماً ما تقول. فالفشل يعني الاستيقاظ من الحلم أو العودة من اللاوعي إلى الوعي. وهي تعني، العودة من عالم الخيالات والأمنيات إلى الواقع المرير الذي يُسيطر عليه الوعي بكامل قساوته، أو ربما كان هذا الوعي ضحية لهذا الواقع.

ولا بد لنا هنا أن نتساءل كما تساءلنا في الماضي "كفّ من هذه التي تصفق بفرح؟" و "أصابع منّ هذه التي تخون سعادتها؟" هذا السؤال يجعلنا نحمل كرت الجوكر في حيوبنا في انتظار مفاجئة سارة أو صادمة فيما يلي من أبيات، ففي كل بيت يكون ثمة شخصٌ خفي لا تريد أن تفصح عنه الشاعرة، وهو تكريس إضافي لمعنى التنكير والنكرة. فما زال هذا الشخص الهلامي نكرة بالنسبة لنا، وعلينا أن نجتهد في معرفته بلملمة أجزاء الpuzzle دون محاولات الشطح منذ البداية. وما بين تحقق الحلم وضياعه، نستخرج هذه القيمة التي سوف تتصعّدنا معنا إلى البيت التالي "طلع حلمٌ على صهوة جمري .. فاحترق" وهذا البيت بالإضافة إلى أنه يؤكد ما قلناه عن عملية تحريك واستبدال وتبادل قيم من بيتٍ إلى آخر، فإنها أيضاً تؤكد لنا ما قلنا عن شغفها بالتحايلات اللغوية فها هي تفاجئنا بقولها "صهوة جمري". وفي قراءتي الخاصة لهذا البيت فإنني أعتبره خلاصة للبيت الذي قبله، فهي تريد أن تقول بكل بساطة أن حلمها لم يتحقق. ولكن دعونا نتحايل على لغتها، ونتمعّن قليلاً فالياء المُلحقة بكلمة "جمري" فهل يكون هذا الضمير المتصل هو ذلك الشبح الهلامي المجهول الذي بحثنا عنه في الكف والأصابع الخمس؟ أم أن الجمر المتقد هذا مشابه للمشكاة المضاءة ويكون الرابط بينهما عنصر الإضاءة، لا سيما إذا عرفنا أن اللغة التجريدية للكاتبة توضح أنها لا تفرّق بين الإضاءة والنار، ودعونا ننعش ذاكرتنا بما قالته من قبل عن إضاءة المشكاة عندما قالت "دعني أضيء ببعض النار" إذاً فهي لا تفرّق بين الضوء وبين النار. وعليه، فهل يمكن أن تكون هذه الجمر جمر إضاءة أم جمر احتراق؟ هو بالضرورة جمر احتراق بدليل قولها "فاحترق" ولكن من أوقد تلك الجمر. فانتساب الجمر لها لا يعطينا دليلاً قاطعاً على أنها من أشعلت الجمر. وكما سألنا من قبل "كف من هذه؟" فإننا نتساءل هنا "من أوقد هذه الجمر؟" وهذا يجعلنا نحتفظ بكارت الجوكر في جيوبنا حتى نتعرف على هوية هذا الشخص المجهول بشكل قاطع.

هي الآن تسخر منا جميعاً ، وتوجه كلامها مباشرة إلى هذا المجهول: صاحب الأصابع الخمس، ومُوقد الجمر "أنت تعادل وجهك في مرآة بعضك للوهم" وقبل أن نحاول أن نبحث عن القيمة المنقولة من البيت السابق، دعونا نقف قليلاً عند هذه الجملة "أنت تعادل وجهك في مرآة بعضك للوهم" ففي هذا البيت جانب فلسفي عميق متعلّق بالتحريض على نقد الذات وليس جلده كما يبدو من القراءة الأولى، فالمعادلة هنا تشترط وجود السلبي "الوهم" والإيجابي "الصدق" مؤكدةً على المعنى القائل أن الإنسان ما هو إلا خلاصة الشيطان وخلاصة الملائكة، ولا شيء أقدر من المرآة تستطيع كشف هذا الأمر بجلاء ووضوح. وربما كانت هي المرآة التي تكلمنا عنها في البداية. والمعادلة هنا تأتي بمعنى التغليب، تغليب جانب الخير على الشر، أو العكس. جانب الوهم على الصدق، أو العكس. إذاً فهي مستبصرة بإخفاقات هذه المحاولات مسبقاً وهذا المعنى الذي على مستوى روحي يؤكد أنها تعلم تماماً هذا الكائن الهلامي المجهول بالنسبة إلينا، بل وأن ثمة علاقة حميمية بينهما، لأنها تريده أن يتغلّب بإرادته على جوانب الشر والوهم داخله، وأن يسمو على هذه الخصلة بمزيد من التصالح مع الذات وهذه هي القيمة المنقولة من البيت السابق.

القصيدة في مجملها قصيدة ملتوية حدّ الانكفاء على الجانب الروحي العميق جداً. هي إنما محاولات من الشاعر لتعريف الآخرين بالأشياء ليس بالتلقين ولكن، فقد بإعطائهم بعض الإضاءات. فهي تنير لهم الطريق، ولكنها لا تحملهم على السير. وتحب الغوص في عالم اللاوعي، لتستخرج منه ما يُمكّنها من السير على أرض الوعي، والوعي الحقيقي أو المجازي على حدٍ سواء. ولأنها أنثى فإنها ترفض ألا تكون هي هذه المرآة. ولكن كيف لنا نحن أن نعي هذه الحقيقة. فالمرأة تريد أن تكون هي المرآة الحقيقية لنظيرها، وتكون هي المعوّل الذي تساعده على هدم حوائط وهمه وتجاوزه إلى ما ورائه كي يتمكن من رفع منسوب الصدق داخله. فهو – أي الصدق – موجود وغير موجود، أو موجود وغير نشط، وهو في ذلك مماثل تماماً للجمر المتقد مسبقاً. ولأنها – الأنثى – كذلك فهي تذكره بأنه العزيز لديها بطريقة تغزّلية راقية جداً فنجدها تلجأ للتشبيهات والاستعارات مرّة أخرى، لأنها لا تحب الوضوح، ولا تفترض في نظيرها السذاجة، فتقول: "قهوة مرّة" والقهوة هنا هي حياتها الواعية، وأن هذه الحياة الجرداء "المرّة" لا تصفو لها إلا لأنه موجود فيها. إذاً فهي تناقش موضوعات وجودية عميقة في كل مرّة بطريقةٍ مختلفة" قهوتي مرّة، تحلو بكونها بنيّة كعينيك" وهذا تشبيه رائع، فالحياة المليئة بالمآسي والمرارات والإخفاقات والنكد، تكون لها كالجنة لأن نظيرها يشاركها ذات الحياة. تماماً كالقهوة المرّة التي تستطيع أن تجد بينها وبين نظيرها رابطاً في لونها المرتبط بلون عينيه! ولو أنهما لم تفعل لاختلقت شيئاً آخر لذلك.

الشاعرة مغرمة بمفارقات اللغة ربما أكثر من غرمها بنظيرها. وهي توظّف غرمها هذا بطريقة لا تجعله يشعل بالغيرة تجاهها، ولا تجعلنا نشعر بأنها إنما تفعل ذلك من أجل العبث اللغوي، وحسب. فعندما تقول "تعتنقني خرافة الأشياء دون إذن… أصيخ لها بأذن" فورطة اللغة تجعلها تقع في إشكالية لا يُمكن الخلاص منها إلا بالمزيد من التحايل. فنحن لا ندري من يعتنق من .. فهل الخرافة هي التي من تعتنقها "كما تقول" أم أنها من تعتنق الخرافة "كما تقول" إذاً فكيف تًفسّر لنا إصغاءها لهذه الخرافة. فهي بإصغائها لهذه الخرافة إنما تعتنقها حتماً، وقد يكون الاعتناق علاقة تبادلية، كما هو الحال في كثير من التناظر المماثل في هذا النص. ولكن ليس هذا هو السؤال، السؤال الأكبر هو "ما هي هذه الخرافة؟"

وتتقاطر المعاني المتصلّة بخفاء لتشعرنا بالقرب أكثر فأكثر من تلك الخرافة، "لبلاب غياب، لا زال يتسلّق على عمري" ولا أدري لماذا ذكرني هذا البيت بأسطورة النبتة العملاقة المنتهية بقصر المارد العملاق، وربما كانت العلاقة هي إصراري على معرفة كنه تلك الخرافة، أو الأسطورة، ولكنني على كل حال، شعرت بارتياح شديد، فهذه القراءة قد تكون مفتاح القيمة المنقولة من تلك الجزئية لهذه الجزئية. ولكن لماذا اللباب؟ وقبل أن نجيب على هذا التساؤل، هل لاحظتم ما تفعله لنا هند جودة؟ ألم تلاحظوا أنها تجعلنا مع نهاية كل مقطع نتساءل سؤالاً نجد إجابته في المقطع الذي يليه؟ وفي ذات الوقت، في هي تهبنا هدايا معلبّة في القيم المنقولة من بيتٍ إلى آخر! وهكذا هي قدرة الشاعر على استلاب القارئ والاستحواذ عليه، فتجعله كالقارب في بحرٍ لُجي، تسير كيفما شاءت لها الأمواج، ولكنها لا تقلبها. وهذا هو دورنا كقراصنة لغة يجب علينا أن نتشبث جيداً، وأن نراجع دروس الملاحة، حتى لا تنقلب بنا اللغة ونبتل بالمعضلة المستحيلة، والقراءة الخاطئة.

أما عن "لماذا اللبلاب" فلأننا الآن فقط بدأنا نستشعر مدى تداخل وتشابك هذه الحياة بهذه الجدلية، فكأنها كلبلاب عملاق فعلاً، يخرج منها ليدخل فيها مرّة أخرى. واللبلاب لا يتوقف عن الاستطالة طالما وجد أمامه عصاً يتمدد عليها، وإن لم يجد فإنه يتمدد "يلتف" على نفسه، فهو نبت متطلّع إلى الحركة. هل قلنا أن هذا النص محرّض على الحركة من قبل؟ إنني لاستغرب مدى تداخل المعاني والأشياء في كل مرّة، وهذا ما يجعل هذا النص متقناً بالصورة التي لا نتخيّلها أبداً إذا اكتفينا بالقراءة السطحية له باحثين أو منشغلين بالبحث عن موسيقى الشعر أو الإيقاع.

فقط أخفقت الشاعرة في قولها "يتسلّق على عمري" وكان من الأجمل أن تقول "يتسلّق عمري" لأن حرف الجر "على" هنا لا تعطي المعنى الذي تريد أن تصل إليه. فالتسلق على يُعطي دلالة باستغلالية اللبلاب. فهو إنما يتسلّق ظهرها ليصل إلى شيء آخر. وهذا المعنى وإن كان وارداً إلا أنه يهدم العنصر الجمالي للمتخيّل في النص مرتبطاً بما قبله، وما سيأتي بعده. بينما لو أنها قالت "يتسلّق عمري" لأدى بالضرورة الصورة الذهنية التي تريد أن ترسمها، وهي صورة فتاة مقيّدة باللبلاب وهذا القيد، يجب أن يكون كي يصبح هو القيمة المنقولة للبيت التالي "لن تقتحمني أنيابك بسهولة .. مصفّحة أنا ضدّك أيها الليل" فهذه اللغة المتمّردة، والمندفعة للخلاص تناسب تماماً حالة كون المرء مقيّداً، فهو بذلك يحاول أن يتخلّص من هذا القيّد. وتقول بأن هذا اللبلاب اللعين "الخرافة" لن تستطيع أن تتغلّب عليها، بجعلها مربوطة بشكل دائماً إليها، وهي بذلك تعلن كفرها البواح ، وانسلاخها من ملّة الاعتناق للخرافة. ولأن هذا القيّد هو قيّد مزعج ومحكم فهي تبدو أنها ليست واثقة تماماً من هذا التصريح الخطير. قبل أن تمتلك آلية فعل ذلك، وهذا هو القيمة المنقولة للبيت التالي.

"تعالى كالخريف .. وأسقط ما تبقى منك على أعصابي" وأنا هنا استغرب من كون الخريف معرفاً بأل التعريف، على غير ما عودتنا عليه الشاعرة، فكنتُ أتوقع بأن تقول "تعال كخريف" دون أن تسعى إلى تعريفه. ولكن هل ترى تريد أن توصل لنا رسالةً ما بهذا التعريف؟ لماذا جاء "الخريف" هنا معرفاً في حين أن بقية الأسماء قبلها كانت نكرة؟ ما الذي يميّز هذا الخريف عن غيره؟ وهذه هي تساؤلات هذا البيت. ألم أقل لكم أنها في كل بيت تترك لنا تساؤلاً نحمله على ظهورنا إلى البيت الذي يليه، وتترك لنا الهدايا في ذات الوقت!

العلاقة الاشتراطية بين الخريف، وبين السقوط، وهو بالضرورة "تساقط" وليس سقوط بالمعنى الفعلي للكلمة، وتساقط "البعض" من النظير على الأعصاب. هو تأكيد لمعنى الاستقلالية الذي كان بادياً في بيتها السابق "دعني أضيء ببعض نار" وهذا المعنى الاستقلالي المحمول عبر كل الأبيات السابقة، هو تأكيد على أن هذه الجدلية وهذا التناقض لا يُؤثر فيها بقدر ما يؤثر في نظيرها أو في ذلك الشيء المجهول الذي لم نستطع أن نصل إلى كنهه حتى اللحظة. ولكن يظل السؤال "ما هي القيمة المنقولة في هذا البيت؟" ثمة انفصال غير محسوس بين كل الأبيات السابقة، في سياق القيم المنقولة وبين البيت التالي "بياض روحك يغمسني بنكهة لا طعم لها" وللمرة الأولى التي يضحك فيها الآخرون من اقتناعهم بأنها تقدّم إهانة ضمنية لذلك النظير في قولها "لا طعم لها" إذ أن متلازمية الغزل تفترض أن يكون نكهة هذا الغموس في النظير يجب أن يكون طعماً مُشتهى، فهي ملاحظة ذكية، غير أنها ليست عميقة، لأن الفاعل هنا يجب ألا يكون بلا طعم لأنها بلا لون وهو "بياض الروح" فلأن الروح بيضاء، فإنها تظل محايدة في اللون وفي الطعم وفي كل شيء، وهذا الحياد مريح على السياق العام للنص الذي يسعى إلى نزع الاستقلالية من زخم هذه التناقضات المزعجة، فتعطيك صورة ذهنية لفتاة تجلس القرفصاء في سكون وهدوء، داخل فقاعة هوائية كبيرة في محيطٍ هادر.

وهذه الاستقلالية التي تفترض نوعاً من الجدية، هي التي تعنيها الشاعرة عندما تقول "لماذا حين لا أريد .. تكثر ابتساماتي" والتي هي بالضرورة عكس هذه الجديّة وبالتالي فهي بطريقةٍ ما عكس الاستقلالية. فهي تريد أن تشعر بأن ابتسامتها مستقلّة عن ذلك النظير كما في بقية الأشياء. ولذا فهي تنتبه في اللحظة الخطأ إلى هذه الجدليات المتداخلة في مسار حياتها التاريخ منذ الذاكرة وحتى لحظة ابتسامتها التي نفرت منها، وترى أن ذلك عبارة فوضى، وترى أنها الوحيدة المسئولة عن هذه الفوضى. وفي محاولة لتعديل المسار، بنوعٍ من الاستقلالية فهي، تجبر نفسها على التقوقع لأنها لا تريد أن تكون مكشوفة لا سيما في موسم الخريف حيث تتساقط "الأوراق" وهكذا نرى هذا التدفق في المعاني في آخر ثلاثة أبيات بهذا الخصوص في انسيابية موغلة في التصريح. واعتراف صريح منها بهذه الجدلية المُؤرقة.

وتبقى المسافة الفاصل – للتفريق – بينها وبين النظير أو ذلك الهلام المجهول، ما هي إلا مساحة تكفي لتوليفة نادرة وجميلة جداً لأنا أخرى. لأن الأنا الآن تعاني من إخفاقات الرسوب والفشل المتكرر من محاولات التكوّن في ظل ترصّد اللبلاب، واختفاء المماثلة الحِسيّة، لذا فإن اقتراح أنا أخرى "وليست جديدة" هو اقتراح تحصيل حاصل في حقيقته، ولذا فإنها أنا أخرى، وليست جديدة. فالأخرى تريد بها المماثلة الحِسّية المفقودة كما قلنا، وهي مسألة تعويضية قد تكون مبكّرة ولكنها ناجعة ومخلّصة، وهذا هو الخلاص الذي ظلّت الشاعرة تبحث عنه في طول القصيدة وعرضها. وفي اللحظة الحرجة مأخوذة من القيمة المنقولة، فإنها لا تريد أن يُلهيها شيء آخر عن لحظة التحوّل من طور الشرنقة حتى بتلك اللحظات الجميلة والممتعة، لأنها لحظات مخدّرة. "لا تلوّث أصابعي بسكّر كفيّك" وهنا إشارة إلى كفين، وليست كفّ واحدة هذه المرّة. لا بأس فالمسألة التجريدية لديها لم تنتهي، وعليه فيمكننا أن نأخذ هذه الكفين على أنهما ذلك الكف الواحدة سابقاً. والتلويث هنا، هو تلويث صناعي وليس تلويث حرفي، تلويث انشغال وتشاغل بمرحلة قمة في الأهمية، ألم أقل لكم أنها تكرّس لمفهوم الاستقلالية. ولكن هذا المعنى الرقيق يحمل في طياته معاني أنثوية قد لا يستوعبها الرجال في الغالب. فهي تريد الاكتمال من أجله، ولا تريد إقصاءه للأبد كما قد يُفهم من النص. فالمعنى هو: "انتظرني حتى اكتمل" والدليل على ذلك هو اعترافها الصريح والشجاع بالحلاوة، وكيف أنها استطاعت أن تحسم حاسة التذوّق هذه المرّة، دون أن تتركه لأمر القراء كما في السابق "بياض روحك يغمسني بنكهة لا طعم لها" بل إنها جعلت أمر الإفصاح عن ذلك لها شخصياً.

وتستمر قصص التنكير في "قصص شتاءٍ عتيق" والعتيق هنا إشارة واضحة لل"ذاكرة" التي كانت قد مرّت عليها من قبل، وعلاقة الشتاء بالمخيّم هي علاقة مكانية أيضاً وهنا تبدأ الشاعرة في الإفصاح عن ذلك الهلام المجهول، وهذا البيت بالتحديد اعتبره قمّة الجبل الذي لا انحدار ولا سفح بعده، فهي الآن في مرحلة الفراشة والخروج من الشرنقة، لتبوح لنا جميعاً بأن كل ما تخيّلناه من عشقٍ غامض، ونظير مُحلى بالسكّر، ما هو إلا وطنٌ جريح بكل مكوناته: شعب – حرب – أطفال – نساء – بنادق – أغصان زيتون – أناشيد .. إلخ. والشتاء يأخذها بطريقة الفلاش باك إلى ذكريات "لاحظوا أننا ذكرنا الذكريات مجدداً" قديمة أو "عتيقة" للركض والجري خوفاً .. وهذه هي الحقيقة الفيزيائية الثانية للشاعر، فالخوف والجهد بشكل عامل يجعلنا نُفرز الأدرينالين في دماءنا مما يجعل العروق تبرز في اخضرار يُشبه اخضرار الأرض، لا سيما لذوي البشرات البيضاء، بينما نحن – السُود - لا نعرف مذاق هذا الاخضرار ولا نستشعر الأدرينالين في عروقنا، إنما في حلوقنا وفي مذاق العَرق المُملّح. هي إذاً إنسانة مسكونة بتلك الذكريات القاسية والمؤلمة، ذكريات لا تحمل إلا صور الخوف والركض من سيارات العدو المحتل والقناصة، والمخيّم الذي يتقيأ البرد في الشتاء في تكون هي الأخرى إشارة أخرى تحفزّ العروق لذلك الاخضرار.

"ذات القصص تحتوي وحلاً … وأحذيةً جلديّة طويلة" هذا من أجمل ما قرأت على الإطلاق في وصف المقاومة. عندما شبهة الاحتلال بالوحل، والمقاومة بالأحذية الجلدية الطويلة، التي هي مقاومة للوحل. لقد قلنا أن هند جودة تُحسن جداً استعمال الاستعارات القريبة والبعيدة، وممارسة الإسقاطات والتحايلات اللغوية ببراهة فائقة، وليس أدّل من ذلك على هذا البيت الرائع. الذي هو خلاصة هذا الكلام الجميل، وعندها يتضح لنا الجواب المخزي والمحزن للسؤال الكبير "هل هذا الموت كان انتحاراً أو موتاً إجبارياً" فتأتي الإجابة بأنه: الاثنان معاً. الموت الطوعي المتمثّل في العمليات الفدائية والموت على يد العدو. وكلاهما يحمل توقيعاً واحداً.

في أدب المقاومة، تأتي هذه القصيدة سيدة الرمزية في الشعر العربي المعاصر، لما قرأته من شعر المقاومة. ورغم أنني لست مكثراً في هذا الفن من الشعر، إلا أن هذه القصيدة، تأخذك إلى عوالم أبعد من حدود إمكانياتك الحِسيّة، ترفعك إلى أبعد من حدود يديك ورأسك، لتُضطر إلى أن ترفعهما عالياً. وهذا النوع من القصائد الذي يحتوي الإجابات في الخواتيم، تجعلنا نعيد قراءة القصيدة مرّة أخرى، حاملين مفاتيح الألغاز وكلمات السر، لنفتح بها الأبواب السابقة. والوجوب في قولها "يجب أن يرحل أحد" هو ما لم يحتويه العنوان لأنها تتقن حِرفة التخفي والتحايل اللغوي.

نص مشبع بالوطنية التي لا تعني فقط بالوطن بل بالإنسان في المقام الأول. وليس الإنسان فقط، إنما في حياة الإنسان السرّية والصراع الذي يعيشه بينه وبين نفسه. وذكرياته الجميلة والمؤلمة. وجدلية الموت والحياة التي يحملها كل واحدٍ منهم داخله كالقنبلة الموقوتة، فيستشعر بها ومنها عظمة أن يكون لأحدهم وطن، وفي ذات الوقت أن يستشعر أن يكون هذا الوطن مستلباً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق