قديماً قالوا: "أخطأت الأرض فاستدارت، وأخطأت اللغة فاستعارت"
اللغة رهن إخمص العقل، والثورة الكامن في سيسيولوجيا الإناسة في عقت اللغة من كنف الزمكان الذي يلفه كسيجار كوبي أصبح الآن أكثر فساحة ورحابة للأشياء التي تقبع في الذاكرة. النص معزّز بالدراما المعتمدة على الحركة والنص المكتوب يُحاكي الإلقاء، وكأنني أرى صاحبة النص تتلو النص بالطريقة التي تريدها تماماً ثمة خطان مستقيمان جداً في هذا النص، لا ينفصلان ولا يلتقيان ولكن النص يحتاج إلى قراءات أخرى حتى تستبين الرؤية، والتكنيك المستخدم رائع ومُنهك، في آنٍ متفرقة. والشرك منصوب في كل بيت. هي إنما قصيدة ملغومة بالكامل
عنوان النص الأصلي هو "التفاف حول عنق اللعنة" وثمة ديباجة جانبية هي عبارة عن بطاقة تعريفية "لعنات خاصة أصبها في قالب من نص" وبين هاتين اللافتتين يقف الحوار بين العام والخاص في روح النص، وليس جسده بالطبع، وبين السرالية الواضحة في النص ابتداءً من اختيار العنوان، مروراً بالتكنيك المستخدم في "صبّ" النص أو قولبته وحتى الخاتمة النهائية. الكاتبة هنا تستخدم تكنيكاً يُمكن أن نسميه بالـ"محاكاة الأتيديودية" وهو أسلوب غالب ودارج لدى الشعراء المحدثين – نسبة إلى الحداثة – وهو يقوم مقام التصوير اللغوي للنصوص. وهذا التكنيك يخلق نوعاً من الإلفة القرائية بين النص وبين القارئ، ولكنه قد يفقد هذه الخاصة عند القراء أي عند قراءة النص للمتلقي مباشرة. وهذا هو النقد الوحيد الذي يواجه هذا الأسلوب التقني الحديث إذ يفترض في النص بقائه نصاً مقروءاً وليس مسموعاً.
هذه الأتيديودية تتجلى في أسلوب الكاتبة في التعبير عن "الالتفاف" بالتفاف عياني للنص حيث تبدأ بالديباجة كنقطة انطلاق لأفعى الأتيديودية الملتفة حول "اللعنة" ثم تبدأ الأفعى بالانحراف يميناً حيث الإهداء، ثم اليسار حيث المدخل ثم تعود لليمين حيث اللعنة الأولى … وهكذا. وإذا أردنا أن نصّور هذا الالتفاف الأتيديودي فإنه يتجلى لنا بهذه الصورة:
وبين العنوان والديباجية يمكن إثارة سؤال حول "اللعنة" حين يعني الالتفاف معنى حميمياً أو التفاف أفعى شرسة! وإشارة "خاصة" كصفة متلازمة لدى الكاتبة للعنات، فهذا يوحي لنا بأن هذه اللعنات لعنات حميمية بصورةٍ ما. فثمة قراءتين لمدلول هذه اللعنة، بعيداً عن المعنى المعجمي للفظة نفسها، حيث أن اللفظة معجمياً لا يدل على حميمية إطلاقاً، فبين أن يكون اللعن إقصاءً وطرداً وإبعاداً عن الرحمة والمغفرة والحب وكل ما هو إيجابي شعورياً، يظل معنى الالتفاف هذا يعوق دون استساغة هذا المعنى. فإن قلنا بأن اللعنة لعنة حميمية مناقضة بذلك المعنى المعجمي للكلمة – وهذا وارد جداً لدى شعراء الحداثة وأنبياء الاتجاه الرمزي – فهذا يقتضي أن نحمّل كل ما له علاقة باللعنة على محمل أقل ضراوة وأكثر وداً. فيكون عندها الالتفاف التفاف التصاق ودود ويكون "الخاصة" الواردة في الديباجة، معنى إيجابياً يكرس لهذا المعنى الحميمي. وإذا قلنا بأن هذه اللعنة موافقة في معناها لما هي عليه في المعجم، عندها لا يكون الالتفاف سواء انقضاضاً قاتلاً، وتكون خاص هذه إشارة إلى خصوصية الحالة. ولكن يظل معنى الالتفاف – الذي بمعنى التصاق سواء الحميمي أو الانقضاضي - مناقضاً بطريقةٍ أخرى لمعنى اللعنة، التي هي الطرد والإقصاء. وقد تكون القراءة عرجاء ومنفردة بحيث يكون الالتفاف بمعناه الالتصاقي كصفة حالية قائمة بذاتها ضداً للعنة سواء كانت حميمية أو موافقة للمعجم كصفة حالية قائمة بذاتها.
ولماذا نسهب في هذه التفصيل؟ لأن الكاتبة لا تريدنا أن نقرأ، بل أن نستشعر روح النص، وليس النص نفسه. وهذا المعنى لا يتأتى عندها إلا بمزيد من "الالتفاف" داخل النص نفسه. وبالانتقال إلى أول حركة أفعوانية داخل النص بعد الديباجة، نجد "الإهداء" الذي حمل طابعاً توددياً إلى شخص ترى الكاتبة أنه كان صاحب الفضل في امتلاكها ناصية اللغة التي ساعدتها على "صبّ" هذا القالب. تماماً كما نشكر بائع أسلحة القنص بامتنان لأنه كان كريماً في تعامله التجاري معنا. هذا الإهداء، حمل نوعاً من اللوم الغريب جداً لصاحب الإهداء نفسه، لأنه كان المتسبب الأول في الشكل الحزائني لنصوص الكاتبة بشكل عام، ولا يُفهم من هذا الإهداء إلا في سياق أنه إهداء، بأن الكاتبة تشكره على هذه اللفتة الحزائنية أو المسحة التراجيدية في نصوصها. لأن "الآه" تعبير عن حزن أو ألم أو معناة، فكيف لي أن أشكر أحداً أهداني عذاباته؟ ولكن هل تراه فعلاً أهداها عذاباته أم أنه أهداها عذابتها هي؟ ربما يكون هذا هو المفصل الذي يجعلنا نفهم لماذا تشكر الكاتبة هذا الشخص وعلى ماذا تشكره. ثمة قراءة ماورائية للإهداء، إذ من الممكن أن يكون الإهداء لصاحب اللعنات نفسه. كيف يهبنا الآخرون - القادمين من عميق ذكرياتنا المؤلمة – نعمة الاعتدال، فقد ندفع أثماناً باهظة مقابل أن نتعلّم فقط. فيكون بذلك الإهداء باقة سخرية زرقاء لهذا الذي تنوي أن تلتف حوله. وعلى كل حال فإن فهم اللعنة وفهم الالتفاف هما ما يحددان قراءتنا لكل تفاصيل النص القادمة بعد ذلك.
على شرفة الشباك المرحلي "المولج" توضح الكاتبة سبب سردها لهذا النص، وهنا انتقلت الكاتبة من توجيه الخطاب إلى القارئ مباشرة دون إيحاء منها. وفي هذه الشرفة إشارة جديدة لما أرهقنا فهمه في الإهداء عندما تتكلم عن "الذكرى" وهي لفظة من نسل "ذكريات" فتربطنا اللفظة بالمعنى الذي ذهبنا إليه من أنها تعاني من عذابات قديمة، معلّقة على سقف ذاكرتها. ولا شك أن هذا المُلتف حوله له علاقة وثيقة بهذه الذكريات المؤلمة. تجلس الآن الكاتبة على منصة المستمعين إلى شريط ذكرياتها، تاركة مهمة السرد لهذه الأنا.. وثمة صراع تحاول أن تخفيه الكاتبة بين كلاسيكيات الأنا وبين الواقع بكل مكتسباته. عملية انسلاخ متفردة، تخرج فيه الكاتبة من دور "الراوي" إلى دور "الرائي" هي إنما محاولة استسقاء لغوي غاية في الشفافية، ومحاولة للبوح.
وعلى بوابة اللعنة الأولى نصطدم بأول حقيقة معجمية حول جدلية اللعنة بين الطرد وبين الالتفاف، فنجد أن اللغة المعجمية تنتصر بوضوح تام. وهذا المقطع الأولي، يُشابه كثيراً انطلاقة السهم الأولى من تعريجة القوس. وكأن ثمة مارد تصنّع الوداعة لزوم الشيء وضده، ثم عندما حانت اللحظة انفجر. تبدأ "الراوية" بتوجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى شخصٍ ما حاولتُ الربط بينه وبين صاحب الإهداء، ولكن يبدو أنهما مختلفين تماماً. وهذا يحل عقدة واحدة من مجموع العُقد الموجودة في النص. هنالك صراع أيديولوجي واضح في هذا المقطع، بين كلاسيكيات الحب، وبين ليبراليات الرؤى الرومانسية المعاصرة. بن مسألة الثقة والغيرة والشك هذه الأبجديات الخلافية بين الجنسين دائماً وهو صراع كلاسيكي في طابع أيضاً، تحاول فيه الراوية أن تعرّي الزيف والخداع الذي يتدثر به ذلك الشخص. هي محاولة لتقشير البيضة، ونزع لحائها الخارجي لمعرفة ما يوجد بالداخل. الداخل دائماً أصدق بلا شك. و "أصدق" هذه لا تحمل دائماً المعنى الإيجابي، فقد يعترف السارق بالسرقة، فيكون صادقاً ولكنه يظل سارقاً أيضاً. وهنا تعلن "اللعنة" بمعناها المعجمي نظير هذا التظاهر. الراوية تتحدث عن الخيانة الأدبية والعاطفية، وهذا يوحي لنا بالمقابل وبشكل واضح الخطوط العريضة للتفكير العاطفي أو الفهم العاطفي لديها. هي تشترط الصدق المطلق، الذي يشترط الوضوح المطلق، الذي يُفضي إلى الثقة المطلقة.
في حين أن المقطع الثاني "اللعنة الثانية" تحتوي على دلالات مغايرة تماماً، هذه مرحلة انتقالية جديدة كلياً تناقش فيه مسألة وجودية صرفة .. الهروب من الكل إلى الجزء، وحدانية الشيء في ضده وليس في نفسه، ومحاولة الالتصاق بالشيء منحازاً إلى نفسه وليس إلى سواه. الخروج من النور "الكل" إلى الطيف "الجزء" مع افتراض العادة أو السُنّة الإسرائيلية "استبدال الطيب بالخبيث" كعادة تشير إلى التوهان ربما، أو التمرّد ربما، أو النمردة التي هي الجحود كما في قصة بني إسرائيل تماماً. مع إشارة إلى الميثيولوجيا الدينية المشهور "الضلع الأعوج" وهنا ثورة مخفية في ستار لغوي غاية في الدقة والإجادة، حيث لا يستقيم الضلع الأعوج إلا به هو !! وعندها يمكننا أن نسمع تنهيدة متهكمة " ها " ليأتي التصريح "عليك اللعنة يا أنا" هنا التفاف آخر للعنة حول الأنا هذه المرة، وكأن اللعنة شجرة لباب، تطول وتطول لتلتف حول القريب والبعيد، حول الداخل والخارج. وربما ثمة سؤال قد نستنبطه من "لا يستقيم إلا بك" مقرونة باللعنة الختامية: "هل لآدم أضلع غير عوجاء؟ أم أن أضلاعه كلها كذلك؟" ولأن التقرير هنا نوع من العبث، تصبح الإجابة قريبة من محاكمة إبليس بالنار رغم أنه مخلوق منها. واللعنة هنا ، ليست طرداً هذه المرة بقدر ما هي التصاق بكامل التفاصيل. فهي من نوع اللعنات التي تعني "كف عن ذلك، وتعال" أو "إذا كنت، فلا تكون"
وإلى اللعنة الأكثر نضجاً أو كما يُقال "التالتة ثابتة" وهنا تأخذ اللعنة شكل السيولة في "تدفق" التي جاءت في شكل متقاطر مكرّس أيضاً لمنهجية التصوير العياني للنص عند الكاتبة. وفي هذا التصوير إذ كان لزاماً عليها أن تدّفق الكلمة عرضياً وليس طولياً .. فالتدفق بمعنى السيلان يكون على مستوى عرضي أفقي وليس بمستوى عامودي رأسي، لأن الانسكاب بهذا المستوى إنما هو للتقاطر. إذاً نحن بين مدلولات التقاطر والانسكاب. نجد أن الحلّ اللغوي والميكانيكية كان في "لتصب في سويداء قلبك" ليكون المعنى الصحيح هو التدفق بمعنى التقاطر من الأعلى إلى أسفل. وبهذا يكون النص الحركي متوافق أتيديودياً مع الفعل النص اللغوي. وربما لم تشأ الراوية هذه الأتيديودية بحيث تكون هي الأعلى ويكون هو الأسفل دورقاً لاستقبال الدم المتقطّر. وهنا إشارة جليلة لخاصية العطاء، والمنح. تماماً كما ولو أنها كانت عملية نقل دم تتم وبهذا يختفي الفارق بين "الأعلى" و "الأسفل" لتصل إلى مستوى المنح الذي هو دائماً الصفة الاحتكارية للأنثى.
ثم يتجدد هذا التقطّر، ولكن على مستوىً آخر هذه المرة في "تعال" في إشارة إلى أن هذا التقاطر إنما هو معنى جمالي أكثر مما هو معنى ميكانيكي بالهيئة الرسومية للنص. مخبئةً المعنى الخفي للعنة وهو المعنى التوددي في شكل أكثر حميمية عندما يكون الجلوس على مستوى طفولي، كالجلوس على تل وتدلية الأرجل. هذا الشكل الحميمي يخرقه "لنكون قاب قوسين أو أدنى من الهاوية" هكذا نجد أن الكاتبة غير ملتزمة بالمعاني المعجمية للألفاظ التي تسوقها في نصها، وهذا النوع من التمرّد على اللغة يمارسه المنتمون إلى مدرسة الحداثة بكثرة، وهي جميلة عندما تكون مُدهشة، وليس عندما تكون مزعجة. وهذه الدهشة نجدها عندما نعرف أن السقوط إلى الهاوية سيكون اكتمالاً لا انحداراً، لأن القمة هي جنون، وبالتالي فإن السقوط من الجنون سيكون في معكوسه. وهذا شيء إيجابي أيضاً.
ثم تنعزل الراوية، دون اكتراث بالجمهور الذين دعتهم للاستماع، تماماً كما المشاهد الميلودرامية، لتعانق المحبوب في ملء الحضور، الكثيف وكأنه توقيع على القصة من أولها إلى آخرها لتعلن "حبها" لتقول للذين توهموا أن اللعنة هي لعنة معجمية "مخطئون تماماً، إنما هي لعنة متنافرة تماماً" إنها لعنة ضد الطرد، ثم تبدأ بممارسة اليوغا على طريقتها "زفير .. شهيق" بتقاطرية رسومية جميلة، ولكن هذه المرة تقاطرية أفقية.
هذا نقرأ هذه القصيدة على أنها حياة نيجاتيفية للأشياء والمشاعر وحتى اللغة، ويبقى الهم الوحيد للقارئ أن يحمّض هذه الصور النيجاتيف ليستطيع أن يرى الصورة الحقيقية بكامل ألوانها وجمالياتها التي تختفي في الأبيض والأسود، وفي جدلية المعجم والحِس الجمالي.
اللغة رهن إخمص العقل، والثورة الكامن في سيسيولوجيا الإناسة في عقت اللغة من كنف الزمكان الذي يلفه كسيجار كوبي أصبح الآن أكثر فساحة ورحابة للأشياء التي تقبع في الذاكرة. النص معزّز بالدراما المعتمدة على الحركة والنص المكتوب يُحاكي الإلقاء، وكأنني أرى صاحبة النص تتلو النص بالطريقة التي تريدها تماماً ثمة خطان مستقيمان جداً في هذا النص، لا ينفصلان ولا يلتقيان ولكن النص يحتاج إلى قراءات أخرى حتى تستبين الرؤية، والتكنيك المستخدم رائع ومُنهك، في آنٍ متفرقة. والشرك منصوب في كل بيت. هي إنما قصيدة ملغومة بالكامل
عنوان النص الأصلي هو "التفاف حول عنق اللعنة" وثمة ديباجة جانبية هي عبارة عن بطاقة تعريفية "لعنات خاصة أصبها في قالب من نص" وبين هاتين اللافتتين يقف الحوار بين العام والخاص في روح النص، وليس جسده بالطبع، وبين السرالية الواضحة في النص ابتداءً من اختيار العنوان، مروراً بالتكنيك المستخدم في "صبّ" النص أو قولبته وحتى الخاتمة النهائية. الكاتبة هنا تستخدم تكنيكاً يُمكن أن نسميه بالـ"محاكاة الأتيديودية" وهو أسلوب غالب ودارج لدى الشعراء المحدثين – نسبة إلى الحداثة – وهو يقوم مقام التصوير اللغوي للنصوص. وهذا التكنيك يخلق نوعاً من الإلفة القرائية بين النص وبين القارئ، ولكنه قد يفقد هذه الخاصة عند القراء أي عند قراءة النص للمتلقي مباشرة. وهذا هو النقد الوحيد الذي يواجه هذا الأسلوب التقني الحديث إذ يفترض في النص بقائه نصاً مقروءاً وليس مسموعاً.
هذه الأتيديودية تتجلى في أسلوب الكاتبة في التعبير عن "الالتفاف" بالتفاف عياني للنص حيث تبدأ بالديباجة كنقطة انطلاق لأفعى الأتيديودية الملتفة حول "اللعنة" ثم تبدأ الأفعى بالانحراف يميناً حيث الإهداء، ثم اليسار حيث المدخل ثم تعود لليمين حيث اللعنة الأولى … وهكذا. وإذا أردنا أن نصّور هذا الالتفاف الأتيديودي فإنه يتجلى لنا بهذه الصورة:
وبين العنوان والديباجية يمكن إثارة سؤال حول "اللعنة" حين يعني الالتفاف معنى حميمياً أو التفاف أفعى شرسة! وإشارة "خاصة" كصفة متلازمة لدى الكاتبة للعنات، فهذا يوحي لنا بأن هذه اللعنات لعنات حميمية بصورةٍ ما. فثمة قراءتين لمدلول هذه اللعنة، بعيداً عن المعنى المعجمي للفظة نفسها، حيث أن اللفظة معجمياً لا يدل على حميمية إطلاقاً، فبين أن يكون اللعن إقصاءً وطرداً وإبعاداً عن الرحمة والمغفرة والحب وكل ما هو إيجابي شعورياً، يظل معنى الالتفاف هذا يعوق دون استساغة هذا المعنى. فإن قلنا بأن اللعنة لعنة حميمية مناقضة بذلك المعنى المعجمي للكلمة – وهذا وارد جداً لدى شعراء الحداثة وأنبياء الاتجاه الرمزي – فهذا يقتضي أن نحمّل كل ما له علاقة باللعنة على محمل أقل ضراوة وأكثر وداً. فيكون عندها الالتفاف التفاف التصاق ودود ويكون "الخاصة" الواردة في الديباجة، معنى إيجابياً يكرس لهذا المعنى الحميمي. وإذا قلنا بأن هذه اللعنة موافقة في معناها لما هي عليه في المعجم، عندها لا يكون الالتفاف سواء انقضاضاً قاتلاً، وتكون خاص هذه إشارة إلى خصوصية الحالة. ولكن يظل معنى الالتفاف – الذي بمعنى التصاق سواء الحميمي أو الانقضاضي - مناقضاً بطريقةٍ أخرى لمعنى اللعنة، التي هي الطرد والإقصاء. وقد تكون القراءة عرجاء ومنفردة بحيث يكون الالتفاف بمعناه الالتصاقي كصفة حالية قائمة بذاتها ضداً للعنة سواء كانت حميمية أو موافقة للمعجم كصفة حالية قائمة بذاتها.
ولماذا نسهب في هذه التفصيل؟ لأن الكاتبة لا تريدنا أن نقرأ، بل أن نستشعر روح النص، وليس النص نفسه. وهذا المعنى لا يتأتى عندها إلا بمزيد من "الالتفاف" داخل النص نفسه. وبالانتقال إلى أول حركة أفعوانية داخل النص بعد الديباجة، نجد "الإهداء" الذي حمل طابعاً توددياً إلى شخص ترى الكاتبة أنه كان صاحب الفضل في امتلاكها ناصية اللغة التي ساعدتها على "صبّ" هذا القالب. تماماً كما نشكر بائع أسلحة القنص بامتنان لأنه كان كريماً في تعامله التجاري معنا. هذا الإهداء، حمل نوعاً من اللوم الغريب جداً لصاحب الإهداء نفسه، لأنه كان المتسبب الأول في الشكل الحزائني لنصوص الكاتبة بشكل عام، ولا يُفهم من هذا الإهداء إلا في سياق أنه إهداء، بأن الكاتبة تشكره على هذه اللفتة الحزائنية أو المسحة التراجيدية في نصوصها. لأن "الآه" تعبير عن حزن أو ألم أو معناة، فكيف لي أن أشكر أحداً أهداني عذاباته؟ ولكن هل تراه فعلاً أهداها عذاباته أم أنه أهداها عذابتها هي؟ ربما يكون هذا هو المفصل الذي يجعلنا نفهم لماذا تشكر الكاتبة هذا الشخص وعلى ماذا تشكره. ثمة قراءة ماورائية للإهداء، إذ من الممكن أن يكون الإهداء لصاحب اللعنات نفسه. كيف يهبنا الآخرون - القادمين من عميق ذكرياتنا المؤلمة – نعمة الاعتدال، فقد ندفع أثماناً باهظة مقابل أن نتعلّم فقط. فيكون بذلك الإهداء باقة سخرية زرقاء لهذا الذي تنوي أن تلتف حوله. وعلى كل حال فإن فهم اللعنة وفهم الالتفاف هما ما يحددان قراءتنا لكل تفاصيل النص القادمة بعد ذلك.
على شرفة الشباك المرحلي "المولج" توضح الكاتبة سبب سردها لهذا النص، وهنا انتقلت الكاتبة من توجيه الخطاب إلى القارئ مباشرة دون إيحاء منها. وفي هذه الشرفة إشارة جديدة لما أرهقنا فهمه في الإهداء عندما تتكلم عن "الذكرى" وهي لفظة من نسل "ذكريات" فتربطنا اللفظة بالمعنى الذي ذهبنا إليه من أنها تعاني من عذابات قديمة، معلّقة على سقف ذاكرتها. ولا شك أن هذا المُلتف حوله له علاقة وثيقة بهذه الذكريات المؤلمة. تجلس الآن الكاتبة على منصة المستمعين إلى شريط ذكرياتها، تاركة مهمة السرد لهذه الأنا.. وثمة صراع تحاول أن تخفيه الكاتبة بين كلاسيكيات الأنا وبين الواقع بكل مكتسباته. عملية انسلاخ متفردة، تخرج فيه الكاتبة من دور "الراوي" إلى دور "الرائي" هي إنما محاولة استسقاء لغوي غاية في الشفافية، ومحاولة للبوح.
وعلى بوابة اللعنة الأولى نصطدم بأول حقيقة معجمية حول جدلية اللعنة بين الطرد وبين الالتفاف، فنجد أن اللغة المعجمية تنتصر بوضوح تام. وهذا المقطع الأولي، يُشابه كثيراً انطلاقة السهم الأولى من تعريجة القوس. وكأن ثمة مارد تصنّع الوداعة لزوم الشيء وضده، ثم عندما حانت اللحظة انفجر. تبدأ "الراوية" بتوجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى شخصٍ ما حاولتُ الربط بينه وبين صاحب الإهداء، ولكن يبدو أنهما مختلفين تماماً. وهذا يحل عقدة واحدة من مجموع العُقد الموجودة في النص. هنالك صراع أيديولوجي واضح في هذا المقطع، بين كلاسيكيات الحب، وبين ليبراليات الرؤى الرومانسية المعاصرة. بن مسألة الثقة والغيرة والشك هذه الأبجديات الخلافية بين الجنسين دائماً وهو صراع كلاسيكي في طابع أيضاً، تحاول فيه الراوية أن تعرّي الزيف والخداع الذي يتدثر به ذلك الشخص. هي محاولة لتقشير البيضة، ونزع لحائها الخارجي لمعرفة ما يوجد بالداخل. الداخل دائماً أصدق بلا شك. و "أصدق" هذه لا تحمل دائماً المعنى الإيجابي، فقد يعترف السارق بالسرقة، فيكون صادقاً ولكنه يظل سارقاً أيضاً. وهنا تعلن "اللعنة" بمعناها المعجمي نظير هذا التظاهر. الراوية تتحدث عن الخيانة الأدبية والعاطفية، وهذا يوحي لنا بالمقابل وبشكل واضح الخطوط العريضة للتفكير العاطفي أو الفهم العاطفي لديها. هي تشترط الصدق المطلق، الذي يشترط الوضوح المطلق، الذي يُفضي إلى الثقة المطلقة.
في حين أن المقطع الثاني "اللعنة الثانية" تحتوي على دلالات مغايرة تماماً، هذه مرحلة انتقالية جديدة كلياً تناقش فيه مسألة وجودية صرفة .. الهروب من الكل إلى الجزء، وحدانية الشيء في ضده وليس في نفسه، ومحاولة الالتصاق بالشيء منحازاً إلى نفسه وليس إلى سواه. الخروج من النور "الكل" إلى الطيف "الجزء" مع افتراض العادة أو السُنّة الإسرائيلية "استبدال الطيب بالخبيث" كعادة تشير إلى التوهان ربما، أو التمرّد ربما، أو النمردة التي هي الجحود كما في قصة بني إسرائيل تماماً. مع إشارة إلى الميثيولوجيا الدينية المشهور "الضلع الأعوج" وهنا ثورة مخفية في ستار لغوي غاية في الدقة والإجادة، حيث لا يستقيم الضلع الأعوج إلا به هو !! وعندها يمكننا أن نسمع تنهيدة متهكمة " ها " ليأتي التصريح "عليك اللعنة يا أنا" هنا التفاف آخر للعنة حول الأنا هذه المرة، وكأن اللعنة شجرة لباب، تطول وتطول لتلتف حول القريب والبعيد، حول الداخل والخارج. وربما ثمة سؤال قد نستنبطه من "لا يستقيم إلا بك" مقرونة باللعنة الختامية: "هل لآدم أضلع غير عوجاء؟ أم أن أضلاعه كلها كذلك؟" ولأن التقرير هنا نوع من العبث، تصبح الإجابة قريبة من محاكمة إبليس بالنار رغم أنه مخلوق منها. واللعنة هنا ، ليست طرداً هذه المرة بقدر ما هي التصاق بكامل التفاصيل. فهي من نوع اللعنات التي تعني "كف عن ذلك، وتعال" أو "إذا كنت، فلا تكون"
وإلى اللعنة الأكثر نضجاً أو كما يُقال "التالتة ثابتة" وهنا تأخذ اللعنة شكل السيولة في "تدفق" التي جاءت في شكل متقاطر مكرّس أيضاً لمنهجية التصوير العياني للنص عند الكاتبة. وفي هذا التصوير إذ كان لزاماً عليها أن تدّفق الكلمة عرضياً وليس طولياً .. فالتدفق بمعنى السيلان يكون على مستوى عرضي أفقي وليس بمستوى عامودي رأسي، لأن الانسكاب بهذا المستوى إنما هو للتقاطر. إذاً نحن بين مدلولات التقاطر والانسكاب. نجد أن الحلّ اللغوي والميكانيكية كان في "لتصب في سويداء قلبك" ليكون المعنى الصحيح هو التدفق بمعنى التقاطر من الأعلى إلى أسفل. وبهذا يكون النص الحركي متوافق أتيديودياً مع الفعل النص اللغوي. وربما لم تشأ الراوية هذه الأتيديودية بحيث تكون هي الأعلى ويكون هو الأسفل دورقاً لاستقبال الدم المتقطّر. وهنا إشارة جليلة لخاصية العطاء، والمنح. تماماً كما ولو أنها كانت عملية نقل دم تتم وبهذا يختفي الفارق بين "الأعلى" و "الأسفل" لتصل إلى مستوى المنح الذي هو دائماً الصفة الاحتكارية للأنثى.
ثم يتجدد هذا التقطّر، ولكن على مستوىً آخر هذه المرة في "تعال" في إشارة إلى أن هذا التقاطر إنما هو معنى جمالي أكثر مما هو معنى ميكانيكي بالهيئة الرسومية للنص. مخبئةً المعنى الخفي للعنة وهو المعنى التوددي في شكل أكثر حميمية عندما يكون الجلوس على مستوى طفولي، كالجلوس على تل وتدلية الأرجل. هذا الشكل الحميمي يخرقه "لنكون قاب قوسين أو أدنى من الهاوية" هكذا نجد أن الكاتبة غير ملتزمة بالمعاني المعجمية للألفاظ التي تسوقها في نصها، وهذا النوع من التمرّد على اللغة يمارسه المنتمون إلى مدرسة الحداثة بكثرة، وهي جميلة عندما تكون مُدهشة، وليس عندما تكون مزعجة. وهذه الدهشة نجدها عندما نعرف أن السقوط إلى الهاوية سيكون اكتمالاً لا انحداراً، لأن القمة هي جنون، وبالتالي فإن السقوط من الجنون سيكون في معكوسه. وهذا شيء إيجابي أيضاً.
ثم تنعزل الراوية، دون اكتراث بالجمهور الذين دعتهم للاستماع، تماماً كما المشاهد الميلودرامية، لتعانق المحبوب في ملء الحضور، الكثيف وكأنه توقيع على القصة من أولها إلى آخرها لتعلن "حبها" لتقول للذين توهموا أن اللعنة هي لعنة معجمية "مخطئون تماماً، إنما هي لعنة متنافرة تماماً" إنها لعنة ضد الطرد، ثم تبدأ بممارسة اليوغا على طريقتها "زفير .. شهيق" بتقاطرية رسومية جميلة، ولكن هذه المرة تقاطرية أفقية.
هذا نقرأ هذه القصيدة على أنها حياة نيجاتيفية للأشياء والمشاعر وحتى اللغة، ويبقى الهم الوحيد للقارئ أن يحمّض هذه الصور النيجاتيف ليستطيع أن يرى الصورة الحقيقية بكامل ألوانها وجمالياتها التي تختفي في الأبيض والأسود، وفي جدلية المعجم والحِس الجمالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق