السبت، 14 مارس 2009

الفنتازيا السحرية في نصوص سارة حسبو

في حقبة ما من تاريخ الشعر السوداني المعاصر، وتحديداً في الفترة الواقعة ما بين منتصف التسعينيات وأواخرها، ظهر تيار شعري يعتمد على فكرة الإدهاش اللغوي المتركز على ربط المفردات التي لا يوجد بينها رابط مع الاحتفاظ –إلى حد الصرامة- بموسيقى وإيقاع الشعر الداخلي والخارجي. واعتقد البعض أن هذا الاتجاه سوف يصبح مدرسة أخرى من مدارس ما بعد الحداثة التي تغنت كثيراً بحرية الكلمة وحرية الشعر، إلى حد الانفلات؛ إلا أنه سرعان ما اختفى هذا التيار مع حركات النقد الجادة التي شهدتها الساحة الشعرية، بالتزامن مع بعث النمط الشعري الحديث إلى الحياة مرة أخرى، ليعود في تلك الفترة –وبقوة- جهابذة هذه المدرسة من أمثال الفيتوري ومصطفى سند وغيرهما الأمر الذي أعاد النهر إلى مجراه من جديد.

ساعد على ذلك أيضاً تحزّب دعاة تلك التيارات النامية والتي -تعارف على تسميتهم بالمثقفاتية- في مجموعات بحيث لم تكن مؤثرة كفاية لتغيير اتجاهات المتلقي السوداني الشعرية؛ سيما أنّ هؤلاء كان أغلبهم من الشباب المغمور، ولم تجد كتاباتهم طريقها إلى النشر والتوثيق بينما ظلت متداولة في التجمعات غير المنظمة، وجلسات الاستماع، الأمر الذي أسهم في الإسراع بموت هذا التيار، أو على الأقل، اختفائه عن الساحة.

ولعل الحديث هنا عن النمط الشعري يقودنا قسراً إلى الحديث عن اتجاهات الشعر وموضوعاته في تلك المرحلة والتي استصحبت الكثير من الجدل حول مفهوم الحداثة في الشعر، وطرح تساؤلات حقيقية كبيرة حول ماهية الشعر، وأغراضه، ومن هنا –كذلك- تأتي أهمية تناول بعض النماذج الشعرية من شعر هذه الحقبة، أو هذا التيار الذي امتاز بالتوغل في الأعماق الإنسانية بنسق الفنتازيا السحرية المتماهي تماماً مع تعرجات المسائل الوجدانية، وارتباط هذه الظاهرة الشعرية بالنفس الاجتماعي والسياسي السوداني العام، ساهم بشكل أكبر في إبراز هذا التيار بشكله الغرائيبي الذي أتى معبّراً عن المناخ السائد। ومن ناحية أخرى فإن المناخ العبثي أثر بذات القوة والمقدار على أنماط الشعر ليأتي الشعر في عبثيته المفرطة سواء من حيث البناء أو من حيث الموضوع فنجد قول أحدهم:


وأنا أفتش للعلاقة بين كافتيريا الصخور
وحزب “دن دن” المشاكس
آيدولوجيا النوم


إذ لا رابطة منطقية أو عفوية ظاهرة تفرض نفسها على النص، بينما تغلب عليه العبثية الموحية بالاستخفاف والتمرّد وفي أحيان كثيرة الإحباط. كما في قول الشاعر عثمان البشرى:

الصمتُ فيَّ وفي خيانات الجسد
بعض الشوارع لا تسيء لسابليها
كل الشوارع لا تسيء إلى أحد
أن الشوارع في الزبد
ولك السماء بكل زرقتها
ولكن شئت أن تمشي عليّ
وتقطع الألوان عن رئتي
وفي رئتي لأشهق للأبد
أبد لهذه الريح
الهكذا يبدو أمامي الكون؟
في التحايا الصُفر والشُرف السميكة
مسروقين نحن بنا
بكل التافه العادي ودهشات الجليد
مسروقين حتى لو تكلمنا
عن الأوزون بعد دقائق
من انتقال الأرض صوب مناخها التالي
ولوخضنا حروب الفقه ضد الفقر
أسسنا لنا شعب ودالية ورب
هذا انكسارك دائما هذا انكساري

كذلك فإن تلك الحقبة شهدت ولادة العديد من التيارات المماثلة والتي تتشابه وتختلف بين بعضها البعض من حيث التناول الشعري، ليكون “الغموض” هو القاسم المشترك الأكبر بين كل هذه التيارات الحديثة، وطالت هذه العدوى حتى الشعر المكتوب والمقروء باللهجة المحكية فنجد أحدهم يقول:
المكوجي …
بتوبو البنفسجي
بخّ فيك ..
توتر عام

مثل هذه النماذج وغيرها الكثير تعبر عن روح عبثية متآمرة تسلّطت على الحركة الشعرية والاجتماعية بذات القدر। ومن باب العبث في الشعر أن يميل شعراء هذا التيار أو بعضهم على الأقل إلى التمثيل الجسدي أو الصوتي ليكون هذا التمثيل امتداداً طبيعياً لبنية النص الشعري وقد يدرج البعض كتابات عاطف خيري ضمن هذا التيار العبثي أو الغرائيبي والذي جعل من الرمزية ثيمة أساسية له، فظهرت الرمزية بأشكالها المتجاوزة للحد، حتى أنها لتكاد تستعصي على الفهم، ومن هنا فإننا نقول بضرورة السؤال عن ماهية الشعر، وهل يقال الشعر ليفهم، أم يقال ليُحس! إنّ قصيدة كقصيدة (سيناريو اليابسة) للشاعر عاطف خيري، تجعلنا نتساءل كثيراً حول موضوع القصيدة، وهدفه منها، لأن اختلاف المقاطع الشعرية في النص الواحد تكون مفتوحة على كافة الاحتمالات، فعندما نقرأ مثلاً قوله:


اليابسة … فِركة .. مدخورة لى يوم فيهو ساير النيل
قطـّاع رحط كل الجزاير
والبنات البفتحوا الباب للمطر
وأنا جدولك شارف على كل الجداول الصاحية فيك
والغباش فى دمى منك
لو كسر ضلعين عذرتو
لكن نهر كل العصافير البتلعب فى الوريد
وفنـّاكى جواى زى حجر
والبينـّا ما فات الدوائر
الليل خِمار القمرة ..
مجدوع فى الفراغ
والرقصة لى البت فينا ..
فوق كل المسامير الندقها فى البساط
والرياح حكـّامة بى دلوكة مرّقت الشياطين .. المنها
إتجنن فقير الحلة دقيناهو
بى نفس السياط
كل المجرات .. النيازك والشُهُب
ودع راميهو الله على السما
والدنيا زار


إن قراءة سريعة وبسيطة لهذه الأبيات لا تتيح لنا معرفة المحور الرئيس لهذه الأبيات، ولا تعطينا ربطاً منطقياً بين كل فكرة وأخرى، إلا إن فكرنا في كل فكرة بشكل منفرد. ولا يغفل القارئ الاهتمام بالإيقاع الشعري في كل النماذج المتقدمة، في الوقت الذي يغفل فيه الشاعر بشكلٍ متعمد مسألة الفكرة، فالفكرة في حد ذاتها ليست عقيدة وإنما هي نقطة محورية تكبت الشاعر وتحول دون انطلاقه. إن هذا التيار الذي يمجّد الخيال ويقدس الإيقاع ويهيم بالفنتازيا كان لا بد له من الاختفاء وراء جدارية الرمز والرمز المبطّن لكي يجد مسوغاً لجنوحه المدهش.

يمكن لكل شخص –إضافة إلى كاتب النص- أن يقرأ النص كما يحلو له وأن يرى فيه ما يعتقده وما يراه، وهذا هو سبب إعجاب أصحاب هذا التيار بهذه اللونية من الشعر، فقد يتحصّل على البراءة الكاملة من نصه دون أن يتحمل مسئوليته، لأن مسئولية النص تقع –عندها- على القارئ مباشرة. كذلك فإن تحميل القارئ مضان القراءة لهي فكرة مدهشة في حد ذاتها، لأن عدم القدرة على الربط بين الفكرة وأختها في ذات النص تجعلنا لا نركز على الأفكار بقدر ما نركز على التعبير عن هذه الأفكار وعن مفارقات النص. ففكرة أن تكون الكواكب “وَدِع” في السماء هي فكرة مدهشة ولكن لا يمكنك إيجاد رابط بين هذه الفكرة وفكرة الرياح التي شبّهها بالحكّامة* التي تقرع “الدلوكة” وتضرب عليه؛ وإن كنا سنعتقد للوهلة الأولى أنّ للمشهد علاقة بالسحر أو الشعوذة لوجود قرائن تدل على ذلك: “شياطين”/”فقير”/”ودع”/زار فإن ذلك لا يتسق مع الفكرة السابقة لهاتين الفكرتين، اعني فكرة (الليل خمار القمرة مجدوع في الفراغ) بل إننا لا نفهم ارتباط هذه الفكرة بفكرة (والرقصة لي البت فينا فوق كل المسامير الندقها في البساط) فالرابط إيقاعي أكثر منه رابط لغوي أو حسي.

فكرة تلك التيارات الشعرية –كما قلت- كانت قائمة على الإدهاش من خلال ربط ما لا يمكن ربطة لا من حيث المفردات ولا من حيث المعنى، ليصبح الشعر أحجية يدعي شاعرها أنه فقط وثلة من النخبة من يملك مفاتيح أسرارها، ويرجئون استهجان المتلقي لهذه النوعية الشعرية إلى أن ليس بمقدور الجميع إدراك المعاني الحقيقية وراء مثل تلك النصوص المبهمة بل الموغلة في الغموض. كان ذلك النمط الشعري إنما يراهن على ذلك. حتى أولئك المتلقون الذين انساقوا وراء هذا التيار لم يكونوا قادرين على إيجاد تفسير منطقي وواضح لاندهاشهم وإعجابهم بتلك اللونية الشعرية. وربما كان الأمر الأكثر وضوحاً في هذه اللونية هي أنها ساهمت بل قامت على أنقاض وحدة الموضوع والوحدة المكانية والزمانية في القصيدة.

ومما لا شك فيه أنّ هذا التيار نشأ في رحم ظروف موضوعية ساعدت كثيراً في بروزه على الأقل على مستوى الطبقات المثقفة والنخبة، ورغم أنّ هذا النمط الشعري تمت مواجهته بسيل من الهجوم العنيف والنقد اللاذع إلا أنه لم يندثر أو لم ينحسر مده تبعاً لذلك، بل -كما قلت- كانت الحركة النقدية وعودة النماذج الشعرية التقليدية سبباً مباشراً وراء ذلك. ورغم الانتقاد الذي يوجه إلى أشعار هؤلاء (مصطفى سند مثالاً) إلا أننا نجد أن الذائقة العامة للمخيّلة الشعرية السودانية، تحتفي بمثل هذه الأمثلة وتضعها في المراتب الأولى، متجاهلة بذلك ضرورة المعنى، لأن القارئ لنصوص مصطفى سند مثلاً، قد يستشعر نشوة الإيقاع وجرس الألفاظ المناسب بعذوبة محترفة، ولكنه رغم كل ذلك لم يكن باستطاعته الإمساك بالثيمة الأساسية للنص الشعري: أي حول ماذا يدور النص، وما موضوعه. ويدلنا ذلك على أنّ ذلك لم يكن إحدى هواجس الشعر السوداني الحديث، فقد عمدوا إلى خلع الموضوع والاهتمام بما يمكن أن أسميّه بتعدد الموضوع، إذ أن كل مجموعة من الأبيات تحتوي داخلها على موضوع منفصل تماماً عن مجموعة الأبيات التالية أو السابقة، وتشترك كل هذه الموضوعات في النسق العاطفي العام لها.

الإدهاش في نصوص سارة حسبو
مثلما ذلك التيار الذي يحتفي بالرمز معلياً راية الإدهاش في وجه اللغة وفي وجه المعنى والموضوع الشعري، تمثل نصوص سارة حسبو امتداداً طبيعياً لهذا التيار، ربما كان من باب لزوم ما لا يلزم أن يهتم الكاتب بإدهاش القارئ، وربما كان ضرورة شعرية ملحة، وربما كان متعة ذاتية أو إشباعاً لرغبة متعالية في جانبٍ ما منه أو ربما أي شيء آخر، ولكن الأمر يستحق العناء بالفعل. فهي –لاشك- تبذل جهداً مقدراً لصياغة تلك الأفكار المجنونة، بنفس مجنون، وتبذل مقداراً أكبر من الجهد في اختيار مفردات مجنونة تتماشى مع هذا السياق الجنوني. وأول هذا الجنون أنها لا تعترف أبداً بالبدايات أو النهايات المتوقعة أو الكلاسيكية التقليدية، فنجدها دائماً ما تلجأ إلى البدايات المبهمة، والنهايات المستفزة، ما يفتح شهية القارئ على المزيد من فعل القراءة، وكأنها تراهن على صبر القارئ على كتاباتها.

الأمر ليس بالسهولة التي قد يتوقعها البعض لدى قراءتهم لمثل هذا النمط من النصوص الشعرية، بل إنه في غاية الصعوبة؛ إذ يتطلب الإدهاش إعمال المقدرات التخيّلية، والغوص في قواميس اللغة والتخيّر منها ما يناسب مقام الدهشة بعناية فائقة. إنه عمل أشبه بالغوص دون أنبوبة أكسجين في بحر مالح، لجلب صدفة تحتوي على لؤلؤة جميلة غير متوقعة الحجم. هذا الغواص لا يكتشف اللؤلؤة أعلى سطح الماء على قاربه، إنما يجازف بفتح الأصداف داخل البحر، وإن لم يجدها جميلة ومغرية فإنه يلقيها –ببساطة- مرة أخرى. إذن؛ فهو عمل إبداعي قوامه المتعة والإمتاع. المتعة الذاتية والإمتاع للآخر. أشعر بها وكأنها تستمتع فعلاً بكتابة نصوصها الشعرية، ولا أستبعد أبداً أن تمارس هذا الاستمتاع عندما تقرأ نصوصها على مسامعها، وكأنها قارئ محايد تماماً. المجانين يفعلون ذلك!

كتابات سارة حسبو ليست فقط تدعو للدهشة والإمتاع، بل تشعرك بالخوف أيضاً، لأنها في نصوصها، لا تخاطب القارئ، ولا تخاطب نفسها، إنما تناجي شيئاً ما، يبعد أو يدنو من حدود علاقتنا اللامرئية بعالم طيّب، ولكنه مخيف! عالم بعيد، ولكنه أقرب إلينا من حبل الوريد. لم تنفصم حسبو عن النسق المثالي في نصوصها، أو في معظم نصوصها التي قرأته لها، فكانت دائماً تحاول أن تعلي صوت الأشياء التي لا يُستفاد من حيويتها لأنها (أي الأشياء) لا تتحرك إلا في محيط ليس لنا أبداً، ومن هنا تشعرك نصوص حسبو بهذا الخوف الممتع واللذيذ؛ فعندما تقول:
“ما يخزقك؟
أومأ لي ميت منذ ما يكفي من الأعمار.
قلت: لا شيء ، خلا أني أصرخ بدستة حناجر!”
أخرس”


فإنك تشعر بقبيلة من النمل الزجاجي اللاذع يتسلل إلى جسدك وشرايينك، ولا شك أنها تعلي من جانب الخيال حتى أنه يخيّل إليك في كثير من الأحيان أن الأمر الأهم في فعل الكتاب هو استفزاز ملاكات الخيال لدى الكاتب، هكذا يقول أصحاب التيار الرمزي، لأن الرمزية في حد ذاتها تحتاج إلى مقدار جيّد من الخيال.

اللغة:
تستهزئ سارة حسبو باللغة كما يفعل أقرانها في مدرسة الرمزية الما بعد الحداثة ونجدها في كثير من الأحيان لا تستشعر قوتها إلا عندما تعييد تقييم رؤيتنا للغة من جديد، وكأنها تريد أن تقول “اللغة يجب أن تعبر عن المحسوس” وهي بذلك إنما تنتمي إلى خط يؤمن بحيوية اللغة وأسبقية الوعي البشري عليها. وليس من خلال التراكيب اللغوية تتم صياغة المعاني، إنما من خلال الشعور الإنساني يتم صياغة اللغة والتراكيب اللغوية. اللغة لم تصنع مفردات للتعبير عن الألم، ولم تصنع مفردات للتعبير عن الشوق بل الإنسان هو من ابتكر هذه المفردات الصوتية، حتى أن بعضها لم تستطع اللغة أن تستوعبها فما استطاعت أن تخترع لها مفردات تناسبها: كالتنهيد، والتأوه .. إلخ. أبعد من ذلك نجدها لا تكترث كثيراً بالبحث في قواميس الفصحى، فهي منشغلة عن ذلك بإعمال خيالها، وعلى ذلك فإنها تترك لخيال اختيار ما يراه مناسباً من التعابير والألفاظ سواء أوافق ذلك فصحى اللغة أو عاميتها المحكية. لذا فإننا نجدها في نصها (في أمنته – وردة إلى الإله 1) تستخدم تعابير مثل: (يخزقك) وأغلب الظن أنها مشتقة من (الخازوق) وهو نحت غريب بالتأكيد، ولكن كل شيء وارد وقابل للتداول عند أصحاب التيار الرمزي الذي نتحدث عنه بالطبع. كذلك نجدها تستخدم (دستة) في قولها:
قلتُ: لا شيء خلا أني أصرخ بدستة حناجر


كذلك نجدها تستخدم مفردة مثل (غشيانات) من الفعل (غشا) والغشيان هو انقطاع النظر -لا البصر- بمسبب خارجي لا داخلي، فلا يصح أن نقول أن فلاناً غشا، بل نقول أن شيئاً ما غشا فلاناً، أي حجب عنه الرؤية، ونلاحظ أنها هنا تسخر كثيراً من قواعد اللغة الصرفية والنحوية، ولا تلقي لها بالاً، فهي لا ترى ضرورة للتقيّد بمثل هذه القواعد الكلاسيكية، وإلا لما كانت منتمية إلى عصر ما بعد الحداثة بالتأكيد. وإذا قرأنا الجملة التي وردت فيها هذه الكلمة:
والأوطان
وجوههم –وحدها- ساهمة
غشيانات
حناظل مروية
ونازحة
من طاعون حوجتي


نرى أنها وردت كوصف للوجوه والتي هي -في الأصل- (أوطان)؛ إذن فالمراد العام من هذا الكلام أنّ هذه الأوطان سقيمة وموحية بالسقم، كئيبة ومريرة، وجاءت تلك التعابير متناسقة تماماً مع الحالة التي أرادت أن تصفه. اللغة كهرباء عالية الضغط، تصعق كل من حاول أن يعبث بها ويغيّر في تردداتها. البعض فقط من يتقنون فن التعامل مع الكهرباء فهم بذلك إنما يعرفون كيفية الاستفادة القصوى من ملكاتهم ومواهبهم الخاصة. ولكن هذا قد لا يسهل التدرب عليه في الشعر والأدب بصفة عامة، وسارة حسبو واحدة من هؤلاء!

لاحظ العبارة الأخيرة من المقطع والذي تقول فيه (نازحة من طاعون حوجتي) هذه الجملة الجمالية إذا تم تبسيطها إلى شكلها الأولي نجدها تريد أن تقول (أنا أحتاج إلى وطن) ولكن (النزوح) في دلالاته على التشرّد والضياع، يفيد الإشارة إلى عملية أكثر إنسانية وهو (البحث)، ولكنه عند سارة حسبو ليس بحثاً إنما (حوجة) وهو ليس مجرّد حوجة اعتيادية، ولكنها حوجة قاتلة (طاعون)، وذلك الشيء (الوطن) هو إنما (فكرة) بالنسبة إليها، كما عبّرت عن ذلك بقولها:
لاجئة فكرتي
الفقيرة، عن غناء المعتازين
خلفما
حدود عوزي

وأن يكون الوطن فكرة ، فهذا يعني أنّ الوطن هو منقسم على اثنين، وطن متخيّل ووطن واقعي. وغالباً ما يكون الوطن المتخيّل هو الفكرة ، ولكن أستحسن هنا استخدام حسبو للفكرة وليس المخيلة، لأن المخيلة قد لا تخلو من رومانسية ومثالية فجة لا تتسق مع الواقع. صحيح أننا نبحث في خيالنا وأفكارنا عن أوطنا أجملاً صورة وهيئة مما هي عليه في الواقع، ولكن أن تنفصل هذه الصورة بالكلية عن الواقع لهو ضرب من الجهالة المفرطة، وهو ضرب من تمني ما لا يمكن إلا أن نتمناه دون الحاجة إلى توقعه. والشيء الأقرب إلى الواقعية هو أن تكون هذه الأوطان (فكرة) متسقة المضامين مع كليات الوطن الواقعي. وهذه النقطة بالتحديد تجعلني أتساءل، ترى فيم ترى سارة حسبو انتمائها إلى الفنتازيا السحرية؟ إن كان ما تتحدث عنه لا ينفصل كثيراً عن الواقعة. الواقعية في (فكرة) الوطن بشكل عام جميلة، ولكنها غير متسقة مع النهج الفلسفي والأدبي للشاعرة، أو هكذا خيّل إلي.

هل تريد أن تعرف من تخاطب سارة حسبو بهذه الأبيات؟ لا أنصحك بأن تفعل لأنك سوف ترهق نفسك كثيراً إن فعلت. ولقد قلتُ من قبل بأنها لا تخاطب القارئ بنصوصها، ولا تخاطب نفسها، إنما تناجي شيئاً ما، يبعد أو يدنو من حدود علاقاتنا اللامرئية بعالم طيب ومخيف في ذات الوقت. هل شعرتَ بأنها تناجي (الله) في هذا الخطاب؟ أم تناجي (الوطن) المتمثل في ضمير المفرد الغائب؟ هل يجدر بك أصلاً أن تعرف؟ إذا كنتَ من نوع القارئين الذين يهتمون لذلك، فعليك أن تحمل عبوة أكسجين وترتدي قفازاتك التي ضد الماء ، لتغوص معنا في محيط هذه الكتابة المالحة إلى حد القسوة. كذلك نجدها تستخدم كلمة مثل كلمة (حرد) كما في قولها:
أنا المحارة
والبحر يحردني

ونلاحظ أن استخدامها للكلمة في النص يأتي بنفسها استخدامها في العامية المحكية، ومن المعلوم أن الحرد بالفتح على عين وفاء ولام الفعل هي من الكلمات المستخدمة في العامية السودانية، ولكن؛ من يأبه لذبك! والحرد هو اللفظ ولكن باستصحاب تجربة وإرث عامي خالص بالتأكيد، فرفض أو لفظ الشيء بدلالة معنوية هو الذي يعبّر عنه الفعل (حَرَدَ) والذي لا يدل عليه شيء آخر غيره. ولكننا نجدها في موضعٍ آخر عندما لا تتناسب الكلمة مع المراد المعنوي المعني فإنها لا تتوانى في استخدام ما تشاء من فصاحتها، لذا فإننا نجدها تقول:
وطني يمامات صاغها بحر لفظ المحارة


إذن فاللغة في حد ذاتها ليست هي الموضوع، إنما الفكرة والخيال المتجني على القواعد اللغوية وكل المسلمات، لذا فإن سارة حسبو تنتمي –وبجدارة- إلى زمرة ما بعد الحداثة. وهنا يمكننا أن نفهم المخاطب في مناجاتها، ولكن، لم يحن بعد أن نفهم كيمياء التراكيب المتخيّلة لديها. فاليمامة في المقطع السابق تأتي في إشارة إلى السماء ، ولا رابط بين السماء والبحر إلا في حدود (فكرة الوطن) المتخيّلة نفسها؛ إذ يحق لها تخيّل وطنها كيفما ومثلما شاءت، وما بين البحر والسماء ربما كانت حسبو تعلم بهذا الوطن وتبحث عنه في مكان ما، ولكن ما علاقة الله بكل هذا؟

الله في نصوص سارة حسبو:
للوهلة الأولى يبدو النص وكأنه رسالة موجهة إلى الله (إلى أمكنته .. وردة إلى الإله) هذا ما يبدو في ظاهر النص، وفي كثير من المقاطع التي جاء فيها ذكر الله أو الآلهة بنص صريح، ولكن يجب ألا نغفل الرمزية التي تغطي الفكرة الشعرية في نصوص حسبو أبداً، فالله قد لا يكون الله المعبود الذي يعبده ملايين المتدينون، قد لا يكون غير وطن أو غير فكرة إله، أو قد لا يكون غير ضمير المجتمع باعتباره قانوناً يخضع له الجميع. فعندما نقرأ :
والعالم بكل آلهته: أخرس
أو عندما نقرأ مقطعاً كهذا :
غنوا لهذا المجيد
أو قولها :
ولا حرج يا ربي سوى أنك تشاهد
وكذلك قولها:
أنت الضخم، حري بألوهيتك – تهوري
والأوضح من ذلك قولها:
الفانيات مني هاكها

لا أفطنها
كونك ربي – ربها
وربما الأكثر وضوحاً في مناجاتها قولها:
يا رب ॥ لك طيورك مداها المشروخ بنداء الوليف


كل هذه التلميحات وأكثر من ذلك لاسيما في المقاطع الأخيرة من قصيدة (إلى أمكنته .. وردة إلى الإله) تنبأنا أن المخاطب في هذا النص هو الإله الواحد الذي يعرفه الجميع، ولكنه بالنسبة إليها إله آخر .. إله شديد الخصوصية، إله يأخذ من فكرة الإله المشاعية الكثير، ولكنها تحلم به فكرة كفكرة الوطن التي اعتبرتها من قبل. هي لا تنسى أنّ الله يعني القانون، ويعني القسر بقدر ما يعني الخلاص والملاذ الآمن، ولكنها في سيرورتها في فنتازياها السحرية، تستشعر مرارة أن يكون هذا الإله مخيفاً إلى الحد الذي يجعلها تخشى مناجاته، أو ربما العكس تماماً هو ما استشعرته.

لا مقدس في اللغة، ولا في المخيّلة الإبداعية، لا مقدّس في العشق بين إله وبين عابد، يهيم بإلهه حباً، لأن القداسة تطيل المسافة بين الحبيبين. أجل إنها علاقة حب لا تتساوى مع المقاييس التي يتعامل بها البشر، وهي في ذلك إنما تسمو على مستواها البشري لتصل إلى حد خرافي، خرافي كخرافية الإلهة نفسه، تسمو فتصبح هي الأقرب إليه، وعندها لا تضير أن تتسامر معه لا أن تناجيه، فيكون مستوى الحديث أقل قداسة كما في قولها:
في صباح، أي صباح
تأخذ الشاي بالحبهان على موائد من أخذتهم
(قوتهم المرة تنز حقول قمصانهم)
هاك فنجاناًً لا يضر


وفي الحقيقة فإن الكلام عن قداسة المجردات والمتداولات في الشعر أو في الأدب عموماً فهو كلام يطول شرحه والحديث عنه، كذلك فإن الكلام عن الأدب الملتزم وعكسه، لا شك أن نص سارة حسبو يتناول جانباً فلسفياً هاماً ينتقل بنا بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، وللخوض في هذه التفصيلة فلا بد أن نعود إلى السؤال الأكثر وجوباً (ما هي الأخلاق؟)

الله في نصوص سارة حسبو، ما هو إلا فكرة للإله الذي تريده ، بغض النظر عن ماهية الإله الحقيقي الموجود في أخيلة المتدينين، هي إنما تحاول أن تصوغ في نصوص نسقاً من العلاقة تنتفي فيه القداسة ليس بدافع إجرامي، إنما بدافع المحبة لا غير. وأرى أنها أجادت كثيراً في مناجاتها تلك في تقديم صورة من العلاقة غير ذات الإطار التقليدي، وهذا بالضبط ما تريد الوصول إليه.

بذات القدر من الجراءة والشفافية التي تتحدث بهما سارة حسبو عن الله وإليه، فهي تتناول مفهومها الجريء والشجاع عن الجسد، لاسيما الجسد الأنثوي الذي تمتع لسنوات وحقب طويلة من القداسة والحرمانية كغيره من التابوهات التي لا يحبذ الناس المساس بها وتناولها بأي شكل إلا رمزاً، ورغم رمزية سارة حسبو إلا أنها تمتلك الجسارة الكافية لتخوض في تفاصيل جسدها، كما يحلو لها، غير أنها لم تنف انتمائها في كثير من الحالات إلى تيار الرمزية، فحتى حديثها عن الجسد ما كان إلا فكرة للجسد. فعندما تقول:
نسلي من عسر هضم الفضيلة
سود
لئام

جوعى تنبت في أفواههم أثدائي
أفواه أكوام غثة
تتدلى من ثوب أم
ثوبي الوحيد
كرات حنان سالمة
طياتها حليب أصفر – بائت
وكذلك قولها في المقطع الثالث:
وإذ تجف أثدائي
أعصرني – أعصرها
تنفجر
يتقاسمون لذة دمي


ولنتأمل ما قالته في مناجاتها لإلهها ذات صرخة:
إشارات الغريزة المكتومة
على شراشف المباغتة
عجولة،
الشراشف أكلت سيقانها
كبد أحباء تأخروا في النسيان
تباطأت رغائبهم
في أسرة الموت


إذن فالجسد ليس للجنس، الجسد هنا قربان لإله ليس كالآلهات، قربان للخلاص والانعتاق. لذا فإن الشهوة والغزيرة تأخذ لذتها من عنفوان الحنين إلى الفكرة الأم، فكرة الوطن المخبأ كأجساد النساء منذ أزمنة الحرملك. ما تحاول سارة حسبو فعله هنا، هو أن تكشف عورة هذه الأجساد، لأن الجسد جغرافيا الحقيقة، لا الأصوات ولا الأسماء ولا الغناءات تدل عليها، إنما تدل عليها الأجساد العارية كما أراد لها الإله أن تكون دائماً.

هناك 24 تعليقًا:

  1. هذا الشكرا والتقدير اقل مايمكن كتابته عن هزا النسانه الراعه .

    ردحذف
  2. الأخت: مي مصطفى
    تحية عاطرة

    بالفعل سارة حسبو شاعرة جيدة جداً، ولها مستقبل كبير إذا سارت على ذات الخطى ... أتمنى لها التوفيق والنجاح

    شكراً لك

    ردحذف
  3. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
    الردود
    1. حقيقة لا شيئ مؤسف غير انني لم اكتشف هذه النافذة إلا الان .
      شكارً لهذا الامتاع ياصديقي

      حذف
  4. تحيه عطره
    حقيقة نصوص موغله فى السحر وتستحق ان يفرد لها حيزا كبيرا فى دواخلنا -للامام الشاعره ساره حسبو

    ردحذف
  5. تحيه عطره
    حقيقة نصوص موغله فى السحر وتستحق ان يفرد لها حيزا كبيرا فى دواخلنا -للامام الشاعره ساره حسبو

    ردحذف