تداولت الأوساط الثقافية الآونة الأخيرة سؤالاً عميقاً عن ماهية الكتابة وضروراته، وهذا السؤال الذي يأتي معبّراً عن مأزق حقبة الحداثوية وما بعدها هو سؤال يثير الشفقة في نفوس المثقفين والكتّاب لأنه يعبّر عن أزمة حقيقية يعيشها الكتّاب والمثقفون الممارسون للكتابة। ولا يأتي هذا الطرح للإجابة على هذا السؤال بقدر ما يحاول تسليط الضوء على أبعاد هذه الأزمة। ومن قبل كنتُ قد ناقشت في مقالي أزمة المثقف العربي بعض الإشكاليات التي تعاني منها الثقافة العربية وتنعكس –بالضرورة- على المثقف العربي।
ويصح الاعتقاد بأن يكون هذا التساؤل مدخلاً مناسباً للعديد من القضايا الثقافية الهامة هو اعتقاد مقبول بل ومنطقي للغاية। إذ أن الإجابة على هذا التساؤل تمكننا لاحقاً من معرفة وتحديد موقعنا من خارطة العمل الأدبي بشكله الواسع. ولكن كيف يمكننا أن نحدد مسئوليات الحداثة وإشكالياتها قبلاً؟
إن الحداثة بتعرفها الساذج والبسيط هو تيار لهدم القديم أو تجديده على أقل التقديرات। ولكن لم يعد الأمر بهذه البساطة لاسيما بعد دخول الحداثة في الفلسفة والأدب. وعلينا أولاً أن نعرف موقفنا من تاريخ الحداثة حتى يمكننا أن نفهم موقعنا منها؛ إذ أننا في سبيل مناقشتنا لقضايا الحداثة نصطدم بجذر أساسي يغفله الكثيرون وهو مادية الحداثة التاريخية، وما لم نستطع أن نحدد موقفنا من ذلك فلن نتمكن من تحديد موقفنا من الحداثة نفسها وبالتالي فلن نتمكن من الإجابة على السؤال الوجودي الكبير: لماذا نكتب؟
ثمة أكثر من اتجاه مادي تاريخي لنشأة الحداثة أقدمها يبدأ من القرن الرابع عشر وتحديداً في العام 1436م مع بداية اختراع الطابعة على اعتبار أن الطباعة أحدثت ثورة ونقلة كبيرتين في عالم التدوين الورقي وانتشاره، فبعد اختراع العالم غوتنبيرغ لآلة الطباعة بالحروف المعدنية المنفصلة شهد التدوين عصوراً أكثر ازدهاراً، ولاشك أن ذلك الاختراع قد أحدث ثورة في عالم الكتابة ونقله من مرحلة المخطوطات وإدخاله إلى مرحلة المطبوعات؛ ولذا فإن مجموعة كبيرة من المهتمين يميلون إلى التأريخ لعصر الحداثة منذ هذا التاريخ وبذلك فهم يربطون الحداثة بالثورة الطباعية أو ثورة الكتابة وتطورها ابتداءً من الكتابة على البردي ثم انتقالاً إلى الكتابة على الجلود ثم استخدام الورق الصيني وانتهاءً بالطباعة المتطورة بشكلها الذي أوجده غوتنبيرغ والذي ساعد في مرحلة لاحقة على ابتكار وسائل طباعة أكثر تقدماً। وبهذا فإنه يحددون ثورة الكتابة كنقطة تحوّل من العصر الوسيط أو العصور الوسطى إلى عصور الحداثة.
ويرى آخرون بأن الثورة الدينية على الكنيسة والتي اشتهرت باسم الثورة اللوثرية في القرن الخامس عشر وتحديداً على يد مارتن لوثر ضد الكنيسة وتحديداً في العام 1520م كانت هي الشرارة الأولى للوعي الأوروبي المنفتح। وهذا هو المشهور في التاريخ، إذ أن أغلب المؤرخين يعتبرون ثورة أوروبا على الكنيسة وتقليص سلطتها كانت البداية الحقيقية لعصور الانفتاح والتنوير كما يُسميها كثير من المؤرخون. ولاشك في أنّ الثورة اللوثرية كان لها إسهام كبير في هذا الجانب، إذ كانت الكنيسة تقمع وبشكل واضح ومؤثر إبداعات المبدعين في جميع المجالات: العلمية والسياسية والفكرية والأدبية، وبذلك فهم يرون أن خلاصهم من هيمنة الكنيسة كانت بداية عهد جديد من الوعي.
وآخرون يؤرخون للحداثة مع منتصف القرن السادس عشر لاسيما بعد انتهاء الحرب العقدية بين الكاثوليكية البروتستانتية والتي اشتهرت باسم (حرب الثلاثين عاماً) التي شملت أوروبا الوسطى ما بين عامي (1618م – 1648م) واشتركت في هذه الحرب مجموعة كبيرة من دول المنطقة: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد। خلفت هذه الحرب مآس لا يمكن لسكان المنطقة نسيانها، فالنهب المؤسس الذي كانت تقوم به الجيوش خلف ورائه مجاعات ودمار وفقر لا يمكن وصفه، الأمر الذي استحال معه وجود حراك أدبي أو ثقافي. لقد شغلت هذه الحرب الكثيرين عن تقديم أيّ خدمة للبشرية غير القتل والدمار وبالتالي فإن أوروبا توقف نموها أدبياً وفكرياً في تلك المرحلة، ولذا فإن ثلة معتبرة من المؤرخين يرون أن توقف هذه الحرب بمعاهدة مونستر الشهيرة أعطى الفرصة للبناء والتنمية وبالتالي الدخول إلى عهد جديد.
ومع هذه الآراء المتباينة في تحديد نقطة التحوّل والدخول في عصر الحداثة نجد أنه من الصعب تحديد مفهوم الحداثة بمعناه الفكري، لأنه في النهاية سيكون مرتبطاً بموقفنا من التاريخ والعملية التأريخية لبداية هذا العصر، دون أن نتجاهل آراء ثلة معتبرة من المؤرخين في تحديد مواقف تاريخية أخرى كنقطة تحوّل حقيقية كالثورة الفرنسية في القرن السابع عشر (1776م) أو الأمريكية (1789م) أو حتى امتداداً إلى القرن الثامن عشر وتحديداً مع ظهور العالم النفسي الألماني سيجموند فرويد وكتاباته في التحليل النفسي والذي يرون أنها كانت تمثل ثورة حقيقية في معرفة الإنسان وانفتاح عقله إلى معالم كانت خفية قبله। ويبدو أنه يتوجب علينا تحديد موقفنا من هذه التواريخ والأحداث حتى نتمكن من تحديد موقفنا من الحداثة.
نعود الآن -بعد هذه المقدمة التاريخية السريعة- إلى سؤالنا المحوري: لماذا نكتب؟ وعلى ضوء هذه المقدمة فإنه يتضح لنا أن الكتابة فعل وجودي ضروري لميل الإنسان إلى تحديد موقعه من عالمه المحيط به، والمشاركة في الحركة العامة لتاريخ البشرية سواء الضيّق أو الواسع। ولكن هذه الإجابة لا تبدو مقنعة للكثيرين، إذ أن ثمة إشكالية محددة في كون الكتابة فعلاً أم ردة فعل. والواقع أن الكتابة فعل وردة فعل في آن معاً متجاوزاً حدود التعريف إلى أن تصبح الكتابة في حد ذاتها إجابة وليست سؤالاً.
الكتابة فعل ذاتي وهو في ذات الوقت فعل موضوعي تماماً؛ فهو ذاتي لأن الإنسان بحاجة مستمرة إلى التعبير عن نفسه، ليس لترف تعبيري أو وجودي وإنما لأن ذلك يُشعر بالرضا عن نفسه ويُشعره بالإشباع الذاتي। يبحث الإنسان دائماً عن التقدير الذاتي لنفسه، وعن الآمان الاجتماعي بمعرفة نفسه ضمن إطار مجموعة بشرية ينتمي إليها؛ هذا الانتماء لا يُحدد مدى اختلافه أو اتفاقه مع المجموعة ولكنه نسق من الحراك التفاعلي بين الإنسان ومجتمعه، وحتى عندما لا يكون الإنسان متوافقاً مع مجتمعه فإنه يظل بحاجة إلى الكتابة ليعبّر عن رفضه لشكل المجتمع وهيكلته وقوانينه وليحدد موقفه من هذه الأشياء. يكتب الإنسان ليعرف نفسه في المقام الأول وليّعرف المجتمع به في المقام الثاني وليعرف مجتمع كمرحلة أخيرة.
ليس هنالك من كاتب واحد يكتب ليغيّر في مجتمعه، حتى وإن كانت كتاباته تتناول نقداً لهذا المجتمع، أو شملت على صيغ ثورية تدعو للثورة، ولكن الحقيقة أن الكتّاب يكتبون من أجل تحديد مواقفهم من التاريخ الاجتماعي بكل تداعياته الاقتصادية والسياسية والدينية والفكرية، وهو لا يسعى أبداً إلى التغيير حتى وإن شملت كتاباته على صيغ ثورية وإنما يُبادر بذلك ليُرضي نفسه في المقام الأول؛ إذ أنه من الصعوبة بمكان ألا تستطيع تحديد موقفك من واقعك قبل البدء بطرح مواقفك النقدية منه أو محاولات الثورة عليه كمرحلة متقدمة। وإذا وُجد كاتب واحد –سواء كان مفكراً أو فيلسوفاً أو أديباً- يعتقد أن كتاباته فقط بإمكانها صنع الثورة، فهو كاتب مثالي وبالتالي فإنه يُمكن اعتباره مثقفاً/ثورياً سلبياً، إذ لا بد أن تتسق كتاباته مع منظومة حركات اجتماعية تُحددها ظروف موضوعية ليحدث هذا التغيّر؛ وعندها فقط يُمكن اعتبار الكتابة فعلاً موضوعياً.
الكتابة وسيلة لتدوين الأفكار -سواء كانت هذه الأفكار أفكاراً أدبية أو علمية أو فلسفية- فهي إذن –أي الكتابة- فعل إبداعي بكل أشكالها। وهذا الفعل الإبداعي إن لم يكن ملهماً كفاية فسوف لن يرتقي ليُصنّف على أنه فعل وجودي أبداً؛ بل ستظل في إطار أنها كتابات ذاتية منفعية. فكتابات كارل ماركس التي أنتجت الثورة الفرنسية وكتابات فرويد التي أنتجت ثورة التحليل النفسي، وكتابات دارون التي أنتج ثورة في فهم الإنسان لنفسه، وكتابات شكسبير التي أنتج ثورة في الكتابة المسرحية والشعرية، وكتابات ماركيز التي أنتج ثورة في عالم الواقعية السحرية، وكتابات جوان كاثلين رولنج التي أنتج ثورة في عالم أدب الطفل وغيرها من الكتابات إنما اكتسبت الخلود لأنها كانت متسقة تماماً مع أغراض الكتابة وماهيته، كما أنها كانت تمثل ضرورة شعبية أو اجتماعية.
إذن فإنه يتوجب علينا التفريق بين نوعين من الكتابة: الكتابة الثورية والكتابة الرومانسية। ولا يمكننا أن نخدع الناس بهذين المصطلحين ليسود الاعتقاد أن الكتابة الثورية لا تعني إلا الكتابات السياسية المصادمة أو تلك التي تدعو إلى العنف، لأن ذلك يدخل من باب السذاجة بلا شك؛ فالثورية في أسمى وأبسط معانيها تعني التغيير حتى وإن كان ذلك التغيير يحدث سلمياً. ولا نعني بالرومانسية الجانب المتعلقة بالانفعالات البشرية والعلاقات الإنسانية فهذا فهم خاطئ لا أريده أن يصل إلى ذهن القارئ، إنما أقصد به ما هو ضد الثورية أي التي لا تسعى إلى تغيير إنما تسعى فقط إلا محاولات خلق تناسق عاطفي بين الكاتب وبين مجتمعه ولا يجرؤ على تعدي هذه المساحة.
وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نرى جنساً من أجناس الكتابة الأدبية كالشعر لا يتعد كونه ترفاً لغوياً رغم احتوائه على جنس من جنسي الكتابة الثورية أو الرومانسية। فتقديس الموسيقى والإيقاع –كأحد أهم أركان الشعر حتى الحر منه- وتقديمه على الأفكار أو حتى مساواته معها لهو ضرب من الترف كما أراه. وأنا بذلك لا أحاول القول بلا ضرورية الشعر، وإنما عندما يأتي الكلام عن الكتابة بشكلها الذي تم تعريفه حتى الآن، يصلنا يقين بأن الكتابة الشعرية لا تتعدى كونها موسقة للأفكار وتليحيناً لها لم يكن لها من ضرورة إنما هو من قبيل لزوم ما لا يلزم. وقد بالغ قسم منهم في هذا الترف فظهر علينا الشعر الغنائي المخصص للغناء وظهرت الموشحات والرباعيات وغيرها مما أعتبره من العبث اللغوي. وأنا أقول ما أقول عن الشعر لا أنسى أبداً ما قدمه الشعر للأدب العربي وما ساهم فيه من نشر الوعي السياسي والاجتماعي وما حمل منه قضايا مصيرية تماماً كما في أشعار الراحل محمود درويش، وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي ومظفر النواب وأدونيس وغيرهم كثيرون ممن كانوا يعبّرون عن قضايا مجتمعاتهم وأمتهم، ولكن الحديث عن ذلك أيضاً يجب ألا يخرج عن إطار جنسي الكتابة الثورية والرومانسية.
يتبقى علينا أن نعرف أن الرهان الحقيقي على الكتابة الجيّدة سواء الثورية منها أو الرومانسية هو الحرية فلا يمكن أن نتوقع كتابة إيداعية في ظل انعدام الحرية، ليس فقط تلك الحرية التي يتم منحها من سلطة خارجية، إنما تلك التي نختلسها من أنفسنا ومن سلطتنا الداخلية، فالكاتب قد يُشكّل سلطة قمعية على نفسه أيضاً، هذه السلطة التي يستمدها بالضرورة من أجواء خارجية غير صحية لا تتوفر فيها أسقف معقولة من الحرية. ويهمني في هذا الصدد أن أوضح أن من يُحدد أسقف هذه الحريات هو الإنسان بما يعتقده عن نفسه وعن دوافعه للكتابة في المقام الأول ثم تأتي المحددات الخارجية الأخرى.
مقال جيد إلا أنني أختلف معك حول أهمية الشعر، فهو ليس مجرّد ترف لغوي كما قلت، إنما هو لا يقل عن بقية الأجناس الأدبية الأخرى. وكان للشعر في فترة من الفترات موقع هام من الأحداث السياسية والاجتماعيةوحتى الاقتصادية كذلك (العصر الجاهلي مثلاً)
ردحذفالأخ أمجد نصر الدين
ردحذفلم أقصد أن أسيء إلى جنس الشعر وأن أغفل دوره الثوري والأدبي الذي لا تخطئه عين، ولكنني فقط حاولت الإشارة إلى المسألة من ناحية لغوية وفنية، لا أكثر.
أشكرك على التعليق وعلى قراءة المقال