الأحد، 31 مايو 2009

اللص والجلاد في أدبيات الإنترنت

مما لاشك فيه أن الإنترنت –الذي هو سمة هذا العصر- فتح المجال واسعاً لمزيد من التقارب والانفتاح على الآخر بكل أشكاله وأصنافه، وعمل الإنترنت على فضّ احتكارية المعرفة من المجتهدين، ووضعتها طوع بنان الجميع: الراغبين منهم، وغير الراغبين، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى هوان الثقافة والمثقفين (وهذا أمر آخر). وككل ظاهرة مرتبطة بعصر ما، فقد ارتبط موضوع السرقات الأدبية والفكرية بالإنترنت ارتباطاً مباشراً، فبتنا نرى ونسمع عن السرقات الأدبية في كل مكان تقريباً، ساعد على ذلك ما يوفره الإنترنت من سيل المعلومات وإمكانية البحث التي أصبحت أسهل بكثير من بدايات الإنترنت.

ومع انتشار ظاهرة السرقات الأدبية والفكرية، بدأت الجهات المعنية والقانونية تُراجع موقفها من قضية الحقوق الفكرية والملكية، وربما عندها فقط بدأنا نهتم بهذه القضية، ونوليها اهتمامنا. ومما لاشك فيه –كذلك- أن السرقة الأدبية تعتبر عملاً لا أخلاقياً في المقام الأول، وجريمة في المقام الثاني. وهذا المقال لا يحاول أن يُبرر لمثل هذه السرقات، لأنه أصبح من الواضح؛ بل من المؤكد لا أخلاقية هذا العمل.

وربما يُصبح من العسير علينا تناول مسببات هذه الظاهرة، ولكن من الجلي أنّ هذا العمل ينطوي على كمّ من المسوغات المقبولة، وعندما أقول مسوّغ مقبول، فهذا لا يعني نفي الجُرم بالضرورة؛ فالتصارع بالأيدي (مثلاً) عملية، بدائية وهمجية عفا عليها الزمن، ولا يُمكننا قبول عمل كهذا في عصر كهذا، ولكن إذا عرفنا أن عمرو تعدى على زيد بذكر ما لا يُمكن السكوت عنه، عندها تتوافر لزيد مسوغات مقبولة، ولكنها –بلا شك- لا تُعد ميلاً إلى تشريع التصارع بالأيدي بالضرورة.

إن من أهم الأسئلة التي تتناهى إلى أذهاننا في مثل هذه الظاهرة (لماذا يلجأ الآخرون لسرقة كتابات وأعمال الغير؟) والإجابة على هذا السؤال تنطوي على مسوغات كثيرة جداً في الحقيقة، فقد يلجأ أحدنا إلى ذلك عندما يشعر بأن ما سرقه يُعبّر عنه، وعمّا يُفكر به، ربما بطريقة مرتبة أكثر مما كان يُفكر بها، وربما بشكل أكثر منهجية وعلمية، وربما وجد فيما سرقه إجابات شافية لما كان يعتمر في ذهنه، وربما وربما وربما .. إذن أن هنالك ما لانهاية من الاحتمالات والمسوغات التي لا تبرر للسرقة بالضرورة، ولكنها تظل في إطار المسوّغ المقبول على أيّ حال.

يُجرم الإنسان عندما لا يحتفظ بحقوق الآخرين الأدبية فيما ينقله، وهنا بالتحديد تبدو لاأخلاقية هذا العمل، فإذا توفرت إحدى المسوغات الواردة أعلاه (أو غيرها) في الفكرة المسروقة، فلماذا يُنكر السارق حق الكاتب الذي أخذ عنه الفكرة؟ وهذا السؤال يختلف عن السؤال الأول (لماذا نلجأ إلى السرقة الأدبية؟) ففي حين تكمن إجابة السؤال الأولى على مسوغات موضوعية مقبولة؛ يظل إنكار حقوق الغير عملاً لا مبرر له ولا مسوّغ على الإطلاق.

قد ننكر حقوق الغير (المشروعة لهم) لأننا نريد أن نظهر أمام الآخرين في مظهر العارف، وقد نلجأ إلى ذلك من باب احتقار الجُرم نفسه، فقد لا نحمل لهذه الفكرة احتراماً كبيراً، وهنا بالتحديد تأتي أهمية الوعي بالحقوق والقانون، واحترام ذلك قبل كل شيء، فهي متعلّقة بالتربية الذاتية؛ أعني تنشئة النفس على احترام الآخرين، وحقوقهم.

وفي مقابل ظاهرة السرقات الأدبية، نشأت ظاهرة أخرى أعتبرها أغرب منها بكثير، وأكثر بشاعة؛ ألا وهي ظاهرة التصيّد لهذه السرقات، ومتابعتها ومحاولات كشفها وفضحها، وهو العمل الذي أحاول في هذا المقال مناقشة أخلاقيته من لاأخلاقيته. فهل فعلاً كشف السرقات الأدبية وفضح سارقيها عمل أخلاقي؟

إذا قلنا أن دافع السارق ذاتي صرف في سرقته، سواء أحب أن يُلمّع نفسه، أو أنه جاهل بحقوق الآخرين أو غير مكترث بها (على السواء)، فما الدافع وراء البحث الحثيث لكشف هذه السرقات،وفضحها؟ إن قضية اكتشاف السرقات مفيد لصاحب الحق وهو كاتب العمل المسروق، ولكن ماذا يُفيد الآخرين؟

وفي رأيي الخاص، إنه لو كان للسرقات الأدبية والفكرية مسوّغات مقبولة (وغير مبررة)، فإن نزعة الفضح هذه لا مسوّغ لها على الإطلاق، ناهيك عن كونها مبررة. فما الذي يدفع شخصاً ما عند قراءته لنص ما في مكان ما إلى البحث (عبر محركات البحث المنتشرة) للوقوف على احتمالية أن يكون النص مسروقاً أو غير مسروقاً؟ إن هذه النزعة تُعبر –بجلاء- عن أحد أمرين:

أولاً: إما خوفاً من مجابهة الفكرة الواردة في النص المسروق.
ثانياً: انتقاماً، وثأراً شخصياً رخيصاً.

ولا يُمكن التصدي لعمل غير أخلاقي، بعمل لاأخلاقي آخر. قد يتم اكتشاف السرقات الأدبية أو الفكرية بمحض الصدفة، فهذا الفضاء، فضاء رحيب ومفتوح للجميع، ويُصبح متكشف هذه السرقة في هذه اللحظة أمام امتحان أخلاقي كبير؛ إما أن ينجح فيه بنضاله ومقاومته لنزعة الثأر والتشفي، أو لحرصه الأكيد في حفظ حقوق الغير لهم، وهذه الأخيرة قد تتأتى من مخاطبة السارق بطريقة ودّية سرّية وتنبيهه إلى ضرورة نسب الحقوق إلى أصحابها، فإن رفض كان واجباً كشف الحقيقة للآخرين، وليس المسارعة إلى فضح السارق على الملأ.

النص المسروق (أياً يكن) لابد أن يحتوي فكرة، ومن الواجب مجابهة الأفكار بصرف النظر عن صاحبها، فسواء أكان صاحب الفكرة عمرو أو زيد، فإن الفكرة تظل فكرة تشرع للجميع أبوابها لمناقشتها ومجابهتها بفكرة أخرى.

إن من الأمور التي تثير الحنق، أن تتحوّل المسألة إلى لوثة، ونزعة فضائحية تعمل على إلغاء التفاكر تحت دعاوى حفظ الحقوق. ومما يدعو للدهشة حقاً، أن يكون مكتشف السرقة هذا سارقاً لأفكار أخرى، بطريقة أخرى، وكما قلتُ في بداية المقال؛ أنا هنا لا أحاول التبرير للسرقات الأدبية، بل وأعتبرها –بالفعل- عملاً لاأخلاقياً، ولكنني في المقابل أرى أن هاجس مطاردة السرقات، وفضحها بهذه الطريقة: عمل جبان، يُوحي بضآلة مرتكبها، وعدم قدرته على مجابهة الأفكار وتفنيدها، إلا عبر الالتفاف عليها في محاولة رخيصة منه لقتلها بحجة (حفظ الحقوق).

نحن –للأسف- لم نُحسن بعد استخدام التقنيات الحديثة المتاحة لدينا، فالسارق يستغل هذه التقنيات لسرقة جهد الآخرين ونسبها لنفسه، والجلاد يستغل ذات التقنيات ليشفي بها صدره المليء بالحقد للآخرين، والنيل منهم ومن الأفكار التي يسوقونا (حتى وإن كانت مسروقة)، فتضيع الفكرة في غياهب صراع شخصاني أجوف، دون أن تنال حقها من النقاش أو النقد الجاد.

فيا لصوص الإنترنت؛ كفّوا عن السرقة، ويا جلاديه كفوا عن التعاطي مع هذا الأمر بهذه الطريقة. إن الوسيلة التي نختارها لنقل أفكارنا الخيّرة للغير لها دور كبير في إقناعهم بها، ولا يُكره الناس على الخير، أو يُجبروا عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق