الخميس، 12 مارس 2015

"أرض الميت" الضوء الممتد

غلاف الجزء الأول من رواية أرض الميت


لموت ليس إلا فزلكة كونية معقدة لقانون أقل تعقيداً!|
التفتيش عن الجزء الذي سيبقى أبدًا حيًا ينبش في أرضنا العربية حتى وإن بدا للجميع ميتًا منسيًا، تلك هي اللبنة التي اعتمد عليها هشام آدم في نسج خيوط روايته؛ فكما يقول علماء الميثولوجيا: "إن أردت أن تعرف حقيقة تصرف مجموعة من البشر بطريقة غرائبية و شاذة عليك أن تعود بتاريخهم إلى البدايات و تحلل تصرفهم على هذا الأساس اقرأ حكاياتهم الشعبية وستجد حتماً بين أساطيرهم وحكاياتهم القديمة ما يفسر لك ما هم عليه الآن." ذلك هو الضوء الممتد الذي وفر علينا هشام أدم عناء تتبعه ولملمة شظاياه لتفسير كل ما حدث من أحداث أبطال روايته التي برر تصرف أبطالها تبعًا لقاموس الحكايات الشعبية الذي أورثته له الجدة مسكة. سر تسمية هذه القرية بأرض الميت حكايات أسطورية عدة من أبرزها السارية المثيرة للدهشة، هذه السارية الخشبية المنصوبة في الأرض برائحتها النتنة التي لا تشمها أنوف أهالي القرية جميعًا إلا هو بطل الرواية، هذه السارية التي يتبع الأهالي معها سلوكًا يبدو غير مألوف فيعلقون عليها الحيوانات النافقة، فتمضي أحداث الرواية لتكشف النقاب عن السبب الأسطوري وراء هذه السارية، فيما تمضي بنا الحكاية لنكتشف أن الأطفال عندما يموتون تتخطف الجوارح الجائعة أرواحهم في طريقها للسماء، لذا فهذه الأرواح التي تتجسد في الطيور المحلقة في السماء هي الجالبة للخصب والنماء على أهل القرية فيما تفسر لنا إجلالهم الغير مبرر منطقيًا لهذه الطيور.

وفي أرض الميت ستعرف الكثير عن حكاية الفتاة صابر، نبوءة التمتام "ويمكن هيجي من البنات رجال "العلم هو ما يجعل الناس عبيدًا، فإياكم والعلم.. إياكم والعلم." ربما لو سمعت هذا القول المأثور في وصية ميت لقلت إنه يهذي في لحظاته الأخيرة، لكن في أرض الميت كل شيء له مرجعيته بنكهة التجربة الخاصة جدًا لأبطاله المتصلة بخرافات الماضيفيما كان مضمون الرواية توثيقيًا لشكل الحياة النوبية على ضفاف النيل قبل بناء السد العالي، واستخدمت أسلوب سردي متضامن كحكايات ألف ليلة وليلة، لتشق رحم أسرارها ببوح عفوي جدًا جعلنا نتوحد مع أحزان سكان القرية ومخاوفهم جراء بناء هذا السد الذي في أقل أضراره حرمهم من أسطورتهم المعاشة بين جبل "ميمن توو" والنهر حتى جعلنا نشعر بعدائية ما تجاه هذا السد الذي نحمل له فضلًا كبيرًا فيما نحن عليه الآن في مصر.

تنم هذه الرواية عن كاتب يعرف جيدًا كيف يصوغ أحداث روايته التضمينية بحرفية عالية وقد تجلى هذا في تملكه لعقل القارئ الذي لم يمل الغوص في أعماق حكاياته من الحرف الأول حتى الحرف الأخير، وبلغة سهلة وسرد تحليلي عميق للشخصيات المحركة للأحداث وبمبضع جراح ماهر شرح لنا سمات كل الشخصيات التي مرت علينا، وفي شرح اهتم كثيرًا بتفاصيل الحياة النوبية حتى أدخلنا عالمها ببراعة وبساطة في آن لنأكل "التركين" ونعرف ما هو "الشماخ" ونمارس "الهمبيق"، ليجعلنا هشام آدم نصل من خلال روايته إلى حد التوحد مع أبطاله النوبيين بكل تفاصيلهم الحياتية اليومية.

ولم تعفيه بساطة اللغة من عمق الفكرة والاستخلاصات الفلسفية العميقة من واقع الحياة المعاشة كتجربته مع صاحب الناي العم "سَمِل" وترتيبه لأولويات الحياة في زجاجته الفارغة، مرورًا بالحاج "برهان" النوبي وحكايته مع الطب النوبي الذي كان في أغرب تفاصيله الدقيقة التي سردها الراوي يعالج الأورام السرطانية المستعصية حتى على علمائنا حتى الآن بدون جراحة، كما نقرأ في أكثر عبارات الرواية عمقًا: "الهجرة ليست فقط رحيل عن المنازل والأماكن؛ بل انسلاخ من كل شيء، ومحاولة للحياة مرة أخرى. أسوأ شيء على الإطلاق أن تموت صغيرًا، وأن تعيش كهلًا، وأن تنظر إلى الماضي بعين واحدة، وإلى المستقبل بعينين معصوبتين!"

وفي سرد الراوي لحكاية التمتام الذي نكتشف حقيقته في نهاية الرواية يصنع الكاتب صدمة حضارية كبيرة بين هذا الرجل العارف بعلوم الفيزياء الحديثة وأهل أرض الميت الذي يعتبرون ما يقوله نبوءات ساحر ورجل كرامات تصل بهم إلى الحد الذي جعلهم يبنوا عليه، بعد موته، قبة تليق بصاحب المقام الذي ربما تعمد هشام آدم اختلاق هذه الشخصية في الرواية ليفسر أسرار بعض المقامات التي نتبرك بها دون حتى أن نعرف الكثير عن سر أصحابها، ليعري لنا هشام آدم ما نحن عليه من جهل قد يصل بنا لدرجة الهذيان كما كان من أصحاب قريته التي لا تزال حية في عقول البعض بالإصرار على العيش في الماضي ورفض كل ما هو جديد على اعتبار أنه جالب للنحس والخراب.

فيما يعتبر المأخذ الوحيد على هذه الرواية المباشرة أحيانًا التي ربما جاءت أحيانًا لتسوغ للقارئ حقائق عليه الالتفات إليها على لسان الراوي، فيما اعتبره التفاتًا قصريًا لشد الانتباه ليس مقامه القص الأدبي، على الرغم من براعة الكاتب في تطويع تكنيك الالتفات المراوغ في صوغ روايته، فنجده يلتفت عن جهة لينظر في جهة أخرى، ثم يعود متى شاء إلى الجهة الأساسية في تكتيكات لغوية فنية تبث في النص الحركة والمفاجأة والتشويق فيما انتقل في نصه بين مستويات عدة من الخطاب إلى الغيبة، والعكس، ومن الخطاب إلى التكلم والعكس ببراعة كبيرة، وجاءت النهاية غرائبية متسقة مع عالم الرواية الواقعي حد الحلم لتخبرنا أن البطل الذي اتخذ دور الراوي في حكايتنا ما كان سوى مستعيرًا لهذا الدور في الحقيقة وعلى مستوى القص معًا، فهو لم يكن حيث كان هو لم يولد بعد، وما كان حضوره الجسدي في أرض الميت إلا لينبش قبر التمتام كما أخبرته "الخواجية" أو التي يحلو لها تسميتها بالشيطانة البيضاء حيث تأخذ الشياطين ألوان عدة في أرض الميت.

إيمان الشافعي

كاتبة وناقدة مصرية 
---------------------------------

هناك تعليق واحد:

  1. يا حاج هشام السبوبة بتاع الالحاد جايبة همها ولا ايه؟ يعني اجي الحد وتطلع سبوبة معاك
    جاوبني الله يكرمك يا شيخ، الحالة مقشفرة خالص
    بعدين بصراحة انا خايف تطلع اخوان وبردو بتشتغلنا، ما انتو كدة يا اخوان واخدين كل حاجة، ولو ملقيناش ملحدين، تجيبولنا عادي
    منكم لله ربنا يتصرف فيكم

    ردحذف