تابع الجميع الحملة المكثفة التي أشعلتها وسائل الإعلام المصرية –ومازالت- تضامناً مع مشجعي المنتخب الوطني وتنديداً بالاعتداءات التي لحقت بهم من قبل مشجعي الجزائر في الخرطوم على خلفية المباراة الختامية المؤهلة لمونديال 2010م وكان للسودان نصيب لا بأس به من هذه الحملة العمياء التي لم تفرّق أبداً بين قريب أو بعيد، حتى أن بعض الإعلاميين غير المسئولين في غمرة اندفاعهم المحموم للنيل من الجزائر والجزائريين راحوا يُطلقون تصريحات انفعالية مفادها أن مصر مستهدفة وأن ما يجري ما هو إلا حملة المقصود منها النيل من الكيان المصري ومن الدور المصري في المنطقة، بل ومن شعب مصر نفسه، وأشاروا إلى توجه عربي عام يهدف إلى إقصاء مصر عن الساحة العربية مشيرين ضمن ذلك إلى نزوع أبناء المنطقة إلى إقامة تكتلات إقليمية منغلقة كما في مجلس التعاون لدول الخليج العربي وتكتل دول الشمال الأفريقي وغيرها من التكتلات، وغرض هذه التكتلات من تحجيم الدور المصري في المنطقة وما إلى ذلك من توهمات خلقتها -في الواقع- نوبة الهياج العاطفي الذي سعى لتأجيجها الإعلام المصري بجدارة. ونسي هؤلاء أن مصر عضو في الاتحاد الأفريقي، وأن أمين عام الاتحاد الأفريقي مصري (عمرو موسى) بل وأن القاهرة هي مقر الاتحاد الأفريقي، وما تزال مصر عضواً في جامعة الدول العربية، وأن أمين عام الجامعة مصري (عمرو موسى) وأن مقر الجامعة في القاهرة! فأين كل هذه الحقائق من أكاذيب الإعلام الأصفر الذي يحاول رسم مخاوف وهمية من نوايا لتحييد مصر وإقصائها وتحجيم دورها؟ بل أين هي القيادات المصرية من مثل هذه التصريحات غير المسئولة والتي تطعن في مواثيق شرف هذه الاتحادات والمنظمات والكيانات العربية الرسمية؟
ونتيجةً للمخاوف الوهمية المُفبركة هذه تهافت عشرات من بسطاء الشعب المصري للاتصال بالقنوات الفضائية المصرية عبر برامجها الصفراء يُعربون عن استيائهم ويتساءلون في حُرقة: "لماذا يكرهنا العرب؟" وهو الحد الذي نجحت وسائل الإعلام المصري غير المسئولة في إيصال الرأي العام المصري إليه عبر نشر هذه المزاعم والمخاوف الكاذبة وعبر تهويل الأمور وإخراجها من نطاقها الضيّق إلى نطاق أوسع بكثير، حتى تدافع الكثير من الشخصيات المصرية عبر هذه القنوات للكلام عن الدور المصري الكبير في المنطقة: سياسياً وثقافياً وفنياً وإعلامياً؛ فهل هنالك حملة ضد مصر فعلاً؟ أم أن وسائل الإعلام المصرية الصفراء نجحت في تحوير القضية إلى هذا الحد لكسب تعاطف الرأي العام المصري؟
إن ما أراه وما أسمعه في كثير من الفضائيات المصرية يجعلني أتساءل كثيراً عن حقيقة ما يجري، وعن علاقة السودان به، وعن علاقة العالم العربي كله بما حدث في الخرطوم؟ لماذا يحاول هؤلاء الإعلاميون المراهقون تصوير الأمر وكأن ثمة حملة عدائية على مصر وعلى الشعب المصري؟ ولماذا ينتقل الصراع من صراع كروي بين منتخبين ثم إلى صراع وطني بين شعبين إلى أن يصل الصراع في نهايته هذا الحد؟ كما أستعجب لإصرار البعض على ترديد وورود اسم (مصر) في القرآن (5) مرات، والحقيقة أن اسم مصر لم يرد في القرآن إلا في (3) مواضع هي كالآتي:
• (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ) (يوسف:21)
• (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف:99)
• (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) (الزخرف:51)
وبصرف النظر عن دلالات وسياقات هذا الذكر في هذه المواضع وعلاقتها أو عدمه بعصرنا الراهن، فإن ما يُدهش أكثر في الأمر هو الخبث الإعلامي حين يحاول الكذب على المصريين أنفسهم عبر إيهامهم بكرامة المواطن المصري داخل مصر، وترديد الآية (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) وكأنهم يتوقعون أن يكون هذا الشعب بلا ذاكرة، ونسوا ما تفعله قوى الأمن المصرية، بل وقوات الشرطة بالمصريين أنفسهم، نسوا أو تناسوا القمع والمهانة التي يجدها المواطن البسيط على يد شرطي المرور في الشارع، أو في أقسام الشرطة، أو على يد رأسمالي وضيع يحميه القانون، أقصد يحميه صُنّاع القانون. وأتساءل إن كانت تخلو البلاد العربية كلها من ذلك؟ هل يأمن أيّ مواطن عربي داخل وطنه؟ هل تتعامل الحكومات العربية مع شعوبها ومواطنيها ورعاياها في المهجر بما تستحقه من احترام فعلاً؟ أشك في ذلك.
في إطار هذا التهويل الإعلامي، أجدني أكفر بدعاوي التوفيق بين الطرفين: المصري والجزائري، ومحاولات التهدئة وحصر الصراع في إطاره الرياضي الضيّق، إلى الإيمان بضرورة أن يظل الصراع بين مصر والجزائر وهو –لاشك- نقلة نوعية خطيرة في الخطاب؛ ولكن إلى الوراء. فمن الخير لنا أن يكون هنالك صراع بين دولتين، على أن يتم تهويل الأمر ليصل حد تصوير الأمر على أنه مؤامرة دولية أو تكالب الدول العربية على مصر وعلى الشعب المصري.
ودعونا ننسى كل ما قيل أعلاه، ولننتقل الآن إلى نقطتين مهمتين –حسب رأيي- تتمثل الأولى في تنامي وانخفاض وتيرة خطاب الإعلام المصري غير المسئول على السودان خلال الأيام القليلة الماضية؛ ففي بداية الأزمة شرعت وسائل الإعلام المصرية إلى تصوير الأمر على تواطؤ مقصود من قبل قوات الأمن السودانية ضد مشجعي المنتخب المصري، وتورطهم في الاعتداءات أو على الأقل في التغاضي عن تلك الاعتداءات، وهو ما جرى على لسان عدد من الإعلاميين، وعبّرت عنه بعض الصحف المصرية كصحيفة اليوم السابع على سبيل المثال، ثم تراجع الأمر بعدها لينتقل من مرحلة الاتهام بالتواطؤ إلى الاتهام بالتقصير، ثم إلى مرحلة الإشفاق من قلّة حيلة السودانيين وقواتهم وقلة إمكانياتهم، ليصل أخيراً الآن إلى مرحلة الوصف بالغدر، كما نقل الكابتن مصطفى عبده (المجري) لاعب نادي الأهلي المصري السابق في قناة دريم (1) إذ قال ما معناه: "إنه لا يجب علينا أن نظلم أخوتنا السودانيين، فالأمر كان أكبر منهم بكثير، فقد وقعوا في مكيدة كبيرة وقد غُدِر بهم مثلنا تماماً"
إذن فثمة نقلة نوعية في تعاطي الإعلام المصري مع السودان ضمن الحملة المُكرسة خصيصاً للهجوم (أو رد الهجوم) على الجزائر، رغم أن التصريحات السودانية الرسمية كانت واضحة وصريحة منذ بداية الأزمة (نهاية المباراة) ورغم وجود تصريحات رسمية من الجانب المصري نفسه، إلا أن الأمر استلزم وقتاً للانتقال من حالة الهجوم إلى حالة اللوم إلى الإشفاق وأخيراً إلى وصفنا بالمغدورين؛ وثمة اعتذارات رسمية وغير رسمية من قبل الجانب المصري للسودان عمّا مسّه من هذه الحملة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: عمّ يعتذر الإعلام المصري بالتحديد؟
إن شرارة الأزمة بين مصر والسودان بدأت منذ اتهام الجانب المصري للسودان بالتقصير الواضح في حماية مشجعي المنتخب المصري في الخرطوم من اعتداءات مشجعي المنتخب الجزائري، وعلى هذا فإن اعتذار الجانب المصري عن ذلك يعني أن السودان لم يتواطأ ولم يُُقصّر على الإطلاق بالقيام بواجبه المنوط به في سبيل حماية الوفود والبعثات الرسمية للمنتخبين بمن فيهم المشجعين، وإذا كانت أجهزة الأمن والشرطة السودانية قامت بدورها على الوجه الأكمل الذي استحق عليه الإشادة من جميع وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وكذلك الإشادة الرسمية من القيادة المصرية فإن هذا يعني بالضرورة أنه لم تكن هنالك أية اعتداءات من أيّ جانب على الآخر؛ وإلا فعلام يُشكر السودانيون؟ فإذا لم تكن هنالك اعتداءات على مشجعي أيّ من الفريقين بدليل هذه الإشادات، وبدليل الاعتذارات المصرية مؤخراً، فما هو سبب هذه الحملة الإعلامية ضد الجزائر؟
ولكي أكون منصفاً، فإن الأمر يجب أن يوضع في مساره الطبيعي، فلابد لمباراة بهذه الحساسية وبهذه الأهمية لكلا المنتخبين أن تتخلله بعض المناوشات من كلا الجانبين، وقد لا أشك في أن بعض المشجعين من كلا الجانبين قد حاول الاعتداء على الطرف الآخر سواء بالملاسنة أو المخاشنة أو حتى بالعبارات النابئة أو الإيماءات غير الأخلاقية، وهذا أمر وارد، ولا ننسى الإيماءات غير الأخلاقية التي قام بها الكابتن إبراهيم حسن في العاصمة الجزائرية وسجلتها وسائل الإعلام وانتقدها الكابتن والإعلامي المحترم أحمد شوبير. ولا أشك أن عمليات تراشق بالحجارة قد تمت بالفعل من كلا الجانبين، ولكن لم يصل الأمر أبداً في كل مستوياته إلى ذلك الحد الذي حاول الإعلام المصري إيهام الرأي العام المصري والعربي والعالمي به، بدليل إشادة المسئولين المصريين وحتى على المستوى القيادة بما أنجزته قوات الأمن والشرطة السودانية؛ فهل من المعقول بعد كل ذلك أن يكون ما يجري الآن من حمى وهوس إعلامي سببه بعض المناوشات؟ هل يُمكن أن يُؤدي تراشق بالحجارة إلى حد النيل من كرامة شعب بأكمله والإساءة إليه علناً، بل وعلى مستوى قياداته العليا؟ لقد تناول الإعلامي مصطفى عبده (المجري) في برنامج على قناة دريم (1) بالأمس يوم الجمعة 20 نوفمبر 2009م القيادة الجزائرية ووصفها بأنهم عبارة عن "عصابات".
إن السؤال الذي يطرح نفسه كذلك طالما أننا وصلنا إلى حدّ الاعتراف بالدور السوداني في تنظيم وحماية مشجعي المنتخبين هو: "هل يُمكن أن يكون هذا الاعتذار اعتذاراً للجزائريين كذلك ولو ضمنياً؟" الأمر واضح وفي منتهى البساطة عزيزي القارئ. فإذا كان هجوم الإعلام المصري غير المسئول على الجزائريين بسبب أنهم قاموا باعتداء على المشجعين المصريين، فإن الشكر الذي قدمته القيادة المصرية والمسئولين المصريين على دور السوداني، والاعتذارات الأخيرة تنفي بالتالي حصول هذه الاعتداءات، وبالضرورة فإن اعتذار وسائل الإعلام المصرية للسودان هو اعتذار (ضمني) للجزائر كذلك.
يصبح الأمر في ضوء كل ذلك مجرّد تصعيد غير مُبرر (أو لأغراض خفية) لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار تجاهل وسائل الإعلام المصرية ما قد يتسبب فيه هذا التصعيد في وتيرة الأزمة من تأثيرات مباشرة على الرعايا والمصالح المصرية في الجزائر. فإذا كانت المصالح غير مهمة –كما صرّح البعض- أفلا يكون أمن وسلامة الجالية المصرية الموجودة في الجزائر ذات اعتبار؟ ألم يُراعي الإعلام المصري هذا الجانب؟
إن كل ذلك يجعلني أقول: إن اتهامات وسائل الإعلام المصرية للمشجعين الجزائريين هي اتهامات باطلة، ولا أساس لها من الصحة غالباً لأن كل المُعطيات تُشير إلى ذلك، فليس من المنطقي أبداً أن تعمد وسائل الإعلام المصرية إلى تصعيد الأزمة مع الجزائر، رغم معرفتهم التامة والأكيدة ببربرية الشعب الجزائري (حسب إدعائهم) مع وجود رعايا مصريين هناك. وتظل هنالك خيوط مؤامرة خافية، وبالتأكيد فإن هذه المؤامرة هي على الشعب المصري البسيط الذي استطاعت وسائل الإعلام التأثير عليه بالعزف على وتر الوطنية والكرامة. فماذا تخفي هذه الحملة الإعلامية على المصريين أنفسهم؟ لابد أن وراء أكمة الجوقة الإعلامية المصرية المسعورة ما ورائها، وأترك للشعب المصري الفطن أن يكتشف ذلك بنفسه. إنه من الواجب ألا نتكلّم عن الشعوب؛ فهي –جميعاً- مغلوب على أمرها، ولكن دعونا نسأل ونتساءل ونحاول فهم ما تفعله حكوماتنا وإلى ما ستقودنا إليه، فللأسف نحن جميعاً كشعوب ضحايا حروب الحكومات ومصالحها، وننساق وراء صراعات من صنعهم بعاطفة الإنسان البسيط والوطني الغيور، ولا أملك هنا الآن إلا أن أرثي لنا جميعاً نحن شعوب هذا العالم الثالث لأنني يبدو في غيبوبة طويلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق