الجمعة، 30 أكتوبر 2009

رواية بتروفوبيا




رواية مدهشة بتركيبتها وبنيتها ومعلوماتها، يقدمها الكاتب السوداني المقيم في المملكة العربية السعودية، الذي وضع فيها محصّلة غنية ومزيج غريب بطعم مميز وخاص، من المواقف المؤثرة والأفكار الإنسانية والتأملات الفلسفية، البعيدة عن المباشر، والتي تتحاشى التعقيد بالرغم من خصوبتها وغناها.


في صيف عام 2000، بعث "روبن سينجر" المكتئب، الذي يعيش في لوس انجلوس، برسالة إلى صديقته "إيميلي"، يتحدث فيها عن المعاناة النفسية التي لطالما حرص على إبقاءها خارجها، تلك التي كادت تودي به إلى فكرة الانتحار التي لم ينفذها لأنه خشي الألم الذي سيسببه لها، فـ"ما أكثر الذين قرروا التخلص من حياتهم فجأة دون أن يضعوا الآخرين في حسبانهم". كيف يمكن للرجل المفعم بإحساس الرجولة أن يتحمل فكرة أن يكون "عاطلاً ومتطفلاً على النساء!؟"، فروبن "الفاشل" أكاديمياً ومهنياً، كان يعيش على حساب إيميلي التي كانت تتكفل حتى بمصروفه الخاص. كتب لها معترفاً: "أنتِ أجمل الأشياء في حياتي لولا إحساسي المتعاظم بالدونية". لذا وجد في السفر حلاً، بعد أن أجاب نفسه: "أنا أحب الحياة، ولكنني لا أحب حياتي بالتحديد، وهاأنذا أسعى إلى تغييرها"، وسيتوجه بمساعدة صديقه مايكل، للعمل في بلاد العرب (بلاد علاء الدين والسندباد البحري)، بالرغم من خوفه الشديد جراء خلفية الصورة المرعبة عن العرب.

في خليج البترول، سيجد كل تفاصيل الحياة مثيرة للاهتمام: شكل الفئات الورقية للعملة المحلية، واللغة المحكية للعرب الذين "يتكلمون كما يتكلم قطيع الدجاج الرومي!"، وهيئة النساء الغريبة بملاءتهن السوداء التي أرعبته، ومن ثم الخيمة البدوية والمجالس العربية، والثراء الفاحش وغيرها من المظاهر التي لم يفهمها مما جعله يطرح "أسئلة كثيرة عن الفروق بين الشعوب والحضارات".

ستكشف الرسائل التي تبادلها روبن وإيميلي فيما بعد، أسرار وحيثيات مواضيع كثيرة من موقعيهما المختلفين، لتسمح بالحديث عن الحب والمرأة والغيرة والكراهية "التي هي أصل الأشياء ولا تحتاج إلى مبررات أبداً"، والأفكار المسبقة والطموح والمال والفن، خاصة أن روبن كان قد نسي ولعه بالنحت والرسم، وعن مفهوم الغربة خارج الوطن والغربة داخله فهي "شيء لا يمكن وصفه أبداً، وعندما نقول "غربة"، فإننا نتحدث عن شيء غاية في المرارة"، كما بالحديث عن الصحراء والنفط وارتفاع الحرارة وعن المراكز التجارية العملاقة، والعادات والتقاليد والأخلاق العربية من جهة، وعن مظاهر الحياة الأميركية ودوافع تصرفات أفرادها من جهة أخرى، كالتمييز العنصري، وعصابات الأميركيين السود، وقلق الحياة المتطورة المتسارعة ومتاعبها المتنوعة والبطالة، والخوف من الأعاصير.

هل يلتقي المحبوبان المتفقان على الحب وعلى حاجة كل منهما للآخر؟ وأية هيئة سيتخذها القدر ليحرمهما اللقاء؟ وماذا سيحلّ بكل منهما؟. وهل صحيح أنه "كلما كبر الانسان كلما ابتعد عن الحقيقة، وكلما تعلّم شيئا جديداً كلما قلّ رصيده المعرفي، وكلما نضج كلما كان أكثر بلاهة وسذاجة!"؟ يجد القارئ في هذا الكتاب رواية جديرة بالقراءة، ممتعة بأسلوبها وشيقة وغنية في أطرها ومضمونها ومعناها.

الناشر:


إنه لمن المدهش حقاً أن يكتشف الإنسان أنه لا يعرف نفسه، وأنه لا يعرف حتى أقرب الناس إليه، في حين أنه لم يصادقهم إلا لظنه أنه يعرفهم جيداً، ويفهم ما يثيرهم وما يقلقهم وما يفرحهم وما يفكرون به. لا أحد يعرف أحد، هذه هي النتيجة الأولى التي خرجت بها أول الأمر.
الآن تفتحت الأشياء أمامي لأبصرها بعين أخرى، كأنني كنت لا أرى من قبل، أو كأنني كنت أبصر الأشياء بالمقلوب. تدهشنا الحقيقة عندما نبحث عنها، ثم نكتشف أنها هي التي تبحث عنا، وهي التي تجدنا دائماً. نفهم أن الكون يسير وفق خطة متقنة، من دون أن يكترث بعشوائيتنا وتخبطنا، وكل تصوراتنا البلهاء. لأنك حين تعتاد الضجيج، يؤرقك الهدوء!


أفهم الآن سر بعض ما خفي عني، وأتقن حرفة التنصت على الحواس. أعرف أنه لن يفيد كثيراً، ولكن ذلك خير من القول بعبثية الحياة وهيلمان الحظ. كل الأشياء -في هذه الدنيا- متزنة وفي مكانها الصحيح، حتى تلك الفواجع والمضرات، والمصادفات مرتبة أبجدياً ومخطط لها من قبل!







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق